أزمات العولمة واقتصاد الكازينو!
حكومتنا تقود التحول إلى اقتصاد السوق بسرعة مدهشة، على الرغم من كثرة ما سمعناه من حكماء السياسة من أن التحول السريع يؤدى إلى الفوضى وانتشار الفساد ويزيد معدلات الفقر، وكان المثال الذى يضربه الحكماء على ذلك ما جرى فى روسيا أيام حكم «يلتسين» من تحول سريع إلى الرأسمالية، فحدث تدهور لم يسبق له مثيل، بحيث لم تستطع الحكومة دفع مرتبات الموظفين والجنود، بينما تكدست المليارات لدى لصوص المال العام، ورجال المافيا، والرأسماليين الجدد الذين نهبوا ثروة البلاد. حدث هذا فى روسيا، ولكن ما حدث فى الولايات المتحدة كان مصيبة، أفلست شركات ومصارف كبرى عابرة للقارات، وتشرد ملايين الموظفين والعمال، وتسببت المصيبة الأمريكية فى مصيبة عالمية لن تنجو منها دولة كبيرة أو صغيرة، قريبة من أمريكا أو بعيدة.
ويقدر الخبراء أن الأزمة سوف تشتد وسوف تستمر لمدة عامين وربما أكثر.. واتفقوا على أن سياسات إدارة بوش الاقتصادية كانت السبب المباشر، ولكن بعضهم يرى أن الأزمة هى أزمة النظام الرأسمالى ذاته، واقتصاد السوق، وحرية رجال المال والأعمال بغير حدود ولا ضوابط وتخلى الدولة عن مسئوليتها. وعلماء اقتصاد يتساءلون: هل ستؤدى هذه الأزمة إلى انهيار النظام الرأسمالى أو إلى انهيار أسلوب إدارة هذا النظام؟ وماذا كان الرئيس الأمريكى السابق جورج دبليو بوش يقصد عندما أعلن فى أواخر أيامه وبعد خراب مالطا أنه تخلى عن مبادئ الاقتصاد الحر؟ هل اضطر إلى ذلك بعد أن أدرك - أخيراً جداً وبعد فوات الأوان - أن الأزمة نتيجة للضغوط التى مارستها إدارته لفرض الحرية الاقتصادية التى وصلت إلى حد الفوضى، وكان هدفه الحقيقى لذلك فتح حدود الدول أمام أطماع المحافظين الجدد فى السيطرة على الأسواق والموارد الطبيعية فى معظم دول العالم، وتحويلها إلى مستهلكين، ووقف طموحها لإقامة صناعات واقتصاد إنتاجى.. باحثون أمريكيون قالوا إن هذه الأزمة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وأن الاقتصادات الرأسمالية مرت بأكثر من 124 أزمة خلال 27 سنة بدأت بالمصارف وأسواق المال، وفقا لما ذكرته مجلة «ايكونومست».
وأستاذ الاقتصاد الدكتور إبراهيم العيسوى له دراسة صدرت منذ أيام فى كتاب بعنوان «أزمة النظام الرأسمالى والاقتصاد المصرى» يقول فيه إن الاقتصاد الرأسمالى يمر دائما بمرحلة انتعاش تعقبها مرحلة ازدهار، وبعدها تأتى مرحلة انكماش، ثم ركود، ثم كساد، ثم يقع النظام الرأسمالى فى أزمة.. وهذه المراحل تتكرر منذ نشأة الرأسمالية وإلى الآن.. وأكبر المتحمسين للرأسمالية يعترفون بهذه الحقيقة، ولذلك يطالبون بتدخل الدولة فى الاقتصاد الرأسمالى لضبط حركة الأسواق، وتفادى الفشل، والمساعدة على استعادة التوازن. فى النظام الرأسمالى لا ينظر كل واحد إلا إلى مصلحته فقط ويعتبر نفسه غير مسئول عن مصلحة المجتمع الرأسمالى - ونحن نسميه رجل الأعمال - يقول لنفسه دائما، وللناس أحياناً: أنا لست مصلحاً اجتماعياً، ولست مسئولاً عن البلد، أنا مسئول فقط عن مصالحى وثروتى، وشاغلى الشاغل هو كيف أحافظ على ثروتى، وكيف يمكن تنميتها بغير حدود، وبأية وسيلة، والغاية تبرر الوسيلة حتى ولو كان ذلك بالنهب والاستغلال والنصب، وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم:(اثنان لا يشبعان.. طالب علم.. وطالب مال).
نتيجة لذلك تعرض الاقتصاد الأمريكى إلى 10 أزمات انكماش وركود بمعدل أزمة كل ست سنوات منذ أواخر الأربعينات من القرن العشرين، وكانت أشدها الأزمة التى بدأت سنة 1973 واستمرت حتى 1975، والأزمة التى بدأت سنة 1981 واستمرت حتى أواخر 1982، وخذ عندك عشرات الأزمات الأخرى منها مثلاً أزمة نظام النقد الأوروبى فى 1992، وأزمة المكسيك من 1994 حتى 1999، وأزمة الأرجنتين فى 2001. ومعنى ذلك أن الأزمة الحالية التى عانى وسيعانى منها العالم هى حلقة فى سلسلة أزمات يعرفها كل من درس تاريخ النظام الرأسمالى. ولا يزعم المتحمسون للرأسمالية أنهم يستطيعون منع وقوع الأزمات، ولكنهم يزعمون فقط القدرة على إدارة هذه الأزمات لتقليل آثارها السلبية بقدر الإمكان.
***
تقول مجلة «الايكونومست» البريطانية - أكبر مجلة اقتصادية فى العالم - إن النظام الرأسمالى لا يستطيع أن يحمى نفسه من الوقوع فى الخطأ نفسه، فالأزمة تبدأ فى موقع معين مثل البنوك وديون العقارات، ثم لا تلبث أن تنتشر فى القطاعات المالية الاقتصادية، والدليل على ذلك أن الأزمة الحالية بدأت نتيجة توسع البنوك الأمريكية بغير احتياط فى منح القروض، وعجز المقترضين عن السداد، ولكنها تحولت إلى أزمة ائتمان، ثم إلى أزمة مصارف، ثم أزمة بورصات، وكانت النتيجة انهيار أسهم البنوك والمؤسسات المالية، والشركات الصناعية الكبرى، وشركات التأمين، وإفلاس بعضها، وبيع بعضها الآخر لشركات قوية، وأخيراً اضطرت الحكومة إلى التدخل وشراء جزء من الشركات والبنوك لإنقاذها من الإفلاس أو منحها قروضا حكومية بالمليارات.
***
يشرح الدكتور إبراهيم العيسوى أسباب الأزمة فيقول إن الاقتصاد الأمريكى تحول إلى «اقتصاد الكازينو» أى إلى صالة قمار وفرضت أمريكا هذا النظام على الدول الأخرى.. فرضت على الدول تعويم أسعار عملاتها، وفتح أبوابها أمام انتقال الأموال بدون حدود، وفرضت عليها نمو القطاع المالى، والخصخصة، وابتعاد الدولة عن التدخل فى الأسواق، وفرضت على الدول إزالة القيود على الائتمان وأسعار الفائدة، كما فرضت الخضوع لشروط البنك الدولى، وصندوق النقد الدولى، ومنظمة التجارة العالمية، والتوسع فى الإقراض، والاستهلاك - لصالح الدول الصناعية المصدرة طبعا - والتوسع فى استعمال بطاقات الائتمان لتشجيع المواطنين على الشراء بأكثر من قدرتهم على السداد لكى تحقق البنوك أرباحاً هائلة من فوائد التأخير، ومع زيادة القروض زادت المخاطر، وتحولت «المخاطرة» إلى «المقامرة»، وتحول القطاع المالى فى الدول المتقدمة وفى الأسواق الناشئة إلى صالة كبيرة للقمار، وتحول النظام الاقتصادى العالمى إلى كازينو كبير، وفى هذا الاقتصاد مسموح للشخص أن يبيع شيئاً لا يملكه وأن يشترى ما يريد دون أن يدفع الثمن، وانتشرت عمليات البيع والشراء بين الأطراف مباشرة خارج البورصة، وبعيداً عن الإشراف والرقابة والضبط، ووصل حجم هذه التعاملات غير المباشرة وغير المنضبطة 600 تريليون دولار فى ديسمبر 2007.
كما ذكر تقرير بنك التسويات الدولية.. وهذا الرقم يمثل 11 ضعف الدخل العالمى (45 تريليون دولار). وهكذا فاق التوسع فى القطاع المالى كل الحدود إلى حد أن الأموال أصبحت تدور وحدها دون أن تخدم الإنتاج، ولكن تخدم المضاربين وتحقق لهم مكاسب خيالية، وهذه هى الرأسمالية الطفيلية التى ابتعدت عن الإنتاج.
ومع العولمة الاقتصادية تزايد نفوذ الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، وتضخم القطاع المالى وانفتاح البورصات على بعضها البعض، فلم يعد ممكنا انحصار أية أزمة اقتصادية على الدولة التى نشأت فيها، وهذا ما يفسر لماذا بدأت الأزمة فى الولايات المتحدة وانتقلت إلى كل دول أوروبا وآسيا.
وهذا ما جعل وزير الاستثمار الدكتور محمود محيى الدين يقول إن الأزمة ستؤثر علينا وتزيد أعداد العاطلين والفقراء، وستؤدى إلى تراجع أرباح شركات قطاع الأعمال.. ونقرأ كل يوم عن توقف الشركات عن استكمال مشروعات التوسع، وسوف يتأثر التصدير والسياحة وتحويلات المصريين فى الخارج.. وقد اقترضت الحكومة بالدين 13 ملياراً و30 مليون جنيه لتحريك السوق فى مشروعات البنية الأساسية ضمن خطة ضخ 15 مليار جنيه فى الاقتصاد والعودة إلى نظام الحماية لبعض المنتجات المصرية مثل الغزل. وستقوم الحكومة بمراجعة شاملة لأسعار الطاقة وتنفيذ خطة لمساندة القطاعات الإنتاجية.
وزير الاستثمار يقول: لن يحدث عندنا كساد.. ومحافظ البنك المركزى يقول: أنا مطمئن.. فلماذا لا نطمئن نحن أيضاً؟
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف