ثورتنــا فــــــى عيونهم
عدت من لندن وفيها اعتصامات ومظاهرات تفوق الحصر، بعضها احتجاجا على سياسة حكومة المحافظين التى أدت إلى زيادة البطالة وزيادة الأسعار وانسحاب الدولة من بعض الخدمات الضرورية، ومحاباة الأغنياء وزيادة الضرائب على الطبقة المتوسطة.. وبعض المظاهرات بسبب زيادة المصاريف الجامعية.
وأمام كاتدرائية «سانت بول» الشهيرة أقام المعتصمون 80 خيمة فى حديقة عامة وعلى الأرصفة.. وأمام البرلمان فى وسط المدينة فى حى «وست منستر» أقام معتصمون آخرون خيامهم.. وأمام سفارة سوريا وقف مئات يهتفون احتجاجا على قتل المدنيين.. وأمام سفارة اليمن مئات آخرون يهتفون ضد الدكتاتورية ووحشية التعامل مع ملايين الشعب اليمنى التى تطالب بحقها المشروع فى تحرير وطنها من الاستبداد.. أما أمام السفارة الليبية فإن الآلاف أمامها يرقصون ويرفعون أعلام الثورة ابتهاجا بانتصار الإدارة الشعبية والتخلص من الطاغية..
كل هذه المظاهرات والاعتصامات تحت حماية البوليس الذى يقف بعيدا يراقب فقط ولا يتدخل إلا إذا تسببت المظاهرات فى إساءة إلى الأمن العام وهو أمر لا يحدث.. ولذلك يتعامل البوليس مع المتظاهرين باحترام كما يتعامل المتظاهرون معه بمنتهى الاحترام.. نحن فى بريطانيا.. فى بلد متحضر.
ومنذ أسابيع سارت مظاهرات فى عواصم عديدة بمناسبة (اليوم العالمى للتظاهر) فى إعلان عالمى بأن التظاهر حق من حقوق الإنسان بشرط أن يكون سلميا وفى إطار القانون ودون تعطيل حركة الحياة.. أما فى الولايات المتحدة ففيها مظاهرات واعتصامات لم تشهد مثلها من قبل.. فى البداية تجمع مئات فى حى المال والبنوك الكبرى فى شارع (وول ستريت) الشهير فى حى مانهاتن فى نيويورك.. وما يلفت النظر أن المتظاهرين والمعتصمين فى وول ستريت وغيرها فى أنحاء العالم يعلنون تأثرهم بثورة المصريين فى 25 يناير حتى أنهم يطلقون على أماكن اعتصامهم اسم (ميدان التحرير) وقد نشرت مجلة التايم الأمريكية - أشهر المجلات السياسية العالمية - مقالا بعنوان (قصة ثورتين) تناول بالتحليل عوامل (التآخى) بين ثورة يناير فى مصر و(ثورة الغضب) فى وول ستريت التى امتدت إلى عدد كبير من المدن الأمريكية انتشرت فيها المظاهرات والاعتصامات احتجاجا على السياسة الاقتصادية المنحازة لأصحاب المليارات والملايين واختلال ميزان العدل الاجتماعى. وتساءل المقال: هل ستتحول الحديقة التى يقيم فيها الأمريكيون الرافضون للتفاوت الاجتماعى الرهيب فى الثروات والأجور.. هل ستتحول الحديقة إلى «ميدان التحرير» وكشف المقال عن أوجه الشبه بين وول ستريت وميدان التحرير فى «الروح» وفى اختيار المكان، وسلوك الاحتجاج السلمى المتحضر، وأيضاً فى انفجار مشاعر الغضب بسبب غياب العدالة فى النظام السياسى والاقتصادى، ففى مصر - كما قالت تايم - كان النظام غير ديمقراطى، ومنحازاً لطبقة محدودة من الصفوة حصلت على معظم ثروات البلاد، بينما أعطى النظام الحاكم للعالم انطباعاً للخارج بأن الاقتصاد فى مصر ينمو بقوة ويروج الأكاذيب بأن أحوال المواطنين فى تحسن مستمر وبأنه مهتم بمحدودى الدخل وبالمهمشين سكان العشوائيات، ويعمل بجدية على خلق فرص العمل للقضاء على البطالة، ثم تبين أن ذلك كله غير صحيح، وأن النمو لم تصل ثماره إلى القاعدة العريضة وأن الفقراء ازدادوا فقرا، والطبقة المتوسطة زادت معاناتها، وفى الولايات المتحدة انفجر الغضب على النظام الاقتصادى المنحاز - أيضاً - للصفوة من الأثرياء بينما تعانى الطبقات الأخرى من تزايد البطالة وسوء الأحوال.
***
وهكذا اتفق الأمريكيون مع المصريين على أن «العدالة الاجتماعية» يجب أن تكون هى جوهر التغيير. ليس هذا فقط بل إن الثورتين متماثلتان فى عدم وجود قيادة أو جماعة واحدة تتولى تنظيم الجماهير، ولكن الجماهير هى التى نظمت نفسها.. وفى ميدان التحرير كان للثورة طابعا احتفاليا حيث تجمع رجال ونساء فيهم الشباب والشيوخ، يرددون الأناشيد والأشعار والخطب والشعارات وبعضهم فى حلقات للرقص الجماعى، وهم يحتفلون بثورتهم ويعلنون إصرارهم على التغيير، هذه الروح انتقلت حرفيا إلى شارع وول ستريت وحديقة زكوتى فصار المشهد كأنه احتفال حاشد.. ومثل ميدان التحرير قام المحتجون بتنظيم أنفسهم فى مجموعات، وظلوا حريصين على المحافظة على السلوك الحضارى - كما فعل شباب ميدان التحرير- فقد حافظوا على مكان تجمعهم فلم يحدث أى تخريب أو تعطيل للمواصلات أو لحركة الحياة، وقاموا بتنظيف الساحة والحديقة، وقد أدركوا - مثل شباب التحرير - أن تأثيرهم سيكون أقوى عندما يعلنون مطالبهم بشكل حضارى، وبدون أى مظهر من مظهر العنف، وأيضاً دون السماح بأن يندس بينهم عناصر الشغب والتخريب من أية جهة.. ومثل شباب التحرير اعتمدوا على شبكات التواصل الاجتماعى على الإنترنت للدعوة للتجمع، ووجهوا بالإنترنت رسائلهم إلى العالم مباشرة قبل أن تصل قضيتهم إلى الصحافة - تماما كما حدث فى ثورة يناير - وبعد أن تزايدت الأعداد بانضمام الآلاف الجدد، وانتشار ميادين التحرير فى أكثر من ولاية وأكثر من مدينة، لم تجد الصحافة بدا من الاهتمام بهم وبقضيتهم، بالضبط كما حدث مع ثورة التحرير.
***
الفارق بين الثورتين - كما قالت كبرى المجلات الأمريكية - إن ثورة يناير فى مصر واجهت أبشع أساليب القمع والعنف إلى حد القتل بالمئات وإصابة المئات بعاهات مستديمة، وبالطبع لا تسمح الديمقراطية الأمريكية بمثل هذه الوحشية فلم تواجه حشود وول ستريت مثل هذا التهديد، وفى ثورة يناير قام النظام بقطع الاتصالات بالتليفونات المحمولة والإنترنت فكان ذلك سببا فى زيادة أعداد الثوار ليس فى العاصمة وحدها ولكن فى كل عواصم الأقاليم، وبالطبع لم يكن ممكناً أن تفكر الحكومة الأمريكية بقطع الاتصالات، فهذا مستحيل.. وكل ما تستطيع الحكومة أن تفعله هو ترك الحرية لكل من يريد الاحتجاج أو التظاهر أو الاعتصام، مع شرط واحد هو عدم السماح بالقيام بعمل من الأعمال التى تخالف القانون أو تتسبب فى تعطيل الحياة اليومية.
لم يتكرر ميدان التحرير فى بريطانيا وأمريكا فقط ولكنه تكرر فى فرنسا وإيطاليا وأسبانيا، بل وظهر أيضاً فى الشرق الأقصى، وتحول إلى رمز لحركة الشعوب للمطالبة بالعدل والحرية والكرامة ورفض كل صورة من صور الطغيان والاستغلال والظلم وتزييف إرادة الشعوب، ودخل ميدان التحرير التاريخ.