الرجل الأسود فى البيت الأبيض(2)
يترقب العالم يوم 21 يناير الذى يبدأ فيه الرجل الأسود – باراك أوباما – عمله فى البيت الأبيض كرئيس للولايات المتحدة وهى الدولة التى تؤثر، بل توجه وتقود النظام العالمى فى هذه المرحلة وإلى أن تتغير الأحوال ويحدث التوازن فى النظام العالمى بظهور القوى الجديدة التى ستنهى نظام القطب الواحد ويتحول العالم إلى نظام متعدد الأقطاب.
وإلى أن يأتى هذا اليوم – وندعو الله أن يأتى قريبا لينهى الغطرسة الأمريكية والإسرائيلية – فإن أوباما يبدو كأنه هو أمل العالم لإصلاح ما أفسده بوش وإدارته.. والمشكلة الكبرى أمامه أن شعوب العالم – ومعظم الباحثين والمحللين ينظرون إليه وكأنه مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ العالم مما وصل إليه من أزمات وكوارث ومشاكل صنعتها سياسات بوش الحمقاء. أوباما أمامه مشكلة أخرى هى اتساع الفجوة بين طموح العالم وتوقعاته لما سيحققه من إنجازات ومعجزات، وبين قدرته على تحقيق ذلك.
فالمشاكل المعقدة كثيرة وتحتاج إلى وقت طويل لحلها ولن تكون مدة رئاسته الأولى – وهى أربع سنوات فقط – كافية للقضاء على هذه التلال من المشاكل. وهو نفسه اعترف علنا بأنه لن يستطيع خلال فترة رئاسة واحدة تحقيق برنامجه الذى أعلنه فى حملته الانتخابية، ومعنى ذلك أنه سيعمل – منذ الآن على الفوز بمدة رئاسة ثانية.
وفى نظر الكثيرين أن دخول هذا الشاب إلى البيت الأبيض مكللا بنصر تاريخى غير مسبوق فى الانتخابات الأمريكية يعنى أن التغيير قد تحقق فى أمريكا فى عدة اتجاهات أهمها التغيير فى القيم والثقافة والعقلية الأمريكية التقليدية القائمة على عقيدة راسخة بتفوق الجنس الأبيض. وهذه أول مرة يعلن فيها أغلبية الشعب الأمريكى أنهم يقبلون رجلا مختلفا فى اللون والجذور عن جميع رؤساء أمريكا السابقين، وأنهم قد تخلوا عن عقيدة السادة والعبيد.. وباختصار يرى الكثيرون أن دخول أوباما البيت البيض يعنى أن أمريكا أصبحت أمريكا مختلفة، أمريكا جديدة، أمريكا موحدة وديمقراطية فى طريقها لزوال بقايا التفرقة العنصرية بينما يرى آخرون أن وصوله على هذا الموقع معجزة فى ظروف استثنائية ولن تتكرر.
ماذا سيفعل أوباما.. ومن أين سيبدأ والمشاكل تحيط به من كل جانب؟
بعض المشاكل مقدور عليها مثل فضيحة معتقل جوانتانامو والسجون الأمريكية فى العراق وفى القواعد العسكرية الأمريكية فى الخارج، وسياسة التوقيف والاعتقال العشوائية فى داخل أمريكا التى كانت تطبقها إدارة بوش.. هذه سوف تجد الحل، وهو جاهز من قبل أن يبدأ أوباما رئاسته.. واتخذ قرارا بوقف سياسة التعذيب وسياسة إرسال المعتقلين إلى سجون بلادهم لتعذيبهم فيها وانتزاع الاعترافات منهم بالأساليب غير الإنسانية المتبعة فى تلك البلاد، وسوف يغلق معتقل جوانتانامو لتجميل وجه أمريكا القبيح.
وماذا عن سياسة إثارة القلاقل والأزمات والحروب فى الشرق الأوسط التى ابتدعها بوش وإدارته وأطلقوا عليها اسم الفوضى الخلاقة وأعلنوا أن هدفهم منها إزالة المنظمة وتغيير السياسات فى دول الشرق الأوسط لإعادة بنائه بما يحقق التطابق مع سياسات ومصالح أمريكا وإسرائيل طبعا؟ أغلب الظن أن أوباما سيوقف مشروع تغيير الشرق الأوسط بالفوضى وفرض الديمقراطية بالأسلوب الأمريكى على دول المنطقة بالضغوط السياسية والاقتصادية وبالتهديد باستعمال القوة، ولكن ستبقى سياسة التأثير على دول المنطقة بأسلوب آخر يسمونه (القوة الناعمة) أى بالعمل السياسى وبالدبلوماسية وبورقة المعونات الاقتصادية وبتأثير فى الثقافة والإعلام والتعليم حتى يتحقق الهدف ويحدث التحول الذى تريده أمريكا بدون الفوضى وبدون الحروب.
***
من المؤكد أن أوباما سيكون أكثر واقعية واعتدالا من بوش، وسيعمل على إنهاء الجموح الأمريكى واستهانة أمريكا بأوربا وبدول العالم وبالمنظمات الدولية. المرجح أنه سيعمل مع دول أوربا على أساس الاحترام، ويتفاهم وينسق معها ولا يفرض عليها شطحاته مثل بوش؛ وسوف يرمم علاقات أمريكا مع كثير من الدول بعد أن أصاب بوش هذه العلاقات بشروخ عميقة وأساء إلى صورة أمريكا فى العالم وجعلها تبدو على أنها عادت كما كانت فى الخمسينات والستينات حين وصفها الكتاب الأمريكيون بأنها (الأمريكى القبيح) – سوف يعمل أوباما على التأكيد على القيم الأمريكية.. الحرية.. الديمقراطية.. التسامح.. احترام إرادة الشعوب.. سيعمل على ذلك فى الحدود التى تسمح بها المصالح الأمريكية طبعا.
وقد اثبت أوباما إنه رئيس يعرف طبيعة مسئوليته عن بناء وتقدم بلاده. فقد أعلن أنه سوف يركز منذ البداية على السياسة التربوية فى المدارس ورفع مستوى المدارس الحكومية الذى انخفض فى السنوات الأخيرة وأصبح يهدد أمريكا بالتراجع عن القمة.. وبدأ التنفيذ فعلا بداية صحيحة باختياره وزير تعليم من أكفأ العاملين فى حقل الإشراف على المدارس فى ولاية إيلينوى وهذا الوزير خريج جامعة هارفارد أرقى جامعات أمريكا. وهذا هو الفرق بينه وبين بوش الذى كان يختار وزراءه من المقربين إليه وإلى والده بصرف النظر عن موضوع الكفاءة.. أثبت أوباما أنه يدرك أهمية التعليم لضمان تفوق أمريكا واستمرار قوتها، فليس هناك قوة للدولة تفوق قوة التعليم.. التعليم الجيد هو الذى يضمن إنتاج البشر المتميزين وبالتالى يضمن التفوق التكنولوجى والعسكرى والاقتصادي والثقافى – أى أن التعليم الجيد يضمن القوة الشاملة للدولة.. التعليم هو العنصر الذى يحدد نوعية الشعوب وبالتالى يحدد صعود وهبوط الشعوب.. التعليم الجيد يعنى الإنسان الجيد.. والشعب الجيد.. والعكس صحيح.. وهذا ما اكتشفه ريجان من قبل وأطلق صيحة (أمة فى خطر) حين رأى أن تدهور التعليم يمثل الخطر الأكبر على أمريكا.
***
وشخصية أوباما تجذب المحللين.. وهم يجمعون على أنه عقلانى، ومتواضع، متفتح الذهن، ومتوازن من الناحية النفسية، ويستدلون على ذلك بأنه قام بتوسيع دائرة المستشارين واختارهم جميعا من أكبر المتخصصين فى مجالاتهم.
مما يعنى أنه سوف يستمع إلى الخبراء والمستشارين ولن يركب رأسه كما كان بوش يفعل.. وهذا يعنى أيضا أن الإدارة الأمريكية الجديدة سوف تغير من طريقة ومضمون خطابها ولن تتحرش بالدول وتملى عليها الشروط بفجاجة كما كانت إدارة بوش، وأوباما بدأ بتوسيع دائرة المؤسسات والشخصيات التى يمكن أن تشاركه فى صياغة السياسات والمواقف الأمريكية ولا يتردد فى الاستعانة بخبراء من الحزب المعارض والاستماع إليهم.. والمقربين من أوباما يؤكدون أنه لا يؤمن بنظرية جدوى تعامل أمريكا مع الدول بسياسة العصا والتهديد.. وحين تحدث السياسى المخضرم أسامة الباز عن رأيه فى شخصية أوباما قال إنه ليس مغرورا، وغير عاطفى، وحاسم فى أفكاره بعد دراسة ما فعله الذين سبقوه فى حكم أمريكا وبعد استشارة أكبر مجموعة من المساعدين والمستشارين ومؤسسات الأبحاث.. وأنه يفكر قبل أن يعطى أى وعد بإتباع سياسة معينة، ويكتفى بالقول بأنه سيعمل على أن تكون إدارته جادة فى تخفيف حدة المنازعات فى المناطق التى لها أهمية على المساحة الدولية مثل الشرق الأوسط.
***
هل يعنى ذلك أن أوباما سيكون منحازا للعرب باعتبارهم الطرف صاحب الأرض وصاحب الحق، والذى يتعرض لاعتداءات إسرائيل دائما؟
البعض يسرف فى التفاؤل فيرى أن اوباما سيكون كذلك، ولكن الإسراف فى التفاؤل إلى هذا الحد خطأ كبير. فالمصالح الأمريكية فى الشرق الوسط لن تتغير. ولن يتنازل أوباما أو غيره عنها. وارتباط وجود أمن إسرائيل بالمصالح الأمريكية الاستراتيجية لن يتغير. ولكن يمكن إيجاد حل لأزمات الشرق الأوسط.. فى إيران – وفلسطين – وسوريا – ولبنان – والسودان.. يحقق جانبا كبيرا من العدالة. سوف يعطى اهتماما أكبر بالصراع العربى الاسرائيلى – على عكس بوش، وسوف يهتم بتحقيق السلام.. وقد أعلن رفضه للمبدأ الذى كان يعتنقه بوش وإدارته بأن الأطراف فى الشرق الأوسط ليست جادة فى العمل من أجل التسوية، وأن التلكؤ والانتظار لمصلحة إسرائيل، وفى أكثر من مرة قال أوباما إن هذا المبدأ سيؤدى إلى إضعاف دور ومكانة أمريكا فى المنطقة ولأن يكون لأمريكا دور إيجابى وفعال، وفى نفس الوقت تحدث عن إسرائيل وقال إنه ملتزم بأمنها وبحقها فى الوجود، ومن الواضح أنه سيكون أقل انحيازا لإسرائيل عن بوش، ولن يدعم على طول الخط عدوانها وسياساتها التوسعية واستهانتها بالحقوق العربية.. وهذا يؤدى بنا إلى الأمل فى أن تقوم أمريكا فى عهده بدور الوسيط العادل,
***
وماذا عن العراق؟
الأرجح أنه سينفذ وعوده بانسحاب جانب كبير من قوات الاحتلال الأمريكية من العراق، ولكن سيبقى الاحتلال الأمريكى لسنوات وتنسحب قوات الاحتلال إلى ثكنات وقواعد فى الداخل وتترك مسئولية الأمن لقوات الأمن العراقية، وسيكون مقيدا بما فرضته إدارة بوش على حكومة العراق فى الاتفاق الذى تم توقيعه فى الأيام الأخيرة من حكم بوش.. وهذا الاتفاق يلزم حكومة العراق بمساعدة القوات الأمريكية على البقاء الآمن لسنوات قادمة.
أما بترول العراق فقد انتهى أمره وتم توزيعه على أمريكا وبريطانيا.
لقد تم نهب العراق فى عهد بوش، ولم يتبق فيه ما يمكن نهبه فى أى عهد بعده.