الرجل الأسود فى البيت الأبيض(1)
عندما ألقى مارتن لوثر كنج خطابه الشهير (لدى حلم) وقال فيه: إنه يحلم بأن يأتى يوم ويرى الرجل الأسود فى أمريكا يتساوى مع الرجل الأبيض، فإن حلم هذا القس الأمريكى الأسود، الذى تحول إلى زعيم يقود المظاهرات الحاشدة للمطالبة بالحقوق المدنية للسود، لم يكن يصل إلى المطالبة بأن يصبح الرجل الأسود رئيسا للولايات المتحدة.. كان هذا التصور أبعد من أحلام مارتن لوثر كنج الذى سقط بطلقات رصاص العنصرية الأمريكية العمياء وهو يقود إحدى المظاهرات.. ومع ذلك فإن هذا الحلم استقر فى الضمير الأمريكى.. وبعد عشرات السنين ها هو ذا باراك أوباما.. الرجل الأسود. يتولى أخطر منصب فى العالم ويقود أكبر وأقوى دولة فى العالم. وباراك أوباما رجل غير عادى.. هو فعلا تجسيد لعصر العولمة، فهو أمريكى أبوه أسود من كينيا هاجر إلى أمريكا وتزوج أمه البيضاء، وبعد سنوات من ولادته انفصلت أمه عن أبيه وعاد الأب إلى موطنه الأصلى، وكانت الأم قد اعتنقت الإسلام فتزوجت مسلما من إندونيسيا وانتقلت هى وابنها باراك إلى إندونيسيا وتعلم باراك فترة من طفولته فى مدرسة إسلامية فى إندونيسيا، ولما ماتت أمه عاد إلى أمريكا وتولت جدته لأمه تربيته، وهى سيدة مسيحية بيضاء وأكمل تعليمه حتى تخرج فى جامعة هارفارد أرقى جامعات أمريكا، وتزوج من ميشيل زميلته السوداء فى الجامعة.
فهو إذن أمريكى من أصول أفريقية وهو مسيحى بروتستانتى من أصول إسلامية، وقد عاش المهانة التى يلاقيها السود فى أمريكا وتحدى النظام العنصرى الأمريكى حتى وصل بالانتخاب عضوا فى مجلس الشيوخ، ثم حقق المعجزة وانتخبه الأمريكيون رئيسا لهم، وهو بالفعل يستحق ذلك.
هل سيكون منحازا إلى أصوله الأفريقية ويقود أمريكا فى اتجاه جديد أكثر اهتماما بهموم أفريقيا ومشاكلها؟.. وهل ستجعله أصوله الإسلامية أكثر تفهما لحقيقة الإسلام التى أعلن الرئيس بوش الحرب عليه؟.. وهل سيكون أكثر تعاطفا مع الفقراء فى أمريكا وفى العالم؟
بعض المحللين يؤكدون أن الإجابة عن هذه الأسئلة: نعم ولكن اعتقد أن (نعم) هذه ليست مؤكدة، ولدى أكثر من سبب للتحفظ:
أولا: أن أوباما أمريكى لحما ودما- على الرغم من أصوله المختلفة- والأمريكيون جميعا من أصول مختلفة.. بعضهم من أصول أوروبية، وبعضهم من أصول آسيوية، وبعضهم من أصول أفريقية.. وهكذا فالمجتمع الأمريكى أمة من المهاجرين ولابد أن تسأل كل أمريكى تقابله عن أصوله وجذروه فتكتشف أن والديه أو جديه من مكان ما خارج أمريكا، وفى النهاية فإن الجميع ينصهر فى البوتقة الأمريكية، وينطبع بطابع الثقافة الأمريكية وأسلوب الحياة الأمريكية ويصبح أمريكا ولا يتبقى لديه من هذه الأصول إلا بقايا تاريخ مضى وانتهى.. أوباما إذن أمريكى أولا وأخيرا.. مسيحى بروتستانتى أولا وأخيرا.. ولا تنتظروا أن يكون غير ذلك!
ثانيا: أن أوباما الآن رئيس الولايات المتحدة، سوف يُقْسِم على الإنجيل أن يكون مخلصا لأمريكا وأن يعمل لخدمة المصالح الأمريكية وسوف يضع سياساته على هذا الأساس، يستطيع أن يعدل أساليب تنفيذ هذه السياسة فيجعلها سياسة إنسانية، وعادلة، ومقبولة من شعوب العالم. ويستطيع أن يصلح بعض ما أفسده بوش، ولكنه فى النهاية لن يكون زعيم ثورة أو قائد انقلاب يغير سياسات أمريكا مائة وثمانين درجة.
ثالثا: أن الرئيس الأمريكى يملك سلطات واسعة جدا، فهو السلطة العليا والقائد الأعلى للقوات المسلحة، وله الحق فى الاعتراض على ما يتخذه الكونجرس من تشريعات أو قرارات، ولكنه- مع ذلك- لا يعمل وحدة.. أمريكا دولة مؤسسات، فيها الكونجرس يستطيع أن يفرض كلمته على الرئيس إذا لزم الأمر.. وفيها جماعات الضغط المؤثرة فى الرأى العام وفى الإدارة.. وفيها الإعلام المستقل الذى يستطيع أن يسقط الرئيس إذا كان هناك داع لذلك كما حدث مع الرئيس الأسبق ريتشاد نيكسون.. وفيها الرأى العام الذى يحسب له الرئيس ألف حساب لأنه قادر على إسقاطه فى الانتخابات القادمة.. وباراك يتطلع قطعا إلى الفوز بفترة رئاسة ثانية.. والرأى العام قادر أيضا على إسقاط الحزب فى انتخابات الكونجرس وانتخابات الولايات.. وفى أمريكا وزارة الدفاع (البنتاجون) والجنرالات لهم كلمة.. ووزارة الخارجية وهى صانعة السياسة الخارجية- مع الرئيس ومع مجلس الأمن القومى ومع المخابرات، وفيها مجلس الأمن القومى الذى يضع الاستراتيجية.. وفيها المخابرات وهى فروع ودهاليز ولها ألف ذراع.. أمريكا ليست دولة من دول العالم الثالث يحكمها شخص واحد كما يريد.. ولا يستطيع أى رئيس أمريكى أن يعمل إلا من خلال المؤسسات.. ولا يستطيع أن يفرض رأيه ويقود القطيع على هواه.
وأينما تكون مصلحة أمريكا سيكون الرئيس وإدارته.
***
ليس معنى ذلك أن أوباما سيكون محدود التأثير فى السياسة الأمريكية، فقد أثبت أنه سيكون رئيسا مختلفا عن بوش، والدليل على ذلك أنه اختار وزراءه ومستشاريه ومساعديه من أعلى مستويات الخبرة والكفاءة وحرص على أن يعكس التسامح والقيم الأمريكية التى تجاهلها بوش.. اختار وزير النقل مثلا من أصل لبنانى (راى لحود) ووزيرة العمل من أصل أسبانى (هيلدا يويلس) والمفوض التجارى (رون كيرك) وهو أول رجل أسود انتخب عمدة لمدينة دالاس.. ولم يقتصر على الاختيار من أعضاء حزبه (الديمقراطى) ولكنه اختار الأكفأ من الحزب المعارض (الجمهورى).
ومن هؤلاء راى لحود وهو عضو مجلس النواب عن الحزب الجمهورى، كذلك قرر أوباما الإبقاء على وزير الدفاع فى إدارة بوش (روبرت جيتس).
واختار أكبر العلماء البارزين فى الفيزياء فى جامعة هارفارد الحاصل على جائزة نوبل (جون هولدرين) كبيرا للمستشارين العلميين للرئيس. وقالت الصحف الأمريكية إن هولدرين هذا (عبقرى) ومن أكبر العلماء على مستوى العالم وله دراسات عن البيئة والاحتباس الحرارى والتغيرات المناخية التى يرى أنها تمثل خطرا على البشرية أكثر من خطر أسلحة الدمار الشامل.
هذا يعنى أن أوباما رئيس من نوع مختلف.. ليس ضيق الأفق مثل بوش.. وليس متعصبا مثل بوش.. وليس واقعا تحت وهم أن الله يوحى إليه بما يفعله مثل بوش.. ولكنه يؤمن بالخبرة والكفاءة والعلم بصرف النظر عن الانتماء الحزبى.. هو أول رئيس يستعين بعدد كبير من أصحاب الكفاءات من الحزب المعارض.. بل من المنافسين له شخصيا.. هيلارى كلينتون التى كانت تلقى الخطب النارية فى الهجوم عليه أثناء منافستها له على ترشيح الحزب الديمقراطى لأحدهما..
اختيارها وزيرة للخارجية.. نحن إذن أمام رئيس كبير.. أكبر من الخلافات الحزبية.. وأكبر من الحساسيات الشخصية.. وأكبر من الانفعالات.. وهذا يعنى أن (العقل) سيقود أمريكا وسينتهى عصر (الطيش الأمريكى) الذى ميز فترة حكم بوش.
***
لهذا ينتظر العالم أن تكون فترة حكم أوباما نهاية لعصر اليمين المتطرف فى أمريكا- الذى كان يمثله بوش وإدارته- وبداية لعصر أمريكى جديد تعود فيه أمريكا إلى احترام مبادئ العدالة والقانون الدولى وحقوق الإنسان وحرية الشعوب.. وينتظر الأمريكيون - والعقلاء منهم بصفة خاصة - أن تجد أكبر مشكلات أمريكا الداخلية حلا لدى إدارة أوباما العاقلة التى تحترم الخبرة، وهى المشكلة الاقتصادية التى تهدد أمريكا وأوروبا والعالم كله بسبب حماقة سياسات بوش والفساد الذى انتشر فى عهده وعشش فى البنوك والشركات العملاقة، وهذا موضوع قد يكون له مجال آخر. أما المشكلة الثانية التى ينبه إليها المفكرون فهى خطر تفكك المجتمع الأمريكى الذى يتكون من أصول عرقية متعددة.. البيض من أحفاد المهاجرين من أوروبا.. والسود أحفاد العبيد الذين جلبهم تجار العبيد من أفريقيا وباعوهم للبيض لخدمتهم وعاشوا محرمين من كل حقوق الإنسان.. عبيد! وهم الآن أحرار.. بل إن رئيس الدولة ينتمى إليهم!! ثم المهاجرين من أمريكا اللاتينية وأسبانيا.. وسلالة المهاجرين من آسيا.. وأخيرا المهاجرين من العرب والمسلمين وأبنائهم وأحفادهم.. والمفكرون الأمريكيون يحذرون من استمرار تفكك المجتمع الأمريكى.. فأمريكا تبدو أمة واحدة ، ولكنها ليست كذلك.. وكل فئة ترتبط عاطفيا بأصولها وإذا لم يتم دمج هذه السلالات لكى ينصهر الجميع فى مجتمع واحد متماسك فسوف تكون أمريكا فى خطر!
***
أوباما اختار أن تبدأ احتفالات تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة من أمام النصب التذكارى للرئيس الأمريكى ابراهام لنكولن محرر العبيد الذى انتصر فى الحرب الأهلية لتوحيد أمريكا فى الستينات من القرن التاسع عشر، رمزا لعزمه على أن تكون (الحقوق المدنية) لكل من يحمل الجنسية الأمريكية دون تفرقة، وربما يكون فى ذلك إشارة إلى أنه سيكون أحد بناة أمريكا العظام ويدخل التاريخ مثل لينكولن..
وليس ذلك ببعيد.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف