بدهيــات عــن الأمــن والحريــة

في تاريخنا الحديث صفحات مجيدة للشرطة المصرية، تسجل لها مواقف نضالية وطنية أثبت فيها رجال الشرطة أنهم يرتفعون إلى مستوى المسئولية في لحظات الخطر، وأنهم مستعدون للتضحية من أجل سلامة الوطن وحماية الشرعية، مهما تكن قوة الخارجين على الشرعية والقانون. ولا شك أن بطولات الشرطة في مواجهة جرائم الإرهاب المسلح شاهد على ذلك .


وتأتي احتفالات عيد الشرطة مناسبة سنوية لكي تعبر جماهير المصريين عن تقديرهم لرجال الشرطة، الساهرين على حماية الوطن والمواطنين، ولكي نقدم التحية لكل فرد من أفراد الشرطة، كبيراً وصغيراً، ونشد على يده، ونقول له: شكراً.. ليس بالكلمات فقط ولكن بالأفعال، وأقل واجب علينا في هذه الفترة هو تنظيم حركة شعبية، غير حكومية، يشارك فيها المواطنين جميعاً، ويتقدمهم المثقفون، والجمعيات الأهلية، لمساندة الشرطة في معركتها مع الإرهاب، ولرعاية أبناء شهداء الشرطة رعاية من نوع خاص، تجعل هؤلاء الأبناء يشعرون بأنهم وإن كانوا قد فقدوا آباءهم في ساحة الواجب والشرف، فإن ذلك يعطيهم الحق في أن يحصلوا على كل الرعاية الشخصية والتعليمية طوال مراحل حياتهم ليكونوا هم أنفسهم أوسمة حية تزين المجتمع، وتدل على وفائه واحترامه لتضحيات الرجال.. وليس هناك تضحية تفوق التضحية بالروح، وبالحياة ذاتها، من أجل الواجب.


ومن المفيد في هذه المناسبة أيضاً أن نطرح من جديد قضية العلاقة بين المواطنين والشرطة، وقضية الحدود التي يجب الالتزام بها، وعدم تجاوزها، بين طرفين المعادلة بين الشرطة من ناحية باعتبارها الممثلة للسلطة الشرعية، والقائمة على تنفيذ القانون، وحماية النظام العام، وبين المواطنين بما لهم من حقوق دستورية في ممارسة الحريات العامة، بما في ذلك حرية الرأي، وحرية الاجتماع، وحرية المعارضة. وبما لهم من كرامة لا يكون الوطن وطناً إذا لم يحفظها لهم.


وبالرغم من أن الجميع يتصورون أن الحرية لا تحتاج إلى ت عريف أو تحديد، إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، وكل المجتمعات العريقة في الديمقراطية مرت بمراحل من غموض أو اختلال الفهم للمعنى الحقيقي للحرية، إلى أن وصلت من خلال تفاعل الآراء والأحداث إلى فلسفة لحرية واضحة ومحددة المعالم.. ورغم ما نتصوره أحياناً من أن كل مناقشة لقضية الحرية هو تبديد للوقت، أو محاولة للانتقاص منها، إلا أن التطبيق والممارسة في الحياة العملية يكشف كل يوم عن خطأ هذا التصور، ويشير على أنه من الخطأ أيضاً أن ينطلق الجميع في ممارسة لعبة الحرية، قبل الاتفاق على مفهوم الحرية، وعلى قواعد اللعبة، حتى لا تحدث أخطاء يدفع المجتمع ثمنها، وقد يترتب عليها تعثر مسيرة التقدم الاجتماعي، أو اختلال التوازن والاستقرار في المجتمع، وهما من الأسس التي يجب أن نحرص عليها أشد الحرص، ولا نسمح بتركهما لممارسات عشوائية غير منطقية أو غير مسئولة .


والأساس المنطقي التي تقوم عليه فكرة الحرية في أي مجتمع هو ألا تكون حرية فرد، أو مجموعة أفراد، سبباً في تهديد فرد آخر أو مجمعة أخرى، وما يعطيه كل فرد لنفسه وما تعطيه كل جماعة لنفسها من حقوق يجب أن تسمح للآخرين بنفس الحق، وهو أن يكون لهم رأي مختلف، ومواقف معارضة، ولا يحول دون ممارسة هذه الحقوق والحريات إلا أمر واحد: هو أن يكون في حرية البعض عدوان على حرية الآخرين. وفكرة المساواة في الحقوق من الأفكار الأساسية المرتبطة بالحرية ولا تقبل التجزئة أو الانفصال، فإذا أعطت مجموعة لنفسها الحق في أن تتسلح بالبنادق والقنابل، وتقتل الناس على غفلة وهم آمنون، فلابد أن تقبل أن تتم معاملتها بنفس القاعدة ونفس الظروف.. وإذا مارست جماعة حقها في التعبير عن الرأي دون أن تتجاوز حدود الرأي إلى القيام بعمل من الأعمال التي يحظرها القانون، فليس من حق من يختلف معها أن يعاملها بسلاح آخر غير الفكر والرأي. ومبدأ المساواة،  أو المعاملة بالمثل، أو التكافؤ بين طرفي أي علاقة مسألة لا تحتاج إلى شرح طويل.


ولا يحتاج إلى شرح طويل أيضاً أن الأمن مسألة تعلو فوق أي اعتبار آخر، لأن الفرد لا يستطيع أن يعيش أو يتحرك أو ينمو إلا في وجود الأمن.. والمجتمع لا يمكن أن يحفظ تماسكه، أو يحقق أهدافه في رعاية أبنائه وتنمية موارده وتحسين مستويات الحياة، إلا في ظل حالة دائمة ومستقرة من الأمن.. وكذلك فإن الصراع الطبيعي والمشروع بين الآراء والمواقف والمبادئ والأفكار، لا يمكن أن يصل إلى نتائج إيجابية تحقق تقدم المجتمع، إلا إذا قام هذا الصراع في إطار سلمي وفي جو من الأمن لا يزعزعه أحد.. وكل من يسعى إلى خلخلة الأمن، فهو في الحقيقة يرتكب عدواناً على حق الجميع، وبالتالي فإن من حق الجميع أن يوقفوه عند حده، ويمنعوه من تخريب المجتمع وهدم استقراره.. وتهديد مستقبله.


وربما يكون ضرورياً أن نشير إلى الفارق الدقيق بين رأي مخالف يعارض ما هو قائم من سياسات ونظم وقوانين ويطالب بتغييرها، وبين من يقف من المجتمع بما فيه من النظم والقوانين موقف العداء.. الأول ينطلق في حركته من الحرص على صالح المجتمع والرغبة في الإصلاح والتطوير والتقدم، والثاني يعوق التقدم بما يفعله من أعمال التخريب والعدوان. وليس في العالم دولة تعتبر الجريمة عملاً يدخل في إطار ممارسة الحرية.. أو تدرج التحريض على الجريمة في قائمة الأعمال المباحة، أو تعطيل أصحاب كل دعوة الحق في قتل من لا ينتمي إليهم أو يعتنق أفكارهم.. ولو حدث ذلك لانتهى المجتمع إلى التحلل.. ولم يعد مجتمعاً بالمفهوم الحقيقي، وانقلب إلى شراذم تعود به إلى عصر الغابة.


ومن الضروري أيضاً في أوقات الاختيار أن من يحدد كل واحد موقفه.. مع من يقف.. وضد من.. هل يقف مع الشرعية والنظام والقانون.. أم يقف ضدها.. هل يناصر أصحاب مبدأ الصراع الفكري السلمي من أجل التغيير، أم يناصر مبدأ التغيير بالعنف والقتل والتدمير؟.. فإذا كان الاختيار هو مساندة العنف، أو التحريض عليه، أو الوقوف مع خصوم حماة الشرعية والنظام، فإن ذلك يخرج من دائرة الرأي إلى دائرة التحريض على الحرية، والعداء لمؤسسات المجتمع الوطنية التي تقوم بواجبها في حماية المجتمع وأبنائه.


وقواعد اللعبة تلزم أطرافها أن يتفقوا بداية على الوسيلة: هل سيكون الرأي والفكر هما الوسيلة.. أم ستكون القنبلة والقتل؟.. وليس من العدل أن يستخدم طرف وسيلة ويستخدم الطرف الآخر وسيلة أخرى، ولكن نزاهة اللعبة تقتضي أن يلتزم كل أطراف اللعبة بوسيلة واحدة: أما الحوار بالفكر أو العنف.. أما الكلمة أو القنبلة، ومن المستحيل أن يكون هناك حوار بين الكلمة والقنبلة، ومن يقبل بذلك فهو مفرط في حق الله والوطن وأبنائه.


تلك بعض بدهيات لا تحتاج إلى شرح، كان من الواجب أن يكون عليها إجماع كل الفصائل والأفراد قبل أن يبدوا في ممارسة لعبة الحرية.. لكيلا تنقلب الحرية إلى شعار خادع يخفي وراءه نوازع إجرامية وعدوانية تهدد المجتمع ومستقبله، وتهدد الحرية ذاتها، وهذا هو أخطر ما في الموضوع.. ولو كان العقل هو الذي يحكم وحده لما احتجنا إلى إعادة مناقشة مثل هذه البديهيات.. ولكن ماذا نفعل مع عقول غابت عنها أبسط الحقائق.. حتى البدهيات ؟


.



جميع الحقوق محفوظة للمؤلف