شهادة على العصر

منذ فترة قصيرة زار مصر أحد فقهاء القانون الدستوري في الولايات المتحدة وانشغل في زيارته بدراسة عن وضع المحكمة الدستورية في مصر والدور الذي تقوم به من خلال ما أصدرته من أحكام، ومدى ما تتمتع به هذه المحكمة من استقلال وحرية في الرقابة على القوانين، وإلغاء ما لا يتفق مع نص أو روح الدستور.. وخرج بدراسته بأن المحكمة الدستورية في مصر أصبحت من أبرز أركان الحياة السياسية والدستورية في مصر، وأن أحكامها تصل إلى مرتبة عالية من الحرص على كفالة الحريات في مصر، وأنها دليل على أن مصر بحق "دولة مؤسسات" وأن الحرية فيها ليست شعارات، ولكنها حقيقة واقعة ملموسة في حياة المصريين، ويكفي حصر الأحكام التي صدرت من هذه المحكمة بإلغاء قوانين وضعتها الحكومة، وأصدرها مجلس الشعب، لإدراك أن آليات "التصحيح الذاتي" في النظام المصري لا تقل عن مثيلاتها في الدول المتقدمة. ولأن حصر جميع الأحكام الصادرة من محكمتنا العليا يحتاج إلى مجلدات، يكفينا أن نشير إلى آخر حكمين أصدرتهما، لنعرف أن الضمانات المكفولة لحماية الحريات في مصر من القوة بحيث يحق لنا أن نفخر بها، ونطمئن إليها.. لأن هناك في النهاية من يقف ساهراً لحماية الدستور، والحريات، بكل قوة .


في الحكم الأول أرست محكمتنا العليا مبادئ تاريخية حول حق التعبير، وحق الاجتماع، وحرية الاجتماع، ومبدأ المساواة، حين نظرت طعناً في نصين وردا في قانوني شركات قطاع الأعمال، وقانون تحديد شروط انتخاب ممثلي العمال في مجالس إدارات الشركات، يمنع شاغلي وظائف الإدارة العليا من الترشيح لتمثيل العمال في مجالس إدارات الشركات، وحكمت بإلغاء هذا الحظر، وعدم حرمان أحد من العاملين في الشركة من حق الترشيح.. ودون دخول في التفصيلات جاءت في الحكم مجموعة مبادئ تستحق التحليل والتأمل لأنها تلقي أضواء ساطعة على طبيعة رؤيتها للدستور على أنه تعبير عن آمال متجددة، تعمل على تطوير الواقع، وتكفل الشرعية الدستورية التي تعني ارتكاز السلطة على الإرادة العامة .


من هذه المبادئ أن الدستور المصري يفرض على كل من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية قيوداً بقدر ما يلزم لضمان صيانة الحقوق والحريات العامة، ويحول دستورنا دون اقتحام إحدى هاتين السلطتين المنطقة التي تمثل الحق، أو الحرية، ومنها أن الدستور نص على أن يكون للعاملين في المشروعات حق الاشتراك في إدارتها، وكفل بذلك حقهم في الاجتماع داخل مجلس الإدارة، باعتباره تنظيماً يتبادلون فيه الآراء حول مختلف شئونها، بما في ذلك تقييم ممارساتها، وانتقاد رؤسائهم وقياداتهم، إرساء للديمقراطية، التي لا تكتمل بدون حق الاقتراح، الذي تباشره القاعدة العريضة من العاملين، وقانون قطاع الأعمال وكذلك قانون انتخابات مجالس الإدارة يجعلان حق الترشيح مقصوراً على من ينطبق عليهم تعريف "العمال" وهو أضيق نطاقاً من تعريف "العاملين" بينما نص الدستور يتجه إلى من يعملون في كل المشروعات الاقتصادية العامة أياً كانت مواقعهم، أو درجاتهم الوظيفية، وجعل الدستور هذا الحق مقابلاً لواجب هو إسهام العاملين في تنفيذ الخطة الاقتصادية والاجتماعية داخل الوحدات الإنتاجية، وهذا الواجب ليس مفروضاً على فئة من العاملين دون فئة أخرى، فكيف تكون التفرقة بين العاملين في الوجه الآخر من القضية الأساسية وهي الربط بين الحقوق والواجبات..؟


أما النص في الدستور على أن يكون للعمال والفلاحين النصف على الأقل من الأعضاء المنتخبين في مجلس الشعب، أو المجالس الشعبية المحلية، أو مجلس الشورى، فإن المقصود للعمال والفلاحين الحد الأدنى من الحقوق لتأمين مصالحهما نظراً لظروف ضعفهما في البنيان الاجتماعي ولذلك نص الدستور على أن يحدد القانون من يعتبر عاملاً أو فلاحاً، أما حين تناول الدستور حق العاملين في المشاركة في مجالس إدارات المشروعات العامة فلم يعط للقانون الحق في تعريف أو تحديد من لهم الحق في ذلك، بما يعني أنه حق لجميع العاملين دون استثناء. ومادام العاملون بهذه المشروعات يملكون جميعاً حق الانتخاب وفقاً للدستور، فمن غير المفهوم أن يكون موقفه مختلفاً في حق الترشيح فيمنع طائفة من العاملين من هذا الحق لأنهم يشغلون وظائف معينة، دون أن تكون هناك صلة بين الدرجة الوظيفية وبين الصلاحية لتمثيل العاملين في مجلس الإدارة. وإذا كان الدستور قد أشار في مادة واحدة بكلمة العاملين ثم بكلمة العمال في موضوع واحد فإن المفهوم الثاني لا يخرج عن الأول، والقوانين تعتبر كل من يقوم بعمل دائم لقاء أجر عاملاً، ولو تدرج في المناصب إلى أعلاها.


وامتلأ حكم المحكمة الدستورية بشرح جميل لما في دستورنا من ضمانات لحرية التعبير، والتمكين من نشر الآراء بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير، وبدون حرية الرأي تصبح حرية الاجتماع مفقودة، ولا يقصد الدستور من ضماناته لحرية التعبير أن تكون وسيلة للوصول إلى "توافق عام" ولكنه قصد كفالة تعدد الآراء، وإرسائها على قاعدة أساسية هي أن تكون المعلومات صحيحة ومحايدة. كما جعل الدستور حق الفرد في التعبير عن الرأي غير معلق على صحة هذا الرأي، ولا باتفاقه مع الاتجاه العام، ولا محققاً لفائدة عملية، ولكنه جعل حرية الرأي مطلقة، وكذلك جعل حرية التعبير مطلقة، لأن أكثر ما يهدد حرية التعبير أن يكون الإيمان بها شكلياً أو سلبياً، أو أن يكون "حوار القوة" مدخلاً إليها، وكذلك فإن الرقابة الشعبية فرع من حرية التعبير.. وحرية التعبير أحد العناصر الجوهرية لضمان "الحرية الشخصية" التي يكفلها الدستور.. وهذه الحقوق لا يجوز التنازل عنها..


هذه المبادئ الجوهرية التي أرساها الدستور تمنع المشرع من أن يضع قانوناً يحرم فئة من المواطنين منها.. لأن ذلك يتعارض مع مبدأ المساواة، وحظر التمييز بين المواطنين بأي حال، وبالذات التمييز بينهم في الحقوق والواجبات..


مثل هذه المبادئ المضيئة تجعلنا ندرك قيمة الدستور القائم من ناحية، وقيمة محكمتنا الدستورية من ناحية أخرى، لأنها تمثل السلطة الحارسة لهذه المبادئ. فهل يمكن بعد ذلك أن يجد أحد في نفسه الجرأة على الادعاء بأن الحريات لا تجد من يناصرها..؟ أما القانون الثاني فكان متعلقاً بأن يحرم من معاشه الذين يعملون بعد السن في جهات لها نظم خاصة للمعاشات.. وأكدت المحكمة مبادئ تجعلنا نشعر بالفخر بقضاء مصر.. أن العمل ليس ترفاً يمكن التنازل عنه.. ولا هو منحة من الدولة تعطيها لمن تشاء وتحرم منها من تشاء.. ولا هو إكراه للعامل على عمل لا يقبل عليه باختياره، ولا يجوز أن يتدخل المشرع ليعطل حق العمل.. أو يغير من طبيعته وهي الاختيار الحر للعامل.. ولابد أن يكون لكل عمل أجر عادل.. وكذلك فإن الحق في المعاش هو التزام من الدولة مادامت قد تحققت شروطه.. فإذا عمل صاحب المعاش فلا يمكن اعتبار الأجور التي يحصلون عليها من العمل بديلاً عن حقهم في المعاش.. وكل منهما له مصدر وسبب مختلف.. وحكمت المحكمة بإلغاء هذا النص في القانون.. من يستطيع إذن أن يواصل الادعاء الكاذب بأن الحريات لا تجد من يحمها.. ومن يستطيع أن ينزع من ضميره العدل ويدعي بأن "دولة المؤسسات" موضع شك..


وليت أصحاب الادعاءات الكاذبة يقرأون أحكام المحكمة الدستورية التي يشهد فقهاء القانون الدستوري في العالم بأنها تمارس الرقابة على دستورية القوانين بمفاهيم متقدمة جداً، يمكن أن تستفيد منها المحاكم المماثلة في أكثر الدول تقدماً في مجال الديمقراطية والحريات العامة والتوازن بين السلطات..


وتكفي أحكام هذه المحكمة شهادة لهذا العصر.


.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف