عبقرية المكان .. أم عبقرية الإنسان ؟!

في يوم 11 أغسطس عام 1973، وفي حفل تخريج دفعة جديدة من كلية أركان الحرب قال وزير دفاع إسرائيل الجنرال موشى ديان: "إن موازين القوة العسكرية في صالحنا، ونحن متفوقون على كل العرب مجتمعين، ومهما كان من نوايا العرب وتوجهاتهم، فهم غير قادرين على تجديد الأعمال العدائية، لأن سيادتنا العسكرية على الموقف هي نتيجة مزدوجة لاعتبارين: تزايد ضعف العرب من ناحية، وتزايد قدرتنا نحن من ناحية أخرى، وأهم ما في الموضوع أن تزايد الضعف العربي يرجع إلى عوامل ليس في مقدور العرب تغييرها في المستقبل القريب" .


وبعد أيام من هذا الكلام الواثق الذي يعبر عن غرور القوة قامت حرب العاشر من رمضان، وحققت فيها العسكرية المصرية انتصاراً تاريخياً أعاد إليها الاعتبار وكانت الفرصة الوحيدة في العصر الحديث التي أتيح فيها للقوات المسلحة المصرية انتصاراً تاريخياً أعاد إليها الاعتبار، وكانت الفرصة الوحيدة في العصر الحديث التي أتيح فيها للقوات المسلحة المصرية أن تعمل بخبرة رجالها، وبتوجيه من ضمائر قادتها، وبإطلاق يد العسكريين المحترفين للعمل وفقاً للأصول والنظريات والعلوم العسكرية..


ورغم أن عنصر "المفاجأة" الذي كان يركز عليه الباحثون عند تحليل أسباب النصر في حرب العاشر من رمضان لم تكن له هذه الأهمية، إذ لم تكن الحرب مفاجأة كاملة، وكانت القيادة المصرية السياسية والعسكرية العليا على يقين في ذلك اليوم بأن القادة الإسرائيليين قد أدركوا مغزى استعدادات وحشود القوات المصرية والسورية، وأصبحوا على يقين من أن تحرك هذه القوات وشيك، وأنهم اتخذوا بالفعل خطوات للعمل العسكري المضاد.. فقد أثبتت الوثائق أن إسرائيل قامت منذ ليلة الهجوم باستدعاء قوات الاحتياط، وأعلنت حالة التعبئة العامة، ودفعت قوات إضافية ووسائل دفاع جوي إلى الجبهتين المصرية والسورية، وحركت قوات برية أيضاً، ونشرت قواتها البحرية، ودعمت رادارات الإنذار ووضعت مطاراتها في سيناء في حالة استعداد، وحركت بعض مواقع صواريخها في سيناء.. وكل ذلك ليس له دلالة إلا أن القوات الإسرائيلية لم تكن في حالة استرخاء، ولم تكن مشغولة باحتفالات عيد الغفران، ولكنها كانت في حالة انتباه بعد أن أصبحت قيادتها تتوقع الهجوم بالتحديد مع آخر ضوء من يوم العاشر من رمضان .


وهذه الحقيقة الجديدة تعني بالنسبة لنا شيئاً بالغ الأهمية.. هو أن قواتنا المسلحة حين بدأت الهجوم كانت تواجه عدواً يتوقع وصولها، وكانت تعلم ذلك، وتعلم أن لديه بالطبع خططاً جاهزة للعمل في مثل هذه الحالة، وكانت قوات السلاح الجوي المصري التي تحملت مسئولية الضربة الأولى والتي كانت تعني تحديد مسار ومصير المعركة منذ اللحظات الأولى.. قامت بالضربة الأولى وهي تضع في حساباتها أن طائرات ومطارات إسرائيل في حالة انتباه.. ومع ذلك حققت الضربة الجوية انتصاراً سجله التاريخ كعمل عسكري كامل من طراز رفيع لم يحدث في التاريخ العسكري من قبل، ولا حتى بالقياس لانتصار الطيران الياباني على البحرية الأمريكية في بيرل هاربر، لأن البحرية الأمريكية كانت في حالة استرخاء كامل وجاءتها الضربة مفاجئة من حيث لا تتصور ولا تحتسب. أما ضربة الطيران المصري فجاءت من حيث كانت إسرائيل تنتظر وتحتسب..


وهذه الحقيقة تضيف لانتصارات العاشر من رمضان دلالات جديدة تضيف معنى غاية في الأهمية هو أن القوات المسلحة المصرية، وهي في النهاية ليست إلا تعبيراً عن إرادة الشعب المصري، لا يمكن أن تستسلم للهزيمة.. وقادرة على تحقيق النصر.. وهي تستخدم علوم الحرب وفنونه ومنها عنصر المفاجأة.. ولكنها بالمفاجأة كاملة أو منقوصة، أو بغير مفاجأة تستطيع أن تخوض الحروب، وتخطط للمعارك وفقاً لنظريات الحرب الحديثة. ودون أن يكون لها تفوق كامل في التسليح، ويكفيها أن يكون لديها الحد الأدنى اللازم للعمل.. لأن لديها ما يعوض ذلك .


بعد أكثر من عشرين عاماً على حرب العاشر من رمضان أصبحنا قادرين على رؤيتها بوضوح أكبر، ونستطيع أن ندرك أن سلاح النصر فيها الأول، والأقوى، والأكثر فعالية، هو "الإنسان".. الإنسان المؤمن.. الذي يستمد من إيمانه قوة روحية هي أقوى من القوى المادية.. ومن واجب المحللين وهم يعددون أسباب الانتصار أن يضعوا "الإيمان".. و"القوة الروحية" .. وإرادة النصر، في مقدمة أسباب النصر.. فقد وصلت إلى درجة لا يمكن أن تؤثر فيها الأسلحة أو النيران.. ولا الموت!.. وقد انطلقت هذه "القوة الروحية" في صيحة "الله أكبر" التي جعلت الجنود يعبرون وهم في حالة من اليقين بأن مواقع أقدامهم لن تكون إلا في سيناء.. أحياء.. أو شهداء.. لا فرق ..


هذه "القوة الروحية" هي العنصر أو السلاح الخفي الذي يملكه الشعب المصري عبر الزمن وفي كل العصور، ولا يراه أعداؤه، وإذا رأوه فإنهم عادة لا يحسبون له ما يستحق من الحساب، ولا يقدرونه حق التقدير..


لا يدركون أن هذه "القوة الروحية" هي التي جعلت الفلاحين المصريين في ظروف حياة صعبة، وربما مستحيلة، منذ خمسة آلاف عام يحققون معجزة بناء الهرم، ليكون شاهداً على مر العصور على قدرة المصريين على ما لا يقدر عليه غيرهم ولا حتى بعد قرون..!


وهذه "القوة الروحية" هي التي جعلت مصر تصمد في كل مراحل تاريخها في وجه غزوات استعمارية لو تعرض لها أي شعب آخر من شعوب الأرض لكان قد وصل إلى درجة من القهر والانسحاق تؤدي به إلى الاندثار.. ولكنه تحدي .. وصمد .. وظل حياً .. وقوياً .. وواقفاً على قدميه .. يتلقى الضربات .. والنكسات .. ثم يعود ليقف من جديد، ويحول كل نكسة إلى نصر .. ولو طال الزمن!


شيء لا تجده إلا في هذا الشعب.. الذي أنشأ الحضارة .. وصنع التاريخ .. وكان أول من عمل كل شيء.. أول من وضع العلوم .. وأول من اخترع أسلحة القتال.. وأول من ابتكر الفنون وأقام الحضارة.. وأول من ارتقى بالعقل.. وأول من اهتدى إلى الله الواحد الأحد القهار.. وأول من خاض المعارك.. وأول من حقق الانتصارات.. وأول من اعتبر أرضه مقدسة.. وأول من قال أن الأرض هي العرض.. شيء يغير نظرية "عبقرية المكان" إلى "عبقرية الإنسان".


سر هذا الشعب يكمن في هذه "القوة الروحية" .


ولأنه شعب يتغلغل في كيانه إيمان بالله عميق وقوي لا يتزعزع.. فإن هذا الإيمان هو الوقود السري، أو السحري، الذي يعطيه قوة خارقة تجعله قادراً في لحظة على تحقيق ما يبدو أنه معجزات .


والشيء الذي تؤكده مسيرة التاريخ على مر القرون هو أن هذه "القوة الروحية" أو هذه الشعلة المقدسة في عمق أعماق المصريين لا تموت أبداً .. قد لا تظهر للعيون.. وقد تخفيها أحداث ومحن.. ولكنها في لحظة تشتعل وتسيطر وتحول المصريين إلى كتلة ملتهبة من إرادة النصر ..


وهذه "القوة الروحية" التي هي سر المصريين الأكبر لا يفهمها إلا من يفهم السر العميق في هذا الشهر الفريد.. شهر رمضان.. فبينهما صلة لا تنقطع.. وبهذه القوة يستطيع الشعب المصري أني تغلب على كل الصعوبات، وكلما كانت الصعوبات أقوى، كانت إرادته في النصر أشد قوة.. لأنه شعب يقبل التحدي ويقدر على متطلباته.. ولعل هذا هو المفتاح الصحيح لفهم سر العاشر من رمضان ..


إنه "عبقرية الإنسان" ...


.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف