((الفجوة العلمية)) .. إلى متى ؟!

بعيداً عن قضية رفض إسرائيل الانضمام إلى اتفاقية حظر الانتشار النووي في الوقت الذي تضغط فيه أمريكا على دول العالم للتوقيع على تجديدها.. تبقى القضية الأصلية، وهي مدى ما حققته إسرائيل من تقدم علمي وتكنولوجي بمساعدات مستمرة من أمريكا وأوروبا، بقصد أن تظل "الفجوة العلمية" قائمة، وتزداد اتساعاً بين إسرائيل والعرب، ويقودنا ذلك إلى إعادة النظر في موقف الدول العربية منفردة ومجتمعة في التخطيط والإعداد لتضييق هذه "الفجوة العلمية" التي تجعل العرب يعيشون في عصر مختلف عن العصر الحاضر، ويشغلون أنفسهم بما فرغ العالم من بحثه، ويدورون حول أنفسهم في إعادة وبعث الجانب الثقافي الأدبي واللغوي من تاريخهم وتراثهم، وإغفال ما في تاريخ العرب من إنجازات علمية كانت هي أساس الحضارة الغربية.


وإذا أضيف إلى ذلك الدلالات العلمية للقمر الصناعي الإسرائيلي الذي أطلقته مؤخراً في الفضاء للتجسس على سوريا وإيران والعراق ومصر فسوف نجد أنفسنا أمام هذه "الفجوة العلمية" بسؤال لن يكون أمامنا وقت طويل للتفكير فيه، لأن أحداً لن ينتظرنا، ويوقف تقدمه إلى أن نجيب عنه، ونتخذ فيه القرار ونحول القرار إلى عمل. السؤال هو: متى نبدأ وبجدية في تضييق هذه الفجوة العلمية، ولدينا إمكانات ليست قليلة، ولن نبدأ من الصفر، وعندنا عشرات من مراكز البحث العلمي، فيها علماء يتمتعون بمقدرة وسمعة عالمية، ولا ينقصنا للانطلاق إلا أن نعمل بحزم لتوفير ثلاثة عناصر ضرورية: أولها التنسيق بين مؤسسات ومراكز البحث العلمي التي يعمل كل منها في واد مستقلاً ومنعزلاً ولا يعلم ما لدى الآخرين.. وثانيها: التمويل، لأن البحث العلمي أصبح مكلفاً، ومن لا يوفر له احتياجاته الحقيقية وبالكامل لن يجني الثمار ولن يعبر الفجوة العلمية بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة، أما العنصر الثالث فهو إعداد جهاز جديد للترجمة يتولى نقل المراجع والتقارير والأبحاث الأساسية الجديدة، لأن التقدم العلمي يتم الآن في أوروبا وأمريكا واليابان والصين، والأبحاث العلمية المهمة منشورة بلغات متعددة، ولم يعد من السهل اللحاق بكل ما يصدر وما ينشر منها.. ويكفي أن نعرف أن إسرائيل بدأت منذ عام 1960 بتنفيذ برنامج علمي مهم باسم "البرنامج الإسرائيلي للترجمات العلمية" وخصصت له ميزانية سنوية خيالية، بدأت بثلاثة ملايين دولار وتضاعف الرقم بعد ذلك إلى عشرات المرات، وبدأ المشروع في مبنى من ستة طوابق وأصبح الآن من أهم مؤسسات الترجمة في العالم، فهو ينشر ما يزيد على مائتي كتاب علمي متخصص جديد بالإضافة إلى ترجمة الأبحاث العلمية الحديثة ووضعها تحت تصرف العلماء الإسرائيليين في مراكز البحث والمعاهد الجامعية.. وبدأ المشروع وفيه 400 مترجم بينهم عدد من العلماء ينقلون إلى اللغة العبرية ما يصدر في 80 دولة في العلوم الطبيعية والبيولوجية والكيمياء والجيولوجيا والهندسة والهندسة الوراثية... إلخ


وفي أول اجتماع للوزارة الحالية برئاسة الرئيس حسني مبارك ركز الرئيس على واجب هذه الوزارة في دعم مراكز البحث العلمي لكي تسهم بدور أكبر في التنمية، وطلب الرئيس زيادة الطاقات العلمية في مصر من خلال الانفتاح على مراكز البحث العلمي في الدول المتقدمة، والعمل على أن تتعاون العقول المصرية مع علماء العالم أياً كانت جنسياتهم أو دولهم ليتابعوا أحدث البحوث التي تسهم في تطوير الأداء المصري، وشدد الرئيس على الإسراع بتحقيق التعاون والتنسيق بين مراكز البحث العلمي، وبينها وبين المصانع ومواقع الإنتاج المختلفة.


ولأول مرة عكست خطة التنمية الثالثة (1992-1997) الاهتمام بالبحث العلمي وتضمنت برامج للنهوض به وقررت خطة الدولة أن البحث العلمي والتكنولوجي أصبح من أهم وسائل تحقيق التنمية، وأنه لا يمكن تحقيق دور البحث العلمي والتكنولوجي بالصورة الواجبة دون أن يتحقق التفاهم والتنسيق بين الهيئات المختلفة لتنفيذ خطة واضحة، تتوزع فيها الأدوار.. وفي الشهور الأخيرة شكلت لجنة عليا للنهوض بالبحث العلمي برئاسة رئيس الوزراء.. لكن الخطوات مازالت أقل مما هو مطلوب إذا وضعنا في الاعتبار أن الزمن عامل حاسم.. وأننا في سباق مع الزمن.. وكلما خطونا خطوة حقق غيرنا خطوتين.. وربما كان تقدمنا سيراً وتقدم غيرنا قفزاً..


وقد طرحت وزيرة البحث العلمي الدكتورة فينيس كامل تصوراً متكاملاً لتحقيق التوظيف الأمثل لمنظومة البحث العلمي والتكنولوجي لخدمة متطلبات التنمية حددت فيها كيفية الربط بين مؤسسات البحث العلمي في مصر ومثيلاتها في العالم، وباحتياجات مواقع الإنتاج والخدمات المختلفة، وما تحتاجه "النهضة الشاملة" من تمويل، وكوادر علمية، وتجهيزات ومعامل، ومراجع.. إلخ لكي تصل إلى ما هو مطلوب منها، وهو تقديم رؤية وفكر علمي لحل المشكلات القائمة في كل قطاعات الإنتاج، وتحسين نوعية الحياة، والصحة، والبيئة في مصر، ومتابعة التطور العلمي والمشاركة فيه.


وإن كان الطموح في الورقة التي قدمتها وزيرة البحث العلمي يبدو كبيراً، إلا أن كل ما تطرحه في حدود الممكن، فقط يحتاج إلى وقفة وحسم.. وإعادة تنظيم البحث العلمي، وتحديد المسئوليات والاختصاصات فيه، وتوفير القدر المعقول من التمويل الذي يسمح بالعمل المنشود، وتحرير مراكز البحث العلمي من التعقيدات الإدارية واللوائح الحكومية، وبلورة مفهوم موحد للعمل، وإيجاد صيغة للتنسيق والتكامل بدل التكرار والانعزالية التي وصلت إليها مراكز الأبحاث نتيجة تعدد الوزارات وجهات الإشراف .


هذه الوقفة الجادة لابد منها الآن لكي نحل مشاكل جوهرية قائمة تعوق البحث العلمي، مثل ضعف الروابط بين مراكز البحث العلمي وبينها  وبين مواقع الإنتاج والخدمات وهذا أمر غير طبيعي وغير معقول.. ومثل ابتعاد مض مراكز البحث العلمي عن الأولويات التي تستهدفها الدولة وبالتالي لا تحقق هذه المراكز ما هو مطلوب منها.


ولقد أعدت وزيرة البحث العلمي إطاراً عاماً لدراسة مستقبل مراكز ومعاهد البحوث التابعة لوزارة البحث العلمي، ولكن هناك عشرات المراكز لا تتبع وزارة البحث العلمي وبالتالي لا تدخل في هذا الإطار.


باختصار، أن مشاكل البحث العلمي كثيرة.. وأكبر من أن يحلها وزير واحد، أو وزارة واحدة، ولكنها مسئولية الحكومة كلها، بكل وزرائها، وكل وزاراتها، ولن يتحقق ذلك إلا إذا أصبحت قضية تضييق "الفجوة العلمية" هدفاً قومياً استراتيجياً يتضح فيه مدى ارتباطه بالأمن القومي من ناحية وبدور ومكان مصر في المستقبل من ناحية أخرى.


.



جميع الحقوق محفوظة للمؤلف