المسئولية الشعبية عن التعليم

منذ أيام شهدت السيدة سوزان مبارك احتفالاً بانتهاء إقامة مائة وسبع عشرة مدرسة جديدة من تبرعات المصريين بعد الزلزال.. وكان الاحتفال مظاهر حب لمصر أمام دليل حي، وشاهداً يجسد قدرة المصريين على المشاركة الشعبية المنظمة لإعادة بناء بلدهم، والإسراع بخطي التنمية، وعلاج كثير من أوجه النقص في الخدمات، ودليلاً على بلورة مفهوم "المسئولية الشعبية ع ن التعليم" الذي يعبر عن نضج حضاري له أهميته.


وفي هذا الاحتفال قامت حرم الرئيس بتكريم بعض الشخصيات التي قامت بهذا المشروع الكبير سواء بالتبرع بالمال، أو بالجهد، أو بالفكر، وكان ذلك إشارة إلى أن المدارس الجديدة هي رموز، لها قيمة معنوية تفوق قيمتها المادية، لأنها تعلن بداية طريق جديد يشعر فيه كل مصري بأنه مسئول مسئولية مباشرة عن تقديم يد العون لمن يحتاج إلى العون، وأن تجمع المواطنين حول مشروع قومي كبير مثل بناء مدارس جديدة هو صفحة في تاريخ النهضة تضاف إلى صفحات سابقة مشرفة من بناء جامعة القاهرة بتبرعات المصريين، وبناء عشرات المستشفيات، وآلاف المساجد، والأندية، ورصف طرق في القرى.. وغير ذلك من مشروعات في القاهرة والمحافظات يزيد حجمها على 500 مليون جنيه في العامين الأخيرين.


وبعد نجاح تجربة الحشد التي قادتها السيدة سوزان مبارك لبناء كل هذه المدارس، أصبح من الممكن التفكير في استمرار السير على هذا الطريق، والتوسع في جذب الفئات المشاركة حتى لا تقتصر على رجال الأعمال وأصحاب الثروات وحدهم، ولكن بأن تتاح الفرصة للطبقة المتوسطة التي تشعر بمسئوليتها الاجتماعية لتسهم بقدر استطاعتها في بناء مزيد من المدارس، بعد أن تكشفت الحقائق، وهي أن الدولة وقد قامت ببناء 1500 مدرسة، وضاعفت ميزانية التعليم ثلاث مرات، إلا أن حجم المشكلة أكبر، لأن المدارس التي نحتاجها لتحسين نوعية التعليم والارتقاء به، تصل إلى خمسة آلاف مدرسة، وليس في هذا الرقم مبالغة، إذ علمنا أن في مصر 25 ألف مدرسة ثلثها على الأقل غير صالح، أو آيل للسقوط.


وأمام مشكلة تضخمت حتى وصلت إلى هذا الحد لم يعد ممكناً أن نطلب من الدولة أن تقوم وحدها ببناء كل هذا الرقم من المدارس بما تحتاجه من أرض، ومبان، وأثاثات، وموظفين، ومدرسين، وكتب للتلاميذ، وأموال للأنشطة.. فإن الرقم سيصل إلى مليارات يحتاج تدبيرها إلى عشرات السنين.. يمكن اختصارها إذا تم تنظيم الجهود الشعبية التطوعية بشكل يجعل الأغنياء ومتوسطي الحال يشاركون معاً.. بالتبرعات.. بإصدار طوابع للتعليم مثل طوابع معونة الشتاء.. بزيادة رسوم الأبنية التعليمية .. إلخ.


ولاشك أن التبرع للتعليم هو أفضل وجه لإنفاق الزكاة والصدقات والتقرب إلى الله، وقد أصدر فضيلة المفتي فتواه بأنه يجوز إخراج الزكاة على التعليم.. وبعد أن قال لنا الأئمة الثقاة أن الإنفاق على التعليم يتحقق فيه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية" والتعليم للفقراء صدقة جارية لرفع مستواهم الاجتماعي وإبعادهم عن الحاجة وحمايتهم من الانحراف" أو علم ينتفع به، والمدرسة هي المكان المخصص للعلم الذي ينفع" أو ولد صالح يدعو له "والولد لكي تكون دعواه صالحة يجب أن يكون هو نفسه صالحاً.. متعلماً.. يعرف الطريق الصحيح للإيمان".. ولسنا في حاجة إلى تأكيد أهمية الإسلام من المنظور الإسلامي، أو من المنظور الحضاري وكلاهما واحد.


ودول العالم المتقدم كلها أنجزت نهضتها في التعليم بالتبرعات، ومن المألوف أن ترى أمام بعض الجامعات الأمريكية شاهداً رخامياً يسجل أسماء المتبرعين لبناء كل جامعة، والذين أوقفوا أموالاً وأملاكاً للإنفاق عليها، وأكبر وأشهر الجامعات الأمريكية أنشئت بالتبرعات، ومازالت مستمرة في أداء رسالتها العلمية بفضل ما تتلقاه من تبرعات، بالرغم من أن الإدارة الأمريكية ضاعفت ميزانية التعليم خمس مرات بعد نجاح الاتحاد السوفيتي في إطلاق أول قمر صناعي "سبوتنيك" وبعد أن كانت ميزانية التعليم 2.6 مليار دولار أصبحت 8.8 مليار دولار، ثم 10 مليارات دولار.. ومازالت المطالبة بالزيادة مستمرة، وفي نفس الوقت فإن التبرعات والمساهمات الشعبية للتعليم في زيادة مستمرة بمعدلات أكبر.


وتزيد تبرعات الشركات والأفراد في الولايات المتحدة للتعليم على أربعة مليارات دولار سنوياً، وتتلقى هذه التبرعاتحوالي 930 كلية وجامعة ومدرسة، وهذا يعكس فهم المجتمع الأمريكي لأهمية التعليم والعلم والبحث العلمي في تقدم المجتمع ككل، وفي تقدم أساليب الصناعة والزراعة والإنتاج بشكل عام بما يعود على الشركات وأصحاب الأعمال بالربح.. ولأن أصحاب الأعمال يدركون أن كل تقدم في البحث العلمي سوف ينعكس عليهم بفوائد محققة مباشرة وغير مباشرة، فإن كل شركة تخصص جانباً من ميزانيتها للإنفاق على البحث العلمي، ومن المعتاد أن تجد في أمريكا أن تمويل جامعة، أو كلية، أو قسم، أو كرسي متخصص في مادة معينة، قائم على شخص معين أو شركة أو مؤسسة أنشئت خصيصاً لدعم هذه الجامعة أو الكلية، ومن المعتاد أيضاً أن تطلب الشركات أبحاثاً معينة لخدمة نشاطها وتطوير إنتاجها وتنفق عليها بالكامل في الجامعة أو الكلية.


وفي تركيا تلفت النظر جامعة "بلكنت" وهي من كبرى الجامعات التركية أنشئها شخص واحد هو إحسان دوجراماتشي بأمواله، وهي جامعة يدخلها المتفوقون وتقوم بدور كبير في نهضة تركيا الحديثة .


ويدفعنا النجاح الكبير الذي تحقق في بناء مائة وسبع عشرة مدرسة في أنحاء مصر بتبرعات عدد كبير من الشخصيات صدر مؤخراً كتاب يضم أسماؤهم وصور المدارس التي أقاموها، وبعضهم تولى تأثيث المدرسة بالكامل قبل تسليمها لوزارة التعليم.. يدفعنا هذا النجاح إلى البحث عن كيفية الاستمرار.. هل يكون بإنشاء جمعية جديدة لأصدقاء التعليم تضم نخبة من المؤمنين والمتحمسين لهذا المشروع الحضاري الكبير، أم بأن تتبنى إحدى المؤسسات أو الجمعيات هذا المشروع ويلتف حولها الجميع، لتحقيق هدف طموح.. هو إنشاء مدارس للقرن الحادي والعشرين.. تنتهي فيها مشكلة المرحلتين والثلاث مراحل في مبنى واحد.. وتتوافر فيها المعامل والمكتبات والمسارح وقاعات النشاط. وتكون بالفعل مصانع للرجال الذين تحتاجهم مصر للمستقبل.


وليس في هذا المشروع طموحاً أو شططاً أو طلباً للمستحيل.. ولكنه مشروع في حدود الممكن.. وهو في الحقيقة ليس إلا دعوة.. بعد أن نجحنا.. أن نواصل النجاح.


.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف