تناقض المواقف الإسرائيلية

بعد هزيمة يونيو 1967 استطاعت إسرائيل أن تستفيد من مناخ الهزيمة ومشاعر الإحباط في البلاد العربية لتروج صورة إسرائيل على أنها دولة "سوبر" شعبها أقوى وأذكى من غيرهم، وقادتها من الحنكة والبراعة بحيث ينتصرون في كل معركة يخططون لها، وأنها دولة لديها استراتيجية واضحة، وإرادة سياسية موحدة لتحقيق هذه الاستراتيجية. وبعد انتصار أكتوبر 1973 اهتزت هذه الصورة.. وثبت أن ما تروجه أجهزة الدعاية والتأثير النفسي والمعنوي لا يمثل حقيقة إسرائيل.. وبدأ العرب يراجعون مواقفهم، ويتعاملون مع إسرائيل على أنها دولة مثل سائر الدول، ومع شعبها على أنه شعب من شعوب الأرض ليست لديه صفات خاصة عبقرية تعطيه فرصة التفوق، وما يحققه من إنجازات في العلم والصناعة والسياسة ليس إلا نتيجة ما يلقاه من دعم غير عادي من الولايات المتحدة ومن الغرب عموماً.


وخلال الفترة الأخيرة انقشعت سحابة تضليل أخرى كانت تصور إسرائيل على أنها دولة "تعرف ما تريد" ليظهر أنها دولة مصابة بغرور القوة، وواقعة تحت أوهام الشعور بالتفوق، وأنها حتى الآن لا تعرف ما تريد. والدليل على ذلك أن إسرائيل لم تحدد موقفها في الداخل من قضية السلام، ولم تصل إلى اتفاق في الرأي حول الصيغة التي يمكن أن يكون عليها هذا السلام، وعن علاقاتها مع الدول العربية، وإن كانت لديها اتجاهات تنادي بالسلام وتعلن الرغبة في إقراره، واتجاهات أخرى تعمل على العكس من ذلك، بل أن القادة الإسرائيليين أنفسهم تتحرك مواقفهم المعلنة مثل بندول الساعة بين نداءات السلام ونداءات الحرب.


وكما هي العادة، هناك من يرى أن تناقض المواقف الإسرائيلية مقصود، وأنه نوع من الحنكة السياسية، وتوزيع الأدوار، لكي يتعاملوا مع العرب بأكثر من وجه، وجه يبتسم، ووجه متجهم، وبيد توقع اتفاقات السلام ويد أخرى تضغط على زناد المدفع الرشاش لتقتل الفلسطينيين.. ولكن توزيع الأدوار شيء وتناقض المواقف الذي يتعارض مع حقائق الواقع، ويتجاهل احتمالات المستقبل، ولا يهتم ببناء السلام على أساس سليم يضمن له البقاء شيء آخر.


ولقد سمعنا كثيراً عن وفاء الإسرائيليين بوعودهم وعهودهم، ولكننا نرى اليوم عكس ذلك، فها هي إسرائيل تنكص عن تنفيذ الاتفاق مع الفلسطينيين، ولا تنفذ ما التزمت به من توسيع نطاق الحكم الذاتي، وإجراء الانتخابات وإعادة توزيع القوات الإسرائيلية والفلسطينية، وعلى العكس من ذلك تفرض قيوداً على الفلسطينيين في التنقل، وتضيق عليهم فرص العيش، وتحرمهم من التعليم بإغلاق المدارس والجامعات كل حين، وتضع الأسوار لتمنعهم من الحركة، وتزيد من أعداد المعتقلين والمسجونين منهم، وتمارس أسوأ ما يمكن أن تمارسه قوات احتلال بدلاً من أن تقيم جسور "التطبيع" الذي تدعو إليه.


ومن الغريب أن يحدث تبادل للمواقع في وقت قصير، يفيد في كشف هذه التناقضات الإسرائيلية، وعدم وضوح الرؤية لديها في مسألة السلام.. فلقد أصبح العرب هم الذين يطالبون إسرائيل بالسلام، ويقدمون المبادرات، ويحرصون على تنفيذ الاتفاقات معها، بعد أن كانت إسرائيل تشكو في كل مناسبة دولية من أنها تمد يدها للسلام بقلب سليم ونية صادقة وأن العرب يرفضون، والآن هي التي ترفض تحويل السلام من شعار إلى حقيقة.


ولا نحتاج إلى سرد الأدلة على تناقضات المواقف الإسرائيلية التي تعكس اضطراب فكر قادتها، ولا يصلح لتفسيره القول بأن هذه مناورات سياسية بسبب اقتراب موعد إجراء الانتخابات، وحرص حزب العمل على أن يفوز فيها، فهو مضطر للمزايدة على المواقف المتشددة لكتلة الليكود، فهذا التفسير يعني أن سياسة إسرائيل كدولة تخضع للمناورات الحزبية، وللمزايدات الانتخابية، ولمصالح شخصية في الفوز، وكيف يمكن أن يطمئن العرب إلى إقامة علاقات سياسية استراتيجية تمس كيانهم ومستقبلهم على مثل هذه الاعتبارات المتغيرة وفقاً للأهواء والمصالح. وكان المقصود أن يكون هناك مسافة بين مصالح البلد وبين مصالح حزب أو زعيم.. أما أن تكون سياسة البلد خاضعة لمصالح الأحزاب ومناوراتها الانتخابية فإن ذلك يدعو العرب إلى عدم الشعور بالثقة أو الاطمئنان.


ثم أن التناقضات في مواقف إسرائيل من قضية الاستيطان، ومن القدس، ومعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، ومن عدم الجدية في تقديم حلول لإقامة سلام مع سوريا قائم على أقدام حقوقها التي لا يمكن أن تكون موضع خلاف أو مساومة.. كل ذلك يعكس حقيقة، أن بعض الحرب أعطوا لإسرائيل وقادتها حجماً أكبر من الحجم الحقيقي، وعلقوا عليها وعليهم أملاً أكبر مما يمكن لها، ولهم، أن يحققوه.


ولا يكفي أن يقال أن الصلف واللامبالاة وحدهما هما المحركات لرئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين في تصريحاته الأخيرة بأن إسرائيل دولة تعيش بقوانينها هي، وليس بقوانين غيرها، وأنها اتخذت قرارها باعتبار القدس عاصمتها وهي مدركة بأنه لا يوجد بلد في العالم يعترف بذلك، وأن عدم اعتراف دول العالم ومنها الولايات المتحدة بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل هو مشكلة هذه الدول وليس مشكلة إسرائيل. كما لا يمكن أن يقال أن الرغبة في المناورة السياسية فقط هي التي جعلت رابين نفسه يقول في نفس المناسبة أن إسرائيل مازالت ملتزمة بالسلام مع جيرانها، كما لا يكفي القول أن المواقف الإسرائيلية ليست إلا تحدياً للعرب، كما لا يكفي أن يقال أن الولايات المتحدة هي التي تعطي إسرائيل الحق في اتخاذ هذه المواقف بدليل ما كشفته رئيسة الوفد الأمريكي في الأمم المتحدة من أن اغتصاب إسرائيل للأراضي العربية يمكن علاجه بصرف تعويضات لأصحاب هذه الأراضي، مما يؤكد أن الولايات المتحدة تفرغ التصرفات العدوانية الإسرائيلية من مضمونها السياسي لتجعلها مجرد مسألة تعويضات. حقيقة أن الانحياز الأمريكي يعطي إسرائيل قوة، ويسهل لها تحدي القرارات الدولية والخروج على الشرعية الدولية التي تنصب الولايات المتحدة نفسها حارساً عليها في كل مكان فيما عدا إسرائيل. وكل ذلك صحيح، ولكنه ليس كل شيء. هناك عنصر يضاف إليه، هو أن إسرائيل لم تحدد موقفها بوضوح من قضية السم حتى الآن، وليست لديها استراتيجية محددة وواضحة المعالم، ولكنها تعمل بتكتيكات حرب العصابات التي اعتادت عليها طول حياتها والتي تعلم منها قادتها القتال والسياسة معاً. فهي تضرب وتجري وتعلن السلام ثم تعمل عكسه، وتتحرك في اتجاه التطبيع وتنادي به وتسعى إلى تعطيله وتخريببه، وذلك لأنها في الحقيقة لم تصل إلى الخيار النهائي. ولو كان خيارها هو السلام لما سمعنا تصريحات قادتها عن حتمية الحرب على المدى الطويل مع العرب، ولو كان خيارها هو السلام لما كررت العدوان على لبنان من حين لآخر، ولو كان خيارها السلام لما أغلقت المسجد الأقصى في وجه المصلين من المسلمين، ولما اغتصبت دير السلطان من الأقباط المصريين وسلمته لغيرهم رغم صدور حكم قضائي نهائي من محكمتها العليا ببطلان هذا الإجراء.


لذلك أقول أن المباحثات العربية الإسرائيلية لتحقيق السلام ستكون أكثر جدوى لو أن إسرائيل سبقتها بمباحثات مع نفسها، بين أطرافها وأحزابها وقواها السياسية والفكرية لتصل إلى موقف محدد: هل تريد السلام حقاً، بما يترتب على هذا الخيار من ضرورات التسليم بالحقوق العربية، أم لا ...؟


أما العرب فأعتقد أنه آن الأوان ليتوقفوا عن لوم أنفسهم كلما أساءت إسرائيل التصرف، وأن يعدوا أنفسهم للمستقبل بصورة أكثر وعياً وواقعية، وأن يجعلوا استراتيجيتهم للسلام رهناً باستراتيجية إسرائيل باعتبارها الدولة المحتلة لأراضيهم وليس العكس، ويجعلوا سيرهم إلى السلام خطوة مقابل خطوة، وأن يعطوا شيئاً مقابل شيء، وألا يفقدوا الصبر، أو الثقة في أن الزمن لصالحهم، لأن مسيرة التاريخ الإنساني كله لم تشهد دوام الظلم والاغتصاب.. وليس هناك من تعامل مثلنا مع هذه الحقيقة التاريخية.. بل هذه الحقيقة الإلهية .


.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف