الأزمة العالمية و خفافيش الظلام
كشفت الأزمة الاقتصادية العالمية فشل النظام المالى والاقتصادى الذى طبقته الولايات المتحدة، وفرضته على معظم دول العالم.. هذا النظام القائم على الرأسمالية، والسوق الحرة، والعولمة المالية المنفلتة.. كشفت الأزمة أن الرأسمالية لا يهمها شىء سوى تحقيق أطماعها التى لا حدود لها، لتحقيق أكبر قدر من الربح بأية وسيلة حتى ولو بالفساد، والسطو على المال العام، وبالاستغلال.. وهذا ما جعل المفكرين الاقتصاديين يرون أن الحاجة ماسة إلى إعادة بناء النظام النقدى والمالى لربط (الصواميل) التى انفكت، ورسم الحدود بين المسموح به والمحظور، وبين الكسب المشروع والكسب غير المشروع، وعدم ترك الحرية الاقتصادية بدون ضوابط لضمان عدم تغول الشركات الكبرى والحيتان من رجال المال والأعمال، وإلى الحد الذى يؤدى إلى الإضرار بالاقتصاد الوطنى، والاقتصاد العالمى، وحقوق المواطنين.
روشتة البنك وصندوق النقد الدولى قادت بعض الدول إلى الخراب. منظمة التجارة العالمية فرضت على الدول التطرف فى تحرير الاقتصاد والأسواق دون مراعاة مستوى التطور الاقتصادى لكل دولة.
لقد وصلت الرأسمالية المتوحشة - كما يطلقون على الليبرالية الجديدة التى ساقت إدارة بوش والعالم إليها.. ووصلت إلى طريق مسدود.. وسيدفع العالم كله ثمن الأطماع ونهب هذه الرأسمالية التى تمص دماء الشعوب ولا تشبع!
يفسر الاقتصاديون أسباب الأزمة بأن (القراصنة الجدد) أغاروا على الثروات ونهبوا أموال صناديق مدخرات العمال والموظفين الصغار، واستولوا على أموال البنوك، وهددوا الاقتصاد بافتعال أصول مالية وهمية، واغترفوا الأموال هم ومديرو البنوك ورؤساء الشركات. وقد استطاعوا إبعاد الرقابة عنهم، وفى غياب الرقابة يسهل ارتكاب الأخطاء والانحرافات.. فى غياب أو فى إضعاف أجهزة الحراسة على الأموال والأصول والتصرفات يسهل تمرير الجرائم الاقتصادية وغير الاقتصادية.
***
المشكلة أن الولايات المتحدة فى إدارة بوش عملت على فرض السياسة الاقتصادية والمالية على الدول بالضغوط وبالتهديدات، وهدفها أن يصبح العالم خاضعا لفكر واحد هو الفكر الأمريكى، ولنظام اقتصادى ومالى واحد هو النظام الأمريكى، ولقيم اجتماعية واخلاقية وثقافة أمريكية، وعملت أيضاً على فرض أسلوب الحياة الأمريكية (الحرية الفردية، والنهم للثروة، والبقاء للأقوى فى صراع الحياة، والحرية الجنسية وحرية الشذوذ).. وعن طريق (أمركة العالم) يسهل على أمريكا قيادة العالم، وتصبح هى كعبة القادة السياسيين والاقتصاديين ورجال الفكر والثقافة.. أرادت أمريكا بسياسة الفوضى الخلاقة والضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية فرض حضارة واحدة، وثقافة واحدة، وإنهاء عصر تعدد الحضارات والثقافات، وأن يسلم الجميع بقوة واحدة تقود العالم وتتربع على عرشه!
***
ولكن نظام السوق الحر - كما أرادته إدارة بوش المتطرفة - أدى إلى هذه الأزمة التى وصلت إلى إفلاس الشركات والبنوك العملاقة، وإلى تفجر فضائح تردد فيها اسم نائب الرئيس «ديك تشينى» بل وتردد التلميح إلى ضلوع الرئيس نفسه «جورج دبليو بوش» فيها.. منها فضائح شركة «إنرون» وشركة «ووردلر كوم» وصفقات السلاح لحرب العراق وأفغانستان وإعادة إعمار العراق، وسرقة نفط العراق، وعشرات الفضائح الأخرى تنشرها الصحافة الأمريكية ليس هذا مجال ذكرها بالتفصيل.
هذه الفضائح أدت إلى اهتزاز المبادئ الأولية لاقتصاد السوق، مثل الثقة، والشفافية، وأظهرت أن النظام الذى فرضته الإدارة الأمريكية وأدواتها وأهمها البنك الدولى وصندوق النقد الدولى.. فتح المجال للانتهازيين والمغامرين والشركات المتعدية الحدود لاستغلال هذه الحرية حتى إن كثيراً من الأصوات ارتفعت فى أمريكا وفى العالم اعتراضا على هذه السياسة، وعلى سبيل المثال كتب السناتور «جون ماكين» عضو مجلس الشيوخ الأمريكى عن ولاية أريزونا (من الحزب الجمهورى) مقالا فى صحيفة «هيرالدتريبيون» يقول فيه إن الثقة فى الأسواق المالية تدهورت على نحو خطير، ومن الضرورى أن يتحرك الكونجرس والرئيس بسرعة، وقبل فوات الأوان لإجراء تعديلات فى القوانين التى تحكم الشركات والنظام المالى والاقتصادى فى عمومه، لإصلاح كل من نظام العمل فى الشركات ونظام إشراف الحكومة عليها. وكشف السناتور «جون ماكين» أن الشركات تقوم بتزوير أرقام الميزانيات، وتسجل إيرادات وهمية وملفقة، وتخفى حقيقة أرقام المصروفات وأوجه الصرف. كما تخفى حجم خسائرها، وتلجأ إلى حيلة شيطانية هى إنشاء شركات تابعة لتصبح المعاملات والميزانيات معقدة ويسهل إخفاء السرقات والمخالفات، ويتمكن القائمون على هذه الشركات من الحصول على أموال طائلة بأساليب ملتوية، وساعدتهم على ذلك شركات المحاسبة التى تشاركهم فى نهب الأموال مقابل إخفاء الحقائق والأدلة التى تكشف السرقات، وتساعد الشركات الكبرى على التهرب من دفع الضرائب كاملة.
***
وطالب السناتور «جون ماكين» بنظام جديد للرقابة على الشركات وعلى شركات المحاسبة لقطع الطريق على الصفقات التى تتم بينها. وفى نفس الوقت تقدم السناتور «بول ساربنز» بتشريع جديد لإنشاء مجلس مستقل يعمل كوكالة منفصلة عن الحكومة ليقوم بالرقابة المحاسبية وفحص أعمال وحسابات الشركات والحكومة، ويشمل التشريع منع المسئولين والمديرين من شراء أسهم جديدة أو بيع الأسهم التى يملكونها أثناء خدمتهم، لأنهم مطلعون على أحوال وأسرار الشركات مما يمكنهم من التلاعب لتحقيق مكاسب غير مشروعة لأنفسهم.
وطالب السناتور «جون ماكين» بإعادة فحص ثروات جميع المسئولين ومديرى الشركات والبنوك وإجبارهم على رد الأموال الطائلة التى حصلوا عليها بالفساد وبالتلاعب، والحكم جنائيا على كل من يقدم معلومات مزيفة أو يشهد بشهادة مضللة.
***
والفكرة الأساسية التى عبر عنها السناتور «جون ماكين» هى أن ثقة الأمريكيين تزعزعت فى نزاهة التعامل فى السوق الحرة، وفى نظافة يد المسئولين فى الحكومة والشركات، وأن الشعور السائد وصل إلى حد عدم الثقة فى مستقبل الدولة إذا استمرت هذه الأحوال، واستمرت القيادات فى خيانة الأمانة والقيم والمبادئ التى يفترض أن يقوم عليها نظام رأسمالى صحى ومزدهر.
***
هذه المراجعة لثغرات نظام الاقتصاد الحر فى قلعة الرأسمالية والسوق الحرة تثير السؤال على ما يمكن أن تعمله الدول الأخرى التابعة لقيادة أمريكا.. وهى أقل ثراء واقتصادها أقل قوة وبعضها يعانى من زيادة السكان ونقص الموارد وزيادة الفقر.. هل تستمر على نفس المنوال بينما يسعى أصحاب سياسة السوق الحرة إلى إعادة النظر فى هذه النظرية والتراجع عنها وإدخال إصلاحات جوهرية عليها، أو أن على هذه الدول التابعة الإسراع فى تعديل مسارها وفقا لتحول البوصلة فى الاقتصاد والسياسة فى أمريكا بعد تفاقم الأزمة وصعود أوباما بفكر مختلف.. هل تسارع هذه الدول إلى وضع ضوابط ورقابة صارمة لحماية اقتصادها وشعوبها أو تترك الفساد والفوضى والأطماع تنهش كيانها الاقتصادى حتى تصل الأزمة إلى الحد الذى لا يمكن أن تحتمله ولا يمكن علاجه..فاقتصاد أمريكا يحتمل هذه الأزمة ويقدر على معالجتها مهما يكن ذلك بحلول صعبة وتضحيات مريرة، أما اقتصادات الدول الأخرى فلا تستطيع تحمل النتائج المدمرة إذا تصاعدت هذه الأزمة واستمرت طويلاً.
***
حتى فى أمريكا يرون أن الحل ليس فى الرجوع عن السوق الحرة، ولكن فى الرجوع عن الأسلوب الذى تدار به هذه السوق الحرة. الحل هو تقوية أجهزة ونظم الرقابة والمحاسبة على الحكومة والشركات وأصحاب الأعمال مع ملاحظة أن الذين يعملون فى الظلام يكرهون أجهزة الرقابة والمحاسبة والنظم التى تسلط الأضواء الكاشفة على انحرافاتهم وتلاعبهم.. أضواء الرقابة تظهر ما يريدون إخفاءه ويكرهون القوانين التى تحاسبهم على الكسب غير المشروع والدرس الذى يعترف الأمريكيون بأنهم تعلموه من الأزمة هو أن الحرية الاقتصادية بدون رقابة ومحاسبة وقوانين عقابية صارمة، ومحاكمات نزيهة وعادلة.. سوف تؤدى الحرية الاقتصادية حتما إلى الخراب المستعجل.. والحمد لله أننا لم نقع فيما وقعت فيه أمريكا كما يؤكد الدكتور يوسف بطرس غالى وزير مالية مصر ورئيس اللجنة الاقتصادية فى صندوق النقد الدولى ومقرها فى أمريكا.. فهو يؤكد أن كل شىء تمام، والشفافية متوفرة، واحترام أجهزة الرقابة والمحاسبة قائم، وحسابات الحكومة والشركات ورجال الأعمال سليمة مائة فى المائة.. أفلح إن صدق.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف