تغيير واقع الفكر العربي أولاً !

ما يحدث بالعرب يستلزم وقفة.. واستراتيجية جديدة للعمل. وفي الواقع العربي سلبيات كثيرة تحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر، وأعتقد أن نقطة البداية في ذلك هي تصحيح مسار الفكر العربي، وإعادة المثقفين العرب إلى المواقع القيادية المؤثرة، وصياغة ثقافة عربية جديدة تتسم بالفاعلية، وتستطيع أن تستشرف المستقبل، وتحشد القوى العربية لبناء هذا المستقبل.


وأهم المشاكل الرئيسية في الواقع العربي الآن أن دور الفكر والمفكرين يتراجع لعدة أسباب، والنتيجة لذلك أن الساحة أصبحت خالية للسياسة والسياسيين وحدهم لتولي القيادة، بينما العكس هو الصحيح والمنطقي، فالفكر هو الذي ينبغي أن تكون له الريادة والأسبقية، لكي يمهد الطريق أمام السياسة.. والمنطقي أن تسير السياسة على الطريق الذي تم إعداده إعداداً جيداً بالفكر أولاً. وليس من الطبيعي ما يحدث الآن في العالم العربي من أن تكون كل المبادرات والتوجهات التربوية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية صادرة من السلطة السياسية، بينما يكتفي المفكرون بالدوران في آفاق نظرية بعيدة عن هذه الميادين الحاكمة ا لتي تمسك بمفاتيح المستقبل، ولقد أدى ذلك إلى ما نلمسه الآن من فقدان الثراء الذي كان في الفكر العربي، والذي كان نتيجة جهد العلماء والمفكرين والمثقفين، وذلك عندما كانوا يقومون بدورهم الأصيل، وهو قيادة عملية تطوير المجتمع وترقية الحياة، وحيرة وتردد وسلبية المثقفين هي السبب الأول فيما نلمسه في الواقع العربي الآن من حيرة وتفكك، وعدم قدرة على اتخاذ مواقف موحدة، ولاشك أن مسئولية قادة الفكر عن انقسام البيت العربي على نفسه أكبر من مسئولية أهل الحكم والسياسة رغم فداحة مسئولية هؤلاء.


يدفعني إلى هذا القول أن قادة الفكر والثقافة في الوطن العربي لم يقوموا بواجبهم وهم يرون الفكر، والعقل العربي، يفقدان الانسجام والوحدة يوماً بعد يوم، دون أن يدفعهم القلق إلى أن يتجمعوا، وأن يتحركوا، وأن يحركوا عقل الأمة، ويستنهضوا إرادتها. كما يدفعني إلى ذلك ما حدث في نصف القرن الأخير من تغيرات على الساحة الفكرية والثقافية العربية، فبعد أن كادت تظهر ثمار الجهود التي بذلها جيد الرواد لإيجاد مساحة مشتركة من الفكر في الحياة الثقافية العربية، شارك المثقفون في نكسة خطيرة، هي تكريس الاختلاف، بل والتناقض، بين الشعوب العربية، ليس في المجالات السياسية المتغيرة بطبيعتها، بل في المجالات الثقافية والعقلية التي تدوم، وتستقر، وتتعمق في خلايا "العقل العام"، ولم يشعروا حتى الآن بخطورة ذلك على المدى الطويل.


وهناك تفسيرات عديدة لمواقف المثقفين كان أشدها ما ‘أعلنه أحد كبار المفكرين العرب مؤخراً من أن الوطن العربي عرف على امتداد تاريخه نوعيات مختلفة من المفكرين مختلفين، لا من حيث التوجهات الفكرية، ولكن من حيث التوجهات الأخلاقية، فكان منهم "الشهداء"، وكان منهم "العملاء"، كما كان منهم "الخوارج" و"المعتزلة".. وكان منهم من تحول وتجول بين هذه النوعيات.. وإن كان مثل هذا الرأي يصدمنا بما فيه من قسوة، لكنه قد يفيدنا في تشخيص حالة الفكر العربي الآن، من حيث رؤية الاختلاف القائم على أنه تهديد للوجود العربي وتكريس الانقسام بدلاً من أن يكون قوة توحيد.


ففي الساحة السياسية العربية هناك الآن تناقضات، وخلافات تصل إلى حد أن أصبح بلد عربي هو "العدو" في استراتيجية بلد عربي آخر، وإلى حد أن الخطر الذي يهدد بعض البلاد العربية من بلاد عربية أخرى، يفوق ما يهددها من غير الدول العربية، وكان المفروض أن يتضح الفرق بين "السياسة" و"الثقافة". فالسياسة تعمل في إطار الحاضر، وظروف اللحظة الراهنة، وتتغير في لحظة أخرى حين تتغير الظروف، أما الثقافة فهي التي يجب أن تتعامل مع "الثوابت" العربية.. والثوابت العربية تؤكد أن الوجود العربي واحد في النهاية.. وأن مكونات هذا الوجود الواحد قائمة، ودائمة، وتتجاوز المناسبات والأحداث العابرة، وترتبط بما هو أكبر وأهم وأكثر ثباتاً. ولا يمكن السماح لعواصف السياسة العابرة أن تقتلع الجذور التي ينبغي أن تكون راسخة.


والمثقفون هم المسئولون عما حدث ويحدث من ضياع فرص لقاء العلماء والمفكرين العرب لقاءات تتسم بالجدية، والعمق، والصراحة، يسمو فيها الحوار عن النزعات السياسية، ويستهدف الجميع غاية واحدة هي ترشيد الفكر السياسي العربي، وإعادة بناء العقل العربي وتحقيق الانسجام والتفاهم في الثقافة العربية ككل، وإعادة المثقفين العرب الشاردين والمتقاتلين إلى ساحة واحدة من أجل الدفاع عن الوجود العربي الذي أصبح مهدداً، وأهم مصادر تهديد هذا الوجود مصادر ثقافية، أقوى وأعمق تأثيراً من المصادر والقوى السياسية، أو حتى القوى العسكرية.. وحتى الآن لم يقم المثقفون العرب بدورهم في إقامة "مظلة" يلتقون تحت سقفها.. ولم يعملوا بجدية من أجل جمع شملهم ليتولوا مسئوليتهم في قيادة الأمة أو للعمل من أجل بدء "نهضة" جديدة ترفعها من منحدر التخلف الذي وقعت فيه، وتنقذها من حالة العجز التي فرضت عليها.


وإن كان هناك اتفاق على سلبية المثقفين، وإلقائهم المسئولية على الأنظمة السياسية، فإنه يبقى أن قادة الفكر بطبيعة تكوينهم هم الذين يجب أن يبادروا إلى العمل قبل غيرهم ودون انتظار دعوة، وهم الذين يجب أن يؤدوا رسالتهم في اتجاه التجمع العربي وليس في تكريس التفرقة، ومن أجل المستقبل وليس من أجل تكرار الماضي، وبدافع البناء وليس الهدم. وإن كان بعض المثقفين يظنون أنهم فعلوا أقصى ما يستطيعون من باب "إبراء الذمة" لمجرد أنهم طالبوا بشهادة وفاة للعرب، أو لأنهم قالوا كلمتهم بعدم جدوى العمل من أجل الوحدة أو النهضة، فإن نشر روح اليأس في الأمة ليس هو الحل، بل هو المشكلة.. والشعوب العربية الآن في حاجة إلى أمثال الأفغاني ومحمد عبده ولطفي السيد وطه حسين والعقاد وأمين الخولي، وليست في حاجة إلى أمثال هؤلاء المثقفين الذين يملئون الساحة الآن بكاءاً ونواحاً، ويحاولون إقناع الجميع بقبول فكرة الانتحار القومي.


وفي مقدمة التقرير الاستراتيجي العربي لعام 1994 يشير الأستاذ سيد يسين في دراسة متعمقة إلى أن الثقافة العربية ستجد نفسها في مواجهة مع ثقافة الصراع الإسرائيلي، وذلك بعد استكمال توقيع معاهدات السلام، والثقافة الإسرائيلية هذه كما في دراسة للدكتور إبراهيم البحراوي تنطوي على مفاهيم تجمع بين مواقف العدوان على العرب وأرضهم والاستهانة بالحق العربي، وبين الاستعلاء على الثقافة العربية، والعداء للتراث العربي.. وهذه الثقافة الإسرائيلية ليست فقط ثقافة عدوانية تخطط لإضعاف مفاهيم الثقافة العربية، ولكنها تمثل العقبة الرئيسية أمام ظهور "ثقافة السلام" في إسرائيل.. وهي الثقافة التي لن يقوم سلام إسرائيلي مع العرب بدونها.. ثقافة تؤكد في الإسرائيليين احترام الحقوق العربية، وتعمل على إعدادهم لقبول فكرة التعايش السلمي مع العرب بعيداً عن التسلط والعجرفة.


وهذا كله يحدد بشكل واضح مسئولية المثقفين العرب الآن. ويدعوهم إلى أن يستيقظوا هم أولاً لكي يوقظوا شعوبهم، وأن يوجهوا ثقافتهم في اتجاه إيجابي وبناء بدلاً من الاكتفاء بالبكاء على الأطلال، وأن يشاركوا في تكوين عقل عربي جديد صالح للتعامل مع الواقع الجديد على المستويين العالمي والإقليمي، وقادر على الحياة في القرن الحادي والعشرين.. فهناك تحديات كثيرة تواجه العرب كأمة وكشعوب بل وكأفراد.. تحديات تمس الكيان والوجود.. وتتعلق بصورة المستقبل ومكاننا فيه.. وإذا لم نعمل لصالح أنفسنا.. فهناك من يعمل ضدنا بهمة ودون كلل.. وسوف يكون نجاحنا أو نجاحه متوقفاً على اليقظة.. والجدية.. من جانبنا.. فمستقبلنا يجب أن يكون بأيدينا نحن.. وليس بأيدي غيرنا. وإذا لم يقم قادة الفكر والثقافة العرب بمسئوليتهم فلن يقوم بها غيرهم، ولن يغفر لهم التاريخ هذا التقصير..


.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف