بداية عربية جديدة (2)

في الخمسينيات والستينيات جمح بالعرب الخيال، وتفتحت لديهم الآمال حتى جاوزت حدود القدرة والواقع، فكانوا يتحدثون عن الوحدة العربية الكاملة، ويتصورون إمكان تحقيقها، ولا يرون لها صورة إلا صورة قيام دولة عربية واحدة كبيرة، أقرب إلى أن تكون إمبراطورية تمتد من الجزائر والمغرب وليبيا وتصل إلى الصومال ..


ولكن ضربة 1967 أيقظت العرب من حلمهم الجميل، ليدركوا أنهم أسرفوا في الخيال، وتركوا أنفسهم لنوع من التخدير سلبهم القدرة على رؤية الواقع كما هو، بكل ما فيه من تعقيدات ومشاكل.. وبما في واقعهم من أسباب الضعف وعوامل الهزيمة.. وما في إرادتهم من ضعف يحول دون القدرة على تحويل الكلام إلى عمل، والشعارات إلى واقع.. ثم ظهر المرض العربي المزمن: الانفصال.. أو ازدواج الشخصية.. أو الحياة في الكلام على أنه واقع يغني عن الحياة في الواقع المادي الفعلي الذي يعايشه البشر في كل أنحاء العالم.. وكانت النتيجة تراجع حلم الوحدة إلى ما هو أقل فأقل .. إلى أن جاء صدام حسين بغزوه للكويت فجعل كل حديث عن العروبة نوعاً من النفاق السياسي أو الدجل السياسي.. أو الخداع.. لا يصدقه القادة ولا الشعوب.. ودخل المثقفون العرب في المأزق الذي يصعب الخروج منه، وتخبط بعضهم فانطلق يصخ معبراً عن يأسه، وبعضهم كان يعبر عن فقدان العقل، أو فقدان القدرة على التمييز بين ما هو خطأ وما هو صواب.. بعد أن ضاعت مقاييس الخير والشر، والخطأ والصواب، وأصبح الظالم والمظلوم، والقاتل والقتيل، والسارق والضحية، يتحدثان بلغة واحدة، حتى ابتذلت اللغة، وفقدت الكلمات معناها عند الحديث عن الوحدة العربية .


لكن ذلك كله ليس الممثل الحقيقي لتيار التاريخ العربي.. فالعرب في التحليل الأخير أمة واحدة، بينهم من الروابط والمقومات ما يقارب بينهم بأكثر مما تباعد بينهم أخطاء السياسة وجرائم الساسة .


ومع تغير خرائط الصراع العسكري والسياسي في المنطقة ظهر عامل جديد يجعل "الشعور القومي العربي" ضرورة من ضرورات الحفاظ على الذات، والإبقاء على الكيان، وحماية الأرض ومن عليها من الاندثار أو الوقوع في حالة الجمود، أو في حالة التراجع التاريخي التي يمكن أن تنتهي إلى ضياع كل أمل في المستقبل بالنسبة للعرب جميعاً .


وقد تبدو الكلمات قاسية، والصورة قاتمة، ولكنها الحقيقة المرة .


ولذلك جاءت الفكرة الأساسية في نداء الرئيس مبارك بمناسبة مرور خمسين عاماً على إنشاء الجامعة العربية، وهي أن يفتح العرب عيونهم على الحقيقة التي وصلوا إليها، وعلى الحقيقة التي تحيط بهم، ليدركوا أن هذه هي فرصتهم الأخيرة ليركزوا أبصارهم على المستقبل، ولم يعد مطروحاً الآن – لأسباب موضوعية وواقعية كثيرة – الحديث عن الوحدة العربية الشاملة، أو عن الدولة العربية الواحدة، أو عن الوحدة بين أي دول عربية بأي صيغة من صيغ الوحدة – فيدرالية، وكونفدرالية – بل ولا مطروح إقامة نظام عربي جديد على غرار النظام الأوروبي الذي تدرج في تحقيق الوحدة على مراحل وسنوات طويلة دون اندفاع العاطفة، أو حماس الشعراء، ودون استعجال للمراحل أو إجهاض للتجارب..


المطروح الآن هو "المصالحة" أي مجرد البحث عن صيغة لحل أزمة الثقة القائمة في العالم العربي الآن، والتي تجعل التقاء القادة العرب أمراً شبه مستحيل.


وإذا كانت "المصالحة" هي نداء الوقت الراهن، فهي في الحقيقة ضرورة للإبقاء على ما تبقى من العرب قبل أن يتبدد كل شيء..! ومهما يكن تحقيقها صعباً.. ومهما يكن محتاجاً لوقت طويل.. أو لجهد هائل .. أو لتوافر شروط وضوابط.. فلابد أن تتحقق وإلا فالبديل مخيف ..


ومن الضروري أن نلتفت إلى مراحل العمل، ك ما أشار إليها الرئيس مبارك.. المرحلة الأولى حماية الأمن القومي العربي.. أي الإبقاء على الأرض والبشر.. وفي هذا ما فيه من تحذير بأخطار يمكن أن تهدد الوجود ذاته، بل أن الرئيس مبارك لم يشر إلى هذا الخطر المدمر إشارة خفية، أو إضارة من بعيد، ولكنه قالها بصراحة كاملة، لكي يسمع من لا يسمع، ويصل إلى عقول لم تعد قادرة على التمييز .


أما القضية النظرية القديمة حول "الوحدة الفورية" أو "الوحدة على مراحل".. بما كان يشغل به أصحاب الفكر النظري أنفسهم من الحديث عن التناقض بين المصالح القطرية والمصالح القومية.. وضرورة التضحية بالمصالح القطرية من أجل المصالح القومية.. فقد طرح الرئيس مبارك هذا الجدل النظري السوفسطائي.. ليدخل بالفكر العربي دائرة الحلول العملية.. البداية أن يحقق كل قطر عربي وجوده ومصالحه،و لا تعارض بين مصلحة الجزء ومصالح الكل.. والدولة القطرية ذات السيادة والكيان القوي لن تكون أبداً عائقاً أمام العمل المشترك، بل ستكون قوة لصالح هذا العمل المشترك، وهذا ما حدث بالفعل سواء في التجربة الأوروبية، ابتداء من السوق الأوروبية المشتركة وانتهاء إلى الوحدة الأوربية، وهو ما حدث ويحدث في تجارب الدول الأسيوية التي تقفز إلى صدارة العالم بسرعة النمور.


وهذا التفكير الجديد يدعونا ألا نجمع مع العاطفة، وأن نتحرك بخطوات تدريجية، كما يدعونا إلى أن نحذر من أن نقيد رؤيتنا بصيغة واحدة جامدة قد لا تتفق بالضرورة مع الواقع .


والدور الآن على المفكرين العرب، وأغلبهم طليعة الفكر الوحدوي، لكي يضعوا هذه الرؤية الجديدة في الإطار الملائم، ويصلوا بها إلى عقول القادة والمثقفين ثم إلى المشاركين في صياغة الرأي العام في العالم العربي .


واعتقادي أن القول بأن "السمكة تفسد من رأسها" صحيح، ولكني أعتقد أيضاً أن الإصلاح يبدأ من الرؤوس.. من العقول.. وبالأفكار.. ولذلك أرى أن مسئولية المفكرين العرب الآن عن المصير العربي هي المسئولية الأولى.. مسئولية لا مهرب لهم منها ولا مفر.


.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف