سر طه حسين! (3 - 3)
عندما تقرأ مذكرات سوزان طه حسين قد نفاجأ بصورة لطه حسين تختلف عن صورته التى تتكون لدينا من قراءة كتبه، أو الاستماع إلى أحاديثه التى كان يلقيها فى الإذاعة، أو حتى عن صوره التى تنشرها الصحف أو تظهر فى التليفزيون.. وقد ظهر فى التليفزيون مرتين فقط فى حوارين مع مجموعة من الأدباء والكُتاب المعروفين.
نفاجأ بأن طه حسين المقاتل العنيد الذى وقف فى وجه الملك، وحارب ديكتاتورية رئيس الوزراء إسماعيل صدقى باشا، وخاض معارك سياسية وأدبية كان فيها صلبا وقويا ولا يخشى شيئا.. نفاجأ بأنه كان يجلس وحيدا فى بعض الأيام، ويفقد الرغبة فى الكلام والتفاعل مع الآخرين، وتلاحظ زوجته - رفيقة عمره - دموعه تنساب.. كانت لحظات الألم والدموع كثيرة ولكن الناس لم تكن ترى إلا صلابته وابتسامته ورأسه المرفوع دائمًا. تقول سوزان فى مذكراتها إن طه حسين كان يرافق شاعرا أعمى عاش منذ عشرة قرون، هو (أبو العلاء المعرى) الذى كان موضوع رسالته التى تقدم بها إلى الجامعة المصرية كما كان موضوعا لكتابين من كتبه. كان أبو العلاء يقول عن نفسه إنه سجين المحبسين.. العمى والبيت الذى لا يخرج منه، وعاش طه حسين آلام هذا الشاعر وأحس مثله مرارة حياة الظلام والحرمان من رؤية من يحب، وكان يتقمص شخصية هذا الشاعر الضرير فى بعض اللحظات حتى قيل إن طه حسين هو أبو علاء آخر، كلاهما عاش غارقا فى الظلام، وكلاهما كان يرفض القدر، وكلاهما كان يملك وضوحا خارقا وموهبة فى التعبير استثنائية وشامخة وقدرة على التحدى، وجرأة فكر لا تعرف التردد، ويريد أن يكون حرا ويحاكم العالم، غير أن طه حسين لم تكن لديه تلك النزعة التشاؤمية السوداء المطلقة التى لا مخرج منها كما كان أبا العلاء، ولم يكن لديه شعورا باحتقار الناس مثل أبى العلاء.
لكن سوزان تتدارك فتقول إن طه حسين كان فى بعض الأحيان ينعزل فى وحدة قاسية ويشعر فى أعماق نفسه بأنه وحيد وحدة لا خلاص منها، ومع ذلك كانت لديه قوة لا تقهر، ولم يكن يعطى الانطباع بأنه أعمى!
***
وكان طه حسين يهاجم الملك، وتقول سوزان: كان القصر معاديا لنا، ويكتب هو رسالة يقول فيها: سأكتب مقالا من شأنه أن يكدر الملك، وربما تأثر منصبى من ذلك، لا يهمنى، فلست أنا بالذى يشترى منصبا مقابل عبودية البلاد! ويكتب لها مرة أخرى: كل الصحف تقف ضدى، وإنى احتمل وحدى كل الصدمات بلا مبالاة. ويقول لها فى رسالة أخرى: إننى لن أؤيد الاستبداد على الإطلاق. هو إذن مقاتل من أجل الحرية.
***
تصف زوجته فتقول: هو الحزين دائمًا، بينما لحظات الانبساط والراحة نادرة وأكثر منها لحظات الغيظ.. وكان فى السنوات الأخيرة يقول لها بحزن: كنت أقل الجميع اعتبارا فى نظر أسرتى.. كنت مهملا.. محتقرا.. ومع ذلك فإن كان لهم أن يفخروا.. ثم لا يكمل الجملة وهى فى الغالب (فليس لديهم من يفخرون به سواى) وهذه حقيقة بالنسبة لأسرته ولمصر وللعالم العربى.. ويبدو أن اللحظات المؤلمة فى حياة طه حسين كانت كثيرة حتى أننا نجد ابنه مؤنس يكتب إليه مواسيا: هناك رجال خلقوا من أجل القيم المطلقة والخالدة، وآخرون خلقوا من أجل القيم العابرة والنسبية، وليس للأوائل الحق فى أن ينسوا رسالتهم. وللحق فإن طه حسين لم ينس رسالته ولم يقصر فى أدائها أبدًا، حتى أنه قال يوما لزوجته - وكانت تخفف عنه شعوره بالألم: إننا لا نحيا لنكون سعداء، ولكن نحيا لنقوم بما يجب علينا القيام به.. وقال لها فى مناسبة أخرى: إن الألم الحقيقى أن تكون لدى الإنسان الرغبة ولا تكون لديه القدرة.
وقد شعر بالألم يتجدد لحرمانه من نعمة البصر حين طلب الملك استدعاء أكبر جراح فرنسى للعيون لكى يجرى عملية جراحية لإعادة البصر إلى طه حسين، وبعد الفحوصات وجد الطبيب أن ذلك مستحيل، ثم تجدد الألم مع شعوره بالامتنان عندما تلقى رسالة من عامل فرنسى فى السادسة والثلاثين من عمره قرأ مقالا عن طه حسين فكتب إليه يعرض تبرعه بإحدى عينيه، ورد عليه طه حسين يشكره، ولكن هذا العامل عاود العرض مرة أخرى بإلحاح، ولم يكن هذا العامل وحده الذى تقدم بالتبرع بإحدى عينيه، بل كان هناك من مصر ومن دول مختلفة كثيرون يرغبون فى ذلك.
***
تألم طه حسين عندما قررت السلطة منع طبع كتابه (المعذبون فى الأرض) ونشر الكتاب فى لبنان عام 1949، وتألم أكثر فى عام 1964 حين كان أحد رؤساء تحرير جريدة الجمهورية وأصدر حلمى سلام عند تعيينه رئيسا لمجلس الإدارة قرارا بفصله من الجريدة، وتألم أكثر وأكثر عندما حاصر الحاقدون ابنه مؤنس طه حسين بمناوراتهم الشريرة واضطر بسبب ذلك للاستقالة من منصبه فى جامعة السوربون، وكان مؤنس المصرى الوحيد الذى يحمل شهادة «الأجريجاسيون» فى الأدب وحصل على درجة الدكتوراه من السوربون بتفوق.. كان طه حسين يتألم من أجل ابنه بأكثر مما كان يتألم للنكران الذى لقيه من مسئول الصحيفة فى مصر. وقد عرضت على مؤنس وظيفة فى مصر لا تليق بمؤهلاته، فلم يقبلها وأخيرًا وجد عملا يناسبه فى اليونسكو.
وفى أثناء الحرب العالمية الثانية كانت الغارات على الإسكندرية يوميا ودوى المدافع والانفجارات فى معارك العلمين يصل إلى الإسكندرية، فى هذا الوقت كان طه حسين يعمل على تأسيس جامعة الإسكندرية، ولم تكن المكافأة المخصصة له تكفى ليقضى لياليه فى فندق فكان ينام فى غرفة صغيرة وضع فيها سريران من الحديد من أسرّة المستشفى فى المبنى المؤقت الذى خصص لإدارة الجامعة، وكانت إذاعة ألمانيا تذكر اسم طه حسين مصحوبا بتهديدات بسبب نشاطه ومقالاته ضد النازية وهجومه على ديكتاتورية هتلر، ولم يجعل أحدًا يشعر بالألم النفسى الذى كان يشعر به وهو رئيس جامعة الإسكندرية ومؤسسها ويعامل بمثل هذه المعاملة، لكنه وهو صاحب مبدأ أن الإنسان خلق لكى يؤدى الرسالة والواجب لم يتذمر ولم يشك لأحد حتى حقق رسالته بإنشاء جامعة الإسكندرية وتولى منصب مدير الجامعة بعد ذلك.
***
فى يوم دخل عليه مجهول فى مكتبه، وبالحدس شعر طه حسين أن هذا المجهول كان يريد به شرًا فسرعان ما ضغط على الجرس أمامه فهرعوا إليه فى الحال وكان شعوره فى محله فقد كان ذلك المجهول يحمل سكينا وينوى قتله.. وهكذا يتعرض أصحاب الفكر الحر لمخاطر تأتيهم من الأغبياء والجهلاء وأصحاب الأهداف الخبيثة التى تعادى الفكر والمفكرين.
لا أحد يعلم أن طه حسين مرت به ساعات شعر فيها باليأس فى أيام تكاثرت عليه فيها السكاكين، وحاصرته المؤامرات، وعن أحد هذه الأيام اعترف لزوجته بأنه فكر فى الانتحار!
وفى ساعة يأس أخرى قال لها: انتويت أن أتخلى عن السياسة، وسأكرس نفسى كعالم وكأستاذ تاركا الميدان للثرثارين والوصوليين، لقد بلغ اشمئزازى أوجه، واعتزل السياسة بعدها وتفرغ للأدب والفكر.
وما أكثر ما كان خافيا علينا من حياة طه حسين خلف الواجهة البراقة لعميد الأدب العربى الذى شرف مصر والعرب وكان الوجه المشرق لنا فى العالم.
ويبقى أن نستكمل الحديث عن طه حسين.