نحن و الأزمة العالمية
خبراء الاقتصاد فى الولايات المتحدة وفى أوروبا- وفى مصر أيضا- يرون أن الأزمة الاقتصادية تزداد وأنها تنتشر وتعم جميع دول العالم دون استثناء ولن تنجو منها دولة فى الشرق أو الغرب ويحذرون من استمرار دراويش الرأسمالية والاقتصاد فى ترك الاقتصاد دون تدخل الدولة للسيطرة على تداعيات الأزمة والتقليل من آثارها الخطيرة.. بعض المسئولين عندنا مازالوا على إصرارهم بأن المسألة بسيطة ولا تستحق كل هذا الذعر بلا مبرر!
فى الولايات وأوربا يقولون إن هذه الأزمة نشأت بسبب فشل النظام الرأسمالى وترك الحبل على الغارب لرجال المال والأعمال ليفسدوا اقتصاد السوق وينهبوا الأموال بالطرق المشروعة وغير المشروعة، ويتلاعبوا بقوانين الاقتصاد الحـر.
ويعلن بعض المفكرين الاقتصاديين أن هذه الأزمة تهدد النظام الرأسمالى وقد تؤدى إلى انهياره- كما انهار النظام الشيوعى- أو على الأقل ستؤدى إلى سقوط النمط الجديد لإدارة الاقتصاد الحر الذى ساد فى الولايات المتحدة والذى يطلق عليه "الليبرالية الاقتصادية الجديدة" وفيه يطلق العنان للرأسماليين وترفع الدولة يدها عن إدارة الاقتصاد وتتخلى عما تملكه من أصول يمكن أن تساعدها على ضبط السوق وإعادة التوازن إليه عندما يختل هذا التوازن. فى هذا النظام أصبحت الدولة بلا أسلحة وكل الأسلحة فى يد أصحاب الأموال والأعمال.. هذه الليبرالية الاقتصادية الجديدة سيطرت على الاقتصاد الأمريكى وعلى اقتصاد دول أخرى، بينما رفضتها دول- مثل فرنسا- وعندنا فى مصر دراويش يروجون ويتحمسون لهذه الليبرالية الاقتصادية الجديدة وينادون بأن تبعد الدولة نفسها عن إدارة الاقتصاد، وتتخلى عما تملكه من أصول وتبيعها بأبخس الأسعار وتبدد الثمن فى الانفاق الجارى وتترك المستقبل على الله!
***
وكل يوم يتضح أن حجم الأزمة مخيف، ففى الولايات المتحدة أصبح معلنا أن العجز فى الموازنة الذى ورثه الرئيس الجديد باراك أوباما عن إدارة الرئيس الرجيم جورج دبليو بوش بلغ ترليونا و300 مليار دولار. ومع كل محاولات أوباما لخفض هذا العجز فقد أعلن أنه لن يستطيع- مهما فعل- أن يخفض أكثر من نصف هذا العجز ليصبح 533 مليار دولار، ولكى يحقق هذا لجأ إلى خفض الاعتمادات المخصصة للحرب فى العراق، وإلى زيادة الضرائب على كل من يزيد دخلهم على 250 ألف دولار سنويا. ومدت أمريكا يدها إلى الصين التى تملك أكبر احتياطى نقدى فى العالم، وذهبت وزيرة الخارجية إلى بكين تستنجد بها وتطلب من الصين شراء سندات الخزانة الأمريكية لتساعدها على مواجهة تزايد ديونها الخارجية وخفض العجز فى الموازنة وانعاش الاقتصاد، ولإقناع القادة الصينيين ربطت بين مصالح الصين ومصالح أمريكا فقالت نمى وهى تغادر بكين: "بكل وضوح سنخرج معا من الأزمة الاقتصادية او سنسقط معا".. مع العلم بأن الصين تمتلك حاليا سندات على الخزانة الأمريكية بلغت قيمتها 696 مليار دولار، والعجز فى الميزان التجارى بين الصين وأمريكا بلغ مئات المليارات لصالح الصين.
ويقول المعلنون إن الأزمة أثبتت فشل النظام الاقتصادى الأمريكى الذى وصل إلى ما يسمونه الرأسمالية المتوحشة، وصمود الاقتصاد الصينى التى ظلت متمسكة بنظامها الاقتصادى القائم على تدخل الدولة وتملكها للأصول التى تجعلها قادرة على التحكم فى توجيه الاقتصاد، وعلى استمرار التنمية بمعدلات مذهلة وتنفذ خططها الخمسية بمنتهى الدقة وتغزو أسواق العالم بمنتجاتها المتنوعة والرخيصة، وذلك بفضل سياستها الاقتصادية التى تسميها اقتصاد السوق الاشتراكى.
***
وفى نفس الوقت عقدت عدة اجتماعات لدول العالم على أعلى مستوى للبحث عن وسائل لإنقاذ الاقتصاد العالمى. فى برلين عقد اجتماع مستوى القمة لرؤساء ومحافظى البنوك المركزية فى دول أوروبا، وانتهى إلى الاتفاق على التشدد فى تطبيق القواعد الخاصة بالتحكم فى الأسواق المالية وعدم ترك الساحة الاقتصادية والأسواق "سداح مداح". وفى تايلاند اجتمع وزراء مالية الدول الأعضاء فى منظمة دول جنوب شرق آسيا التى تشارك فيها اليابان والصين وكوريا الجنوبية واتفقوا على زيادة المبالغ المخصصة لصندوق مساعدة هذه الدول فى حالة الطوارئ بحيث تصل مالية الصندوق 120 مليار دولار، واتفق وزراء المالية أيضا على عقد قمة يحضرها رؤساء هذه الدول لاتخاذ قرارات على أعلى مستوى لمواجهة الأزمة.
وبدأت حالة الكساد تصل إلى قمتها فى الولايات المتحدة، وفى التقارير الصحفية أن مدينة الأثرياء والفنانين المشهورة بأغلى وأرقى المحلات، وكذلك ولاية كاليفورنيا أغنى الولايات المتحدة أصبحت المتاجر فيها خالية من المشترين مع أن واجهاتها تغطيها اللافتات التى تعلن عن تخفيضات مذهلة حتى أن بعض المحلات الكبرى لبيع الملابس تخفض أسعارها بنسبة 85% مما يعنى تحمل أصحابها لخسائر بالغة. ومع ذلك لا تجد من يشترى. وتقول الصحف الأمريكية إن ما يحدث فى هذه المنطقة الغنية يحدث أكثر منه فى بقية المناطق، وانخفاض المبيعات خسارة مزدوجة: خسارة لقطاعى الصناعة والتجارة، وخسارة للحكومة لأنه يعنى انخفاض الضرائب حتى فى المناطق التى تزخر بالأموال. وأكثر من ذلك فإنه بدلا من زيادة الإنفاق التى تشجع الحكومة المواطنين عليها لتنشيط السوق، زاد الطلب على القروض من أصحاب الأعمال على البنوك وشركات الأموال لتغطية الرواتب والبقاء على قيد الحياة! ركود.. وكساد.. سحابة سوداء تظلل سماء الحياة الاقتصادية فى أمريكا وانتقلت منها إلى جميع الدول.
***
فى ألمانيا نشرت مؤخرا دراسة حكومية أظهرت أن ديون الدول الصناعية والدول النامية ازدادت إلى درجة خطيرة ووصلت إلى ثلاثة تريليونات و400 مليار دولار وسوف تزداد أكثر من ذلك، وأن آثار الأزمة على الدول النامية ستكون مأساوية، ودول مثل رواندا ومالى والسودان وأثيوبيا على وشك أن تصل إلى العجز عن الوفاء باستحقاقات الديون التى عليها، ومع ذلك فإن هذه الدول- وأمثالها- تطلب الحصول على قروض أخرى بفوائد أعلى، ويضاف إلى ذلك أن الدول الكبرى تلجأ الآن إلى دعم صادراتها وبذلك تزداد الصعوبة أمام الشركات المنافسة فى الدول النامية.. والحصول على القروض ليس سهلا.. الصين هى أكبر الدول القادرة على منح القروض فى ظل هذه الأزمة، ولكنها لا تمنح القروض إلا للدول التى تهمها استراتيجيا.. والبنك الدولى لم يستطع تدبير أكثر من 100 مليار دولار لإقراض الدول النامية وهى لا تكفى لسد احتياجات هذه الدول لمعالجة أزمتها وتخفيف حدة الأزمة على شعوبها.
***
ينادى البعض فى أمريكا بتأميم البنوك والشركات الكبرى المتعثرة كليا أو جزئيا لإنقاذها من الإفلاس بعد أن انهارت أسهمها وحقق بنك أوف أمريكا خسائر لأول مرة فى تاريخه، كما خسرت مؤسسة ميرك لينش- أكبر مؤسسة استثمارية عالمية- 15 مليارات و31 مليون دولار فى ثلاثة شهور، وخسر بنك سيتى جروب 28 مليار دولار فى 15 شهرا، مما اضطر الحكومة إلى التدخل ويدرس البنك الفيدرالى تأميم عدد من أكبر عمالقة المصارف، كما قررت الحكومة وضع نظام مصرفى خاص تديره الحكومة وإعادة هيكلة صناعة السيارات وضخ مليارات الدولارات لإنقاذها من الإفلاس وتسريح عشرات الآلاف من العاملين.
وفى اليابان- يأتى أكبر اقتصاد فى العالم- خصصت الحكومة 109 مليارات دولار لإنقاذ اقتصادها من الكساد.
وفى بريطانيا- أقوى اقتصاد فى أوروبا- قررت الحكومة اقتراض 148 مليار جنيه استرلينى لتسيير شئون الدولة، والمتوقع أن تقترض العام القادم 186 مليار جنيه استرلينى، وأعلنت أن عدد العمال الذين سيفقدون أعمالهم سيصل إلى 3 ملايين عامل، وأن 40 ألف بريطانى تم نزع ملكية منازلهم و75 ألفا آخرين سيتم نزع ملكيتهم خلال هذا العام لعجزهم عن سدار قروضهم العقارية.
هذا ما يحدث هناك.. فماذا سنفعل هنا.
هذا هو السؤال.