جولة المفتى الأمريكية (2)

حققت جولة المفتي في أمريكا نجاحاً فاق بكثير ما كان متوقعاً، وأثبتت أن المجتمع الأمريكي مجتمع مفتوح لكل الاتجاهات، وأن الأمريكيين الذين نشكو من سيطرة الإعلام الصهيوني على عقولهم، يريدون أن يعرفوا عنا الكثير، ولكننا لم ننظم حملات منظمة للاتصال بالرأي العام الأمريكي ومخاطبته باللغة التي يفهمها. وكان فضيلة المفتي الدكتور محمد سيد طنطاوي موقفاً في عرض الصورة الصحيحة عن الإسلام باعتباره دين السماحة والسلام، وليس دين العدوان والإرهاب.. كما كان اشتراك القس الدكتور صموئيل حبيب رئيس الطائفة الإنجيلية في مصر معه في هذه الجولة دليلاً حياً على وحدة المجتمع المصري، وقوة التعاون القائم فيه بين المسلمين والأقباط.


وكشفت هذه الجولة أننا تركنا ساحة الحديث عن الإسلام في أمريكا دون أن يكون لنا فيها وجود بالصوت المعتدل العاقل، فانفرد أصحاب الاتجاهات المريبة بهذه الساحة، وقدموا صورة قاتمة تسيء إلى الإسلام كعقيدة، وتشوه صورة المسلمين، وتلصق بهم اتهامات باطلة.


كشفت الرحلة أيضاً عن أن الإعلام الأمريكي يتعرض بالإساءة إلى الإسلام، ليس دائماً عن عمد أو بدافع الكراهية، ولكن نتيجة الجهل بحقيقة الإسلام في معظم الأحيان.. فلم يكن متاحاً للرأي العام الأمريكي أن يكون صورة عن الإسلام والشريعة الإسلامية ونتائج الحكم بالإسلام إلا من خلال التجربة المريرة مع الحكم الإيراني بسياساته التي تفتقد إلى الحكمة، وتتسم بالرعونة، وتتحدث إلى العالم في نهاية القرن العشرين بلغة القرن العاشر، وتعيد إلى الذهن الغربي ذلك العصر القديم الذي انقضى والذي كانت الكنيسة فيه هي التي تحكم الدولة، ورجال الدين يمسكون بسلطة الحكم ويتحكمون في البشر ويفسرون إرادة الله وفقاً لأهوائهم. وربما كانت صورة اقتتال الأخوة في أفغانستان والدم المسلم الذي يسيل بأيدي جماعات وأحزاب إسلامية قد أعطت للغرب صورة قاتمة عن الإسلام والمسلمين. ويضاف إلى ذلك تلك الأفكار الغريبة التي تصدر من بلاد إسلامية ترفض نتائج التقدم العلمي، وتعادي التقدم الحضاري الذي حققته البشرية، وتدعو إلى العودة إلى الوراء.. إلى قرون ماضية.. وتضاف إليها عمليات الإرهاب التي جعلت صورة الإسلام مرتبطة بالقتل والدم والوحشية.


كل ذلك ساهم في تكوين الصورة السلبية عن الإسلام والمسلمين في أمريكا، وفي الغرب عموماً. وإذا كان اللوبي اليهودي قد شارك في ذلك بنصيب غير قليل إلا أنه لم يأت بهذه الصورة السلبية من فراغ، ولكنه استثمر عوامل التخلف في الفكر الإسلامي المطروح بصوت عال مصحوب بالعدوان والقتل واستحلال أموال الآخرين.


من هنا كانت جولة المفتي في أمريكا غاية في الأهمية، وكان الاستقبال الحار الذي لقيه في كل مكان، حيث كان المسلمون والأمريكيون يأتون إليه في المساجد والكنائس والجامعات التي تحدث فيها ليروه، ويستمعوا إليه، وقد وصلت سمعته إلى بعض الدوائر العلمية في أمريكا على أنه يمثل صوت الإسلام المعتدل.. الإسلام الحقيقي، بسماحته واعتداله، وحبه للبشرية.. وللسلام.. ودعوته إلى العدل والمساواة..


ومن هنا ازدادت الدعوات التي وجهت إلى المفتي لإلقاء أحاديث ومحاضرات، ولم تكن لديه فرصة للاعتذار أمام الإلحاح الشديد عليه. فظل يعقد لقاءاته من أول النهار حتى ساعة متأخرة من الليل طوال الأيام التي قضاها في أمريكا والتي بلغت 12 يوماً كاملة زار فيها خمسة مواقع في ولايتي أوهايو وبنسلفانيا وفي مدينة نيويورك ثم العاصمة واشنطن.. وأجرى مناقشات علمية جادة مع 28 مجموعة من قادة المسلمين والمسيحيين.. العرب والأمريكيين.. ومن قادة رجال الدين وأساتذة اللاهوت وأئمة المساجد.. في كليات إعداد رجال الدين المسيحي وفي المراكز الإسلامية.. وتحدث في 4 مؤتمرات صحفية أمام ممثلي الصحف الأمريكية ووكالات الأنباء العالمية والمحلية.. وأجريت معه 9 لقاءات تليفزيونية على شبكات محلية وعامة.. وقابل 54 صحفياً.. وفي المؤتمر الصحفي الأخير في مركز الصحافة الدولي أجاب عن أسئلة 60 صحفياً.. وفي كل هذه اللقاءات كان معه الدكتور صموئيل حبيب يؤكد في إجاباته سماحة الإسلام، ويقدم الأدلة على التعاون القائم بين المسلمين والمسيحيين، وعلى انحسار موجة الإرهاب، وديمقراطية نظام الحكم في مصر الذي لا يسمح بالحجر على الفكر أو مصادرة الرأي.


وحين التقى المفتي والدكتور صموئيل حبيب في البيت الأبيض مع آل جور نائب الرئيس الأمريكي، قال له آل جور أنه يعرف عنه أنه يمثل الوجه الحقيقي للإسلام المعتدل، وأنه يحمل رسالة التسامح والتعاون ويدعو إلى إقامة علاقات جديدة تتفق مع المبادئ الإسلامية الحقيقية. وأنه يرفض التعصب والتطرف والعدوان باسم الإسلام.. وقال له أيضاً أن زيارته مع رئيس الطائفة الإنجيلية.. وصداقته مع بابا الأقباط الأرثوذكس وما ينادي به من المساواة بين أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن عقائدهم الدينية.. كل ذلك موضع تقدير واحترام، ودعاه إلى أن يكرر هذه الزيارة لإقامة جسور الفهم والتفاهم مع قادة الرأي العام في أمريكا.


وكشفت هذه الزيارة أيضاً عن أن الإسلام في أمريكا ينتشر ولكن المسلمين فيها يحتاجون إلى منارة تضيء لهم الطريق وتشير إلى الاتجاه الصحيح.. فقد بلغ عدد المسلمين في أمريكا الآن ما يقرب من 6 إلى 8 ملايين مسلم، 40% منهم من الزنوج، وفيها 114 مسجداً و426 جمعية إسلامية، وآلاف المنشآت التي يديرها مسلمون لخدمة المسلمين.. ولكن الجهود الإسلامية ممزقة ومبعثرة.. والمركز الإسلامي في واشنطن يتطلع إلى أن تقوم مصر بدورها القيادي في إدارته وقد كان لها الفضل في إنشائه.. والأمر يحتاج إلى إقامة جسور للاتصال بين المؤسسات والمنظمات والجمعيات الإسلامية في أمريكا، وهي كثيرة جداً، وأيضاً مع الشخصيات القيادية المسلمة وأساتذة الجامعات والباحثين المتخصصين في الإسلاميات وهم أكثر مما نتصور.. وبين مصر باعتبارها قاعدة الإسلام وموطن الأزهر وقلعة الفكر الإسلامي المستنير.. كما يحتاج إلى زيادة عدد المنح في جامعة الأزهر لمسلمي أمريكا.


كشفت هذه الزيارة عن أننا أخطأنا في فهم المجتمع الأمريكي، وتصورنا أن حملات التشويه التي نلمسها في الإعلام الأمريكي للإسلام والمسلمين كلها مقصودة ونابعة من كراهية الأمريكيين للإسلام، والحق أن معظمها نتيجة للجهل، ونقص المعلومات، وعدم وجود من يشرح ويفسر ويوضح الحقائق.. والنتيجة أنه أصبح ممكناً أن تنسب إلى الإسلام كل جريمة يرتكبها مجرم ديانته الإسلام.. وأصبح ممكناً أن يتم الربط في المجتمع الأمريكي بين الإسلام وبين العدوان والجريمة.. بحيث استقرت في العقل الأمريكي صورة ذهنية جامدة تمثل المسلم على أنه مصدر للخوف، وأنه كائن غريب على هذا العصر.. ينتمي إلى الماضي ويريد أن يعيد هذا الماضي في حلم مستحيل.. وعلى كراهية عمياء للحضارة بكل صورها، ويريد بالذات تدمير الحضارة الغربية، ويقف منها موقف العداء.


كشفت زيارة المفتي أيضاً عن مدى القصور في أجهزة الدعوة الإسلامية في مصر، وفي بقية الدول الإسلامية.. لأنها أغفلت العمل في أمريكا على تصور أن أمريكا مجتمع مسيحي، دون أن تدرك التغيير الذي يطرأ على المجتمع الأمريكي حيث ينتشر فيه الإسلام بسرعة، فقد أصبح الإسلام الآن هو الدين الثاني في أمريكا.. وهذا يجعل بعض الباحثين يتساءلون بجدية: هل يمكن أن يصبح الإسلام هو الدين الأول الذي يسود أمريكا في القرن القادم، مع ما فيه من جاذبية لدى الأمريكيين، بحيث لا يكاد الأمريكي يتعرف على حقائق الإسلام حتى يؤمن به..


وأخيراً تطرح زيارة المفتي لأمريكا علينا سؤالاً مهماً هو: هل نخطط ونعمل.. أم نكتفي بالشكوى من اللوبي اليهودي..؟ والمجتمع الأمريكي مفتوح.. وفيه فرصة لكل صاحب فكر سليم لكي يطرح فكره..


هل نتحرك لنغير ما نشكو منه في أمريكا.. أم ننتظر أن يتغير من تلقاء ذاته.. وهذا لن يحدث..؟

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف