تصحيح مفهوم السلام

خلال زيارة السيد عيزرا فايتسمان رئيس إسرائيل منذ أيام للقاهرة كانت هناك لقاءات رسمية بين بعض المثقفين المصريين والوفد المرافق له, وكان واضحًا من هذه اللقاءات أن كل طرف يريد أن يعرف أكثر عن الطرف الآخر, ويريد أيضًا أن يوصل إليه رسالة تتضمن مواقفه وأراءه.. ولم تكن هناك حساسية فى الحوار, ولكن لم يكن هناك أيضًا اتفاق على كثير من النقاط, وبخاصة فيما يتعلق برؤية الإسرائيليين للعالم العربى وللعرب عمومًا, والحاحهم على البدء فورًا فى عملية السلام الدافئ الذى يختلط مفهومه حتى يتجاوز دائرة إنهاء الصراع, ودائرة حسن الجوار, إلى أن يقفز مرة واحدة إلى دائرة الصداقة الحميمة والعلاقات التفصيلية, مع تجاهل ما فى الواقع الحالى من عوائق تحول دون تلك, هذه العوائق من صنع إسرائيل وحدها, وليست من صنع العرب.


على سبيل المثال.. كان غريبًا أن يسأل الوفد الإسرائيلى, لماذا انتجتم فيلم "الطريق إلى آيلات" وهو فيلم يحكى عن انتصار حققته القوات المسلحة المصرية على القوات الإسرائيلية, أو ليس فى ذلك أحياء لروح العداء, وإيقاظًا لمشاعر قديمة من الأفضل ألا تستيقظ مع مرحلة السلام..؟


وكان السؤال غريبًا.. أولاً لأن إسرائيل تصدر فيها كل يوم كتب تتحدث عن انتصارات إسرائيل فى عام 1967 وفى صحافتها تحليلات كثيرة عن أمجاد العسكرية الإسرائيلية, فكيف يتجاهل المصريون تاريخهم وانتصاراتهم.. وهل معنى إقامة السلام حذف الماضى.. وهل يمكن إقامة السلام بأثر رجعى..؟


وكانت الإجابة عن سؤالهم: إن هذا الفيلم ضرورى بالنسبة لنا, وسنعد أفلامًا أخرى عن العسكرية المصرية فى مختلف مراحل التاريخ, لأن المصريين فخورون بقواتهم المسلحة, ولها تاريخ طويل مشرف, وسجل أمجاد لا يمكن أن يقدر أحد على اخفائه أو التقليل من أهميته.. ولأن السلام لا يتعارض مع الوطنية المصرية.. واستمرار المشاعر الوطنية مرتبط بالوجود المصرى ذاته ولا يمكن استدعاء هذه المشاعر أو قتلها حسب الطلب.. ولأن هذا الفيلم وأمثاله فى النهاية رسالة لنا, ورسالة لكم.. رسالة لنا تستدعى ذكريات ضحى فيها شبابنا وبذلوا دماءهم من أجل حرية وكرامة وطنهم.. وهذا شىء طبيعى يظل ساريًا فى المصريين مسرى الدم فى العروق.. وهو رسالة لكم تقول أن السلام القادم لم يتحقق بتفضل أو كرم من جانب واحد, ولكنه نتيجة تضحيات ودماءو هو سلام أخذه المصريون ولم تتفضل إسرائيل بمنحة لهم..


وكانت هذه نقطة مهمة تتجاوز الفيلم بطبيعة الحال لتصل إلى تحديد المفهوم الصحيح للسلام وهل يعنى السلام تنازل العرب عن هويتهم, وتاريخهم أو مشاعرهم الوطنية.ز والإجابة واضحة لا لبس فيها ولا غموض.


وعلى سبيل المثال أيضا سأل بعض أفراد الوفد المرافق: لماذا تتباطأون فى خطوات تنفيذ السوق الشرق أوسطية.. وإسرائيل قد بذلت جهدًا كبيرًا لكى تصبح دولة معترفا بها من دول المنطقة..؟


وكانت الإجابة أيضًا واضحة: أن إسرائيل لديها فرصة لكى تصبح دولة من دول المنطقة ولكن عليها أن تقدم الدليل على صدق نواياها فى أنها تريد أن تكون دولة من دول المنطقة ولا تريد أن تكون الدولة المسيطرة أو المهيمنة أو صاحبة اليد العليا فى المنطقة.. وهل يمكن أن ترحب المنطقة بدولة تمارس كل هذا العدوان والعنف على أبناء المنطقة وأصحاب الحقوق فيها.. هل يمكن أن تقوم صداقة والقوات المسلحة الإسرائيلية تحتل بالقوة مرتفعات الجولان وتمارس الضغط على دولة عربية وتساومها فى إعادة حق لها لا ينازع فيه أحد.. وهل يمكن أن ترحب المنطقة بدولة تستخدم أبشع صور القمع على أبناء الشعب الفلسطينى وتضيق عليه سبل الحياة فى أبسط صورها..؟ هل يمكن أن ترحب المنطقة بدول تعلن أن عاصمتها هى القدس مع ما للقدوس من مكانة شديدة الحساسية بالنسبة للمسلمين وللفلسطينيين..؟ وهل يمكن أن ترحب المنطقة بدولة تكدس السلاح, وتحتفظ بالسلاح النووى, وترفض التوقيع على معاهدة انتشار الأسلحة النووية, وتطالب العرب بالتوقيع عليها وحدهم..؟


هناك عوائق على طريق السلام, لا يضعها العرب, ولكن تضعها إسرائيل, ولد مد العرب أيديهم بالسلام, ولكن بأى مفهوم..؟


أهم من تحقيق السلام أن نتفق أولاً على تحديد مفهوم هذا السلام.. وتعلن إسرائيل أن كانت مستعدة له بمعناه الحقيقى أم أنها تريد من العرب أن يتركوا القضايا الأساسية التى تتعلق بحياتهم ووجودهم ومستقبلهم, وينشغلوا بعقد صفقة أو إقامة مشروع مشترك, ومثل هذه الأمور يمكن أن تتم ولكنها ليست هى السلام, ولا هى التعبير الصحيح عن السلام.. التعبير الصحيح عن السلام لا يكون إلا بمواقف جديدة من جانب إسرائيل تثبت فيها أنها تتخلى عن الإرهاب.. وعن العدوان.. وعن الرغبة فى الهيمنة.. وأنها تريد أن تعيش وتدع العرب أيضًا يعيشون.. تريد أن نحقق الرخاء لنفسها ولا تعوق مسيرة العرب لكى تحققوا لأنفسهم الرخاء أيضًا.. تريد أن تغير الفلسفة والأيديولوجية العدوانية القديمة وتحل محلها فلسفة وأيديولوجية جديدة.. وهكذا.


كان واضحًا فى الحوارات أيضًا أن الإسرائيليين لا يعوفون الواقع العربى جيدًا رغم توهمهم أنهم يعرفون كل الخفاياوالدقائق وما تحت الجلد العربى.. فبعضهم يتحدث وكان القادة العرب قادرون على تسيير شعوبهم فى أى أتجاه بينما إسرائيل على العكس: دولة ديمقراطية, فيها مؤسسات, ورأى عام قوى, لا تستطيع الحكومة تجاهله أو تغييره أو العمل على عكس إرادته.. وأن كان الإسرائيليون يستثنون مصر ويعترفون أن الديمقراطية فيها والمؤسسات والرأى العام هى التى توجه السياسة فيها, ولكنهم لا يعلمون أن الرأى العام العربة موجود وبخاصة تجاه إسرائيل تعطى فى المقابل عطاء صحيحًا فى أتجاه السلام بمفهوم العدل وليس بمفهوم الظلم.. وإسرائيل تعرف أن الرأى العام العربى متحفز, ولديه أسباب لذلك, أهمها أنه يرى أن ما تفعله إسرائيل هو عكس ما تقوله.. فهى تتحدث عن حقوق الفلسطينيين وتفعل ما يعوق حصول الفلسطينيين على هذه الحقوق.. وهكذا مع سوريا ولبنان.


خلاصة الحوارات الجانبية غير الرسمية أن لدى إسرائيل فرصة ذهبية لأنهاء عصر كامل من الحروب والكراهية والعداء.. وأن تصبح دولة مقبولة من جيرانها العرب, ولكن ذلك يحتاج إلى أن تكون راغبة فى التخلى عن أوهام القوة, وأحلام السيطرة, ومستعدة للتعاون المتكافىء على أن الغرب لهم نفس الحقوق التى يطالب الإسرائيليون بها لأنفسهم..


ولا شك أن مثل هذه الحوارات ضرورية لكى تعرف الصفوة الإسرائيلية أن العرب هم أيضًا بشر: لهم مشاعر وأفكار وإرادة قومية ومقدرة لا تمضى بمثل هذه السهولة التى يتصورونها, وأن عليهم أن يجدروا أولاً مفهوم السلام الذى يريدونه لكى نعمل معهم فى إطاره.. لأنه من غير المعقول أن يطالبوا منا شياء لا يريدون هم تقديمها من جانبهم.. لأن مفهوم السلام لا بد أن بكون واحدًا.. وقائمًا على المساواة.. وأى خلل فى الميزان لصالح طرف وضد الطرف الآخر يتنقص من ضمانات هذا السلام فى المستقبل.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف