نفهم أولاً .. ونتفاهــم

يلفت النظر أن ردود الفعل على تعديلات قانوني العقوبات والإجراءات الجنائية الخاصة بجرائم الرأي، أكبر من الحجم الطبيعي، حتى بدأ الأمر وكان هناك من أعدوا أنفسهم لإشعال الحرائق لأي سبب وعند أول مناسبة، وانتهزوا مناسبة صدور هذا القانون ليجعلوا منه سبباً.. ومع الضجة والانفعال ظهرت مبالغات، وتهويل، ومواقف حادة وانفعالية.. وغابت الدعوة العاقلة إلى إجراء حوار موضوعي وهادئ.. تجلس فيه كل الأطراف معاً.. نقابة الصحفيين.. والمجلس الأعلى للصحافة.. ومجلس الشورى.. لفهم أبعاد وظروف وأهداف هذا القانون الجديد.. وتحديد طريق للخروج من الأزمة التي سببها صدوه.


من حق أصحاب الرأي أن يطلبوا الضمانات والحماية القانونية، بنفس القدر الذي يحق فيه لأصحاب المواقع والوظائف العامة أن يطلبوا لأنفسهم أيضاً الحماية من العدوان على كرامتهم وسمعتهم دون سند أو دليل. ومن حق الصحفيين أن يطلبوا مكانة للصحافة تتفق مع درجة التطور الديمقراطي التي حققها المجتمع المصري، والتي تجعل أصحاب الرأي قادرين على ممارسة رسالتهم ورؤوسهم مرفوعة.


ولكن ليس من حقهم أن يقعوا تحت وهم أن النصوص الجديدة تستطيع أن تغير المناخ العام للحريات، لأن هذا المناخ لا تصنعه القوانين وحدها، ولكن يصنعه في الأساس الدستور، ويرسخ قواعده القضاء الذي أصبح هو السند الكبير لحرية الرأي. ولكي يطمئن الجميع إلى ذلك يكفي أن نشير إلى آخر حكم أصدرته المحكمة الدستورية العليا في نفس اليوم الذي أحيلت فيه النصوص الجديدة إلى اللجنة التشريعية بمجلس الشعب. وهو صفحة جديدة مشرفة للقضاء المصري، ولحراس الدستور، وللمحكمة الراسخة التي أصبحت من مفاخر هذا العصر.. وفي هذا الحكم ما يجعلنا ندعو إلى فهم القانون الجديد.. والتفاهم حوله في ضوء المبادئ العظيمة التي قررتها المحكمة والتي تفوق ما يصدر من أحكام في أعرق الديمقراطيات. وكان الحكم في دعوى طالب فيها عدد من أصحاب المناصب الرسمية بعقوبة لصاحب رأي لأنه وجه إليهم تهمة لو صدقت لأوجبت عقابهم واحتقارهم عند أهل وطنهم، وذلك بأن أسند إليهم تهمة التربح في أعمال وظائفهم في عمليات المناقصات والمزايدات، وقال ذلك بعبارات وألفاظ تصفهم بالسرقة بقصد الإساءة والتشهير.


وفي مثل هذه الواقعة فإن النصوص القائمة في قانون العقوبات قبل القانون الجديد تكفي لمحاكمة صاحب الرأي، وقد طلبت النيابة تطبيق سبع مواد من قانون العقوبات كما طلبت تطبيق مادة قائمة على قانون الإجراءات الجنائية توجب على المتهم في جريمة القذف بطريق النشر أن يقدم للمحقق عند أول استجواب له، وعلى الأكثر في الخمسة أيام التالية، بيان الأدلة على كل فعل أسند إلى موظف عام، أو شخص ذي صفة نيابية، أو مكلف بخدمة عامة، وإذا لم يقدم الأدلة خلال هذه المدة يسقط حقه في إقامة الدليل بعد ذلك. وقررت المحكمة الدستورية العليا أن هذا النص في القانون غير دستوري وحكمت بإلغائه، وضمنت حكمها مبادئ تستحق التأمل لأنها تفيدنا كثيراً عندما نسترد قدرتنا على الفهم.. والتفاهم.


قالت المحكمة أن المصلحة العامة تبيح الطعن على الموظفين العموميين وغيرهم من ذوي الصفة العامة، وفي نفس الوقت فإن المصلحة العامة ذاتها تقضي بحمايتهم من المفتريات التي توجه إليهم نكالاً بأشخاصهم فتصيب الصالح العام من ورائهم بأفدح الأضرار.


وقالت أيضاً أن الدستور يفرض على السلطتين التشريعية والتنفيذية من القيود ما يصون بها الحقوق والحريات العامة، كي لا تقتحم سلطة منهما المنطقة التي يحميها الحق، أو الحرية، أو تمنع ممارسة الحرية بطريقة فعالة، ومع تزايد الاهتمام بالشئون العامة فإن انتقاد أعمال القائمين عليها أصبح مشمولاً بالحماية الدستورية، تغليباً لحقيقة أن الشئون العامة وثيقة الصلة بالمصالح المباشرة للمواطنين، وقد تنتكس بالأهداف القومية أو تتراجع بالطموحات إلى الوراء. ولذلك يجب أن يكون انتقاد العمل العام من خلال الصحافة وغيرها حقاً مكفولاً لكل مواطن، ويجب التمكين لحرية عرض الآراء وتداولها، وعدم إعاقتها، أو فرض قيود مسبقة على نشرها.. وهي حرية يقتضيها النظام الديمقراطي.. وليس مقصوداً بها مجرد أن يعبر الناقد عن ذاته، ولكن غايتها النهائية الوصول إلى الحقيقة، من خلال ضمان تدفق المعلومات من مصادرها، وعرضها في آفاق مفتوحة تتوافق أو تتصادم فيها الآراء لتظهر الحقيقة من الزيف.


أليس في هذه الأحكام ما يطمئن كل صاحب رأي حر ونزيه، إلى أن القضاء المصري بقوته وشموخه هو أكبر نصير، وأكبر سند للحريات بأوسع معانيها، وأن حراس الدستور لن يسمحوا بالتجاوز أو تخطى منطقة الحريات بأي شكل، وبأي ذريعة..؟


ثم أن المبدأ العظيم الذي أرسته محكمتنا الدستورية العليا التي نعتز بها ونرفع بها رؤوسنا هو أن انتقاد الأوضاع المتصلة بالعمل العام لا يمكن أن يحتمل فيها إضرار بأية مصلحة مشروعة، وبالتالي لا يجوز أن يكون القانون أداة تعوق التعبير عن مظاهر الإخلال بأمانة الوظيفة، أو الخدمة العامة، أو النيابة، أو مواطن الخلل في أداء واجباتها.. لأن ما يميز الوثيقة الدستورية أن الحكومة خاضعة لمواطنيها، ولا يفرضها إلا الناخبون وكلما تراجع القائمون – تخاذلاً أو انحرافاً – عن واجباتهم مهدرين الثقة المودعة فيهم، يكون تقويم اعوجاجهم حقاً، وواجبا، مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بالحقوق التي ترتكز في أساسها على المفهوم الديمقراطي لنظام الحكم، ومن المنطقي أن ينحاز الدستور إلى حرية النقاش والحوار في كل أمر يتصل بالشئون العامة حتى ولو تضمن انتقاداً حاداً للقائمين بالعمل العام، لأنه لا يجوز لأحد أن يفرض على غيره الصمت ولو بالقانون!! ولأن حوار القوة إهدار لسلطان العقل.. ولحرية الإبداع والأمل.. وهو في كل حال يولد رهبة تحل بين المواطن والتعبير عن آرائه، مما يكرس عدوان السلطة العامة، ويهدد في النهاية أمن الوطن واستقراره.. لذا فإن انتقاد القائمين بالعمل العام – وإن كان مريراً – يظل متمتعاً بالحماية ا لتي كفلها الدستور لحرية التعبير.


إذا كان هذا الموقف الساطع القوي هو موقف القضاء المصري، والمحكمة الدستورية العليا على وجه الخصوص، ألا يدعونا ذلك إلى أن نهدأ. ونطمئن.. ونفكر.. وندرس.. بالعقل.. وبالمنطق.. لكي نفهم القانون الجديد.. ونتفاهم معاً فيما يمكن عمله.. مادامت ضمانات حرية الرأي أقوى من كل قانون.. !؟

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف