الأحزاب .. والانتخابات

بدأت الأحزاب منذ فترة استعدادها للمعركة الانتخابية بأساليب مختلفة.. حزب الأغلبية عاود نشاطه في الاتصال بالقاعدة، وإيجاد حلول للمشاكل، وعرض إنجازاته وإنجازات حكومته في السنوات الماضية.. وأحزاب المعارضة بدأت بالتركيز على بعض الدوائر التي رأت أن لها فيها أرضية تجعلها مقبولة.. ولأن الانتخابات سوف تكون انتخابات فردية، فإن شخصية المرشح، وتاريخه، واعتبارات العائلة في الريف.. ستكون عوامل لها أهمية.. وقد بدأ استثمارها منذ وقت مبكر.. بحيث ينتظر أن تكون المعركة الانتخابية ساخنة.. وجادة.. وأن مشاركة الناخبين فيها ستكون أكثر من أية انتخابات سابقة.


وأهمية الانتخابات النيابية التي ستجري قرب نهاية هذا العام أنها تأتي في مرحلة حساسة سياسياً واقتصادياً.. داخلياً وخارجياً.. مرحلة انتقال يمر بها المجتمع المصري، وتعيشها الحياة السياسية المصرية بقوة ملموسة، وهي بطبيعتها تحتاج إلى أن تشعر الأحزاب بمسئوليتها القومية، وبمصالح الوطن العليا، وتغلبها على المصالح الحزبية والفردية..


وأخطر ما يبدو من استعداد بعض القوى السياسية لهذه الانتخابات هو سعيها إلى افتعال معارك تصادمية دائمة وملتهبة.. لأن مثل هذه المعارك يمكن أن يختلط فيها الحق بالباطل، والصدق بالكذب، والوقائع بالشائعات، ويمكن فيها إثارة الانفعالات، والمشاعر، بل يمكن أيضاً مع استمرار وطيس هذه المعركة أن تضيع الحقائق ولا تبقى إلا الانفعالات وحدها.. وهذا أسلوب خطر في العمل السياسي.


هذا الأسلوب خطر لأنه يعتمد على "الغوغائية" وعلى "تهييج المشاعر".. باختلاق وقائع وأحداث غير صحيحة.. أو بنشر أفكار تثير القلق في قطاعات معينة دون أن يكون لهذه الأفكار أساس في الواقع.. أو بالتهجم على القيادات والرموز وإطلاق الشائعات حولها بحملات الهمس المعروفة لتشويه صورتها في عيون الناس.. وكي تكتسب هذه القوى مظهر البطولة أمام الناس.. وهذه الظواهر هي التي يتحدث عنها المفكرون يحللون ظواهر "الغوغائية" في العمل السياسي.. وحين يتحدثون عن "الديماجوجية" كظاهرة مرضية تنتشر حين يغلب بعض الانتهازيين – من الأفراد أو من القوى السياسية – مصالحهم الشخصية على المصلحة العامة.


ومن المهم أن تحسن الأحزاب جميعاً الاستفادة من شهور الإعداد للمعركة الانتخابية ليس فقط لضمان اختيار عناصر أفضل وأقدر للقيام بالوظائف الأساسية: التشريع.. وتوجيه الحكومة.. والرقابة عليها.. بل وأيضاً لإيجاد مناخ صحي للتفكير الجماعي الحر.. تنطلق فيه الأفكار والآراء.. من النخبة السياسية وجماعات المثقفين، ومن القاعدة العريضة في كل مكان، لإعادة النظر في السياسات والنظم لتطوير العمل في كل المجالات. ولبلورة استراتيجية جديدة للعمل الوطني تلاءم متغيرات الحاضر وتوقعات المستقبل .


فالانتخابات دائماً فرصة كبيرة للتفكير بصوت عال.. ولتبادل الرأي بحرية.. ولطرح أفكار جديدة.. ولإعادة النظر في كثير من الأمور التي تبدو راسخة ومستقرة.. ولكن يبدو أن هناك من يريد أن يضيع هذه الفرصة، ويسلبها من طبيعتها الموضوعية والموجهة لصالح المجتمع، لكي تصبح مناسبة للصياح بصوت عال.. وبإيجاد جو من التشنج والعصبية .


وإذا كانت بعض القوى السياسية تحاول توظيف ظواهر المشكلة الاقتصادية ونتائجها.. وتسعى إلى طمس حقائق ثابتة مثل النجاح الذي تحقق في الإصلاح الاقتصادي، وفي استكمال البنية الأساسية، وفي المشروعات الاستثمارية، وتحسين نوعية الحياة في المناطق الأقل تقدماً في المجتمع.. إذا كانت هذه القوى تحاول إطلاق "قنابل دخان غوغائية" لكي تحجب الرؤية عن إيجابيات كثيرة تحققت، وهدفها في ذلك إثارة جو القلق.. والغضب.. والإحساس بعدم الجدوى.. فإن واجب القوى المخلصة لهذا البلد أن تقف موقف الدفاع دون تردد وليس الدفاع عن الحكومة أو عن الحزب الحاكم.. ولكن الدفاع عن الحقائق.. وعن حماية جو الانتخابات من "الغوغائية" و"الديماجوجية" لأنهما أخطر ما يمكن أن يهدد سلامة المعركة الانتخابية ونزاهتها.. وهذه مسألة مهمة .


فنزاهة الانتخابات ليست فقط في خلوها من الغش والتزوير أثناء التصويت.. فهذا شيء بديهي ومتفق عليه.. ولكن خلوها من الغش والتزوير أثناء الدعاية الانتخابية، واعتبار كل دعاية انتخابية، أو تهيئة للرأي العام للانتخابات، باستخدام وسائل غير أخلاقية، أو غير مشروعة، هي نوع من الغش والتزوير من جانب هذه القوى، لأن تضليل الرأي العام جريمة خطيرة وخاصة في وقت الاستعداد للانتخابات التي تقرر مصير البلاد وتحدد خط ومسار السياسات في السنوات الخمس القادمة .


وفي كل كرة نشكو من ظاهرة الإسراف الشديد من جانب بعض القوى والتيارات في الإنفاق على المعركة الانتخابية، وفي كل مرة تثور تساؤلات حول مصادر التمويل.. وهناك قانون يحدد مصاريف الدعاية ويلزم كل مرشح بأن يكشف عن مصادر تمويل حملته.. ولابد أن يطبق ذلك بكل حزم. لأنه من ضمانات النزاهة الضرورية.


وإن كان الاستعداد للانتخابات بوعي ويقظة هو واجب كل المواطنين، إلا أن واجب المثقفين أكبر، وأعتقد أن سلبية المثقفين التي نشكو منها دائماً، ليس لها مجال هذه المرة، لأنهم إما أن يتحركوا الآن، وإما أن يتخلوا عن دورهم ومسئوليتهم، ويكفوا عن النقد والشكوى.. إذ ليس مقبولاً أن يصمتوا في الوقت المخصص للكلام.. ويؤثروا السلبية في وقت الحركة والعمل.. ويلوذوا بالصمت والمراوغة في وقت المصارحة والمشاركة بالرأي.. ثم يطلبوا لأنفسهم بعد ذلك دوراً قيادياً أو مؤثراً في المجتمع.. فهذا هو الوقت ليحدد كل مثقف بكل وضوح موقفه.. مع من يقف.. وضد من.. ولم يعد مجدياً أن يمسك العصا من الوسط.. أو أن يغازل كل الأطراف.. أو أن يضع قدماً مع الداعين للتقدم والحركة وأخرى مع دعاة التخلف والجمود.. ولا أن يدافع عن الإرهاب بصوره المختلفة بعبارات مراوغة تعطيه المبرر وتقدم له الحجج المؤيدة تحت شعار النقد الكاذب..


ليس الوقت الآن صالحاً لسلبية المثقفين.. ولا لاختتارهم موقف الانتظار والحذر.. ولا لادعائهم أن العمل بالنسبة لهم رهن بتوافر شروط يملونها جملة واحة..


هذه الانتخابات يجب أن تكون تعبيراً عن إحساس عام بالمسئولية.. في وقت يجب أن يتحمل فيه الجميع المسئولية.. دون استثناء.. ودون أن تكون هناك مقاعد للمتفرجين.. أو للانتهازيين الذين ينتظرون إلى أن تنتهي كل معركة لكي يجنو هم الثمار.. ينطبق ذلك على الأفراد.. كما ينطبق على القوى السياسية. وجماعات الصفوة، والأحزاب، دون استثناء.


.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف