أين المشروع العربى؟ (2)

يرتكب العرب خطأ تاريخيًا لا يغتفر إذا تركوا الأمر الواقع يفرض نفسه عليهم، أو تصوروا أن الآمال العربية يمكن أن تحقق نفسها بنفسها دون جهد وجهاد كبيرين. فالواقع العربى ما يبدو الآن، وحتى فى المستقبل القريب، لا يبشر باحتمالات قيام وحدة عربية، ولا تكامل عربى، ولا سوق عربية مشتركة، ومن صالحنا أن ندرك الواقع كما هو، ونعترف بما فيه من سلبيات، كى نستطيع – إن أردنا – أن نغيره وعلى أية حال فإن العمل العربى المشترك لا يزال أملاً قائمًا على عوامل موضوعية تفرضه، ولكن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فلابد أن يغير العرب أنفسهم أولاً، ويغيروا عناصر كثيرة فى واقع سياستهم لكى يغيروا العالم بعد ذلك.


وبدلاً من أن يتفرغ البعض للبكاء على أن السوق الشرق أوسطية قادمة على أنقاض السوق العربية المشتركة.. فإن الإخلاص يقتضى الاعتراف بأن السوق العربية المشتركة لم تقم أبدًا، ولم تقوم بالصورة المأمولة خلال سنوات قريبة قادمة، ولو كنا جادين فى الوصول إليها لكنا قد اتخذنا الخطوات الأولى على الطريق المؤدى إليها.. وأبسطها إيجاد أرضية مناسبة لرجال الأعمال فى البلاد العربية للتعارف والاتصال، ولكنا قد أقمنا نوعًا من التنسيق الجاد بين المؤسسات الاقتصادية والإنتاجية والتجارية فى هذه البلاد، أو على الأقل كنا وضعنا دليلاً تجاريًا للدول العربية يسهل لرجال الأعمال وسائل الاتصال والاستفادة بالإمكانات المتاحة فى كل بلد عربى..


والكل يعرف أن العلاقات التجارية بين الدول العربية وبعضها أقل بكثير جدا من علاقاتها مع الدول الخارجية، ويكشف تحليل الواقع أيضًا عن حقيقة مؤلمة هى استمرار اختلاف النظم التجارية والنقدية بين الدول العربية تضع تسهيلات مبالغًا فيها فى التعامل مع الأسواق الخارجية بمثل ما تضع تعقيدات مبالغ فيها فى التعامل مع الأسواق العربية, فإذا أضفنا إلى ذلك التعقيدات التى تضعها بعض الدول العربية أمام منح تأشيرات لدخول العرب, ونظام الكفيل الذى لا مثيل له فى العالم كله. والذى يجعل كل عربى يدخل بلدًا عربيًا آخر فى ذمة مواطن من أبناء البلد، وكأنه نوع  حجيث من ألرق، بحيث لا يتحرك المكفول ولا يغادر ولا يملك التصرف، إلا بموافقة الكفيل، وإذا أضفنا أيضًا الاختلاف الشديد فى النظم النقدية بين كل بلد عربى وكل بلد عربى آخر.. كل ذلك مع عدم استيعاب لطبيعة النظام الذى يسير العالم نحوه، ولعبة الدول الكبرى لتحقيق مصالحها على حساب الدول الأخرى، وتجاهل الآثار التى تترتب على اتفاقية الجات وآثارها على الدول الصغيرة.. بهذه التفاصيل نجد الصورة لا تنطوى إلا على أقل القليل من التفاؤل.


وفى غياب الوعى بالحاضر، ومجرى أحداثه بالتاريخ ودروسه، لا تدرك بعض الدول العربية ولا يظهر هذا الإدراك على أية حال فى صورة عملية، أنه لن يكون هناك وطن قادر على البقاء بمعزل عما يجرى فى العالم فى خندق الحماية أو الدعم.. والعالم فى مرحلة انفتاح كبرى، بينما بعض العرب ما زالوا يعيشون فى وهم المقدرة على استمرار الحياة فى كهف خاص يعزلهم عن العالم.


وما زال المرض العربى القديم ساريًا فى الكيان كله.. مرض الازدواجية بين القول والفعل، الأقوال غزل فى الوحدة العربية، والأفعال فى الاتجاه المعاكس، تكرس انعزال وانفصال الدول العربية ويكفى مثال واحد، هو اتفاقية السوق العربية المشتركة وما فيها من كلام جميل عن التواسع الكبير فى التجارة بين الدول العربية، والفعل مختلف.. إذ ما زالت الدول العربية تستورد من خارج المنطقة نفس السلع التى تنتجها دول عربية أخرى والاستثمار العربى يتجه إلى توظيف أمواله فى الخارج بأكثر مما يتجه إلى الدول العربية، وفى محاضرو للدكتور حسن عباس زكى وززير الاقتصاد الأسبق ذكر حقائق مؤلمة من بينها أن فرص زيادة الاستثمار فى بلد أو بلدين عربيين يمكن أن تؤمن إنتاج القمح الذى يكفى العالم العربى بأكمله، ووقف استيراده من خارج المنطقة ونفس الأمر فى منتجات أخرى كثيرة مثل الأدوية والأسلحة والأسمدة.. الخ. وتساءل: لماذا لم تفعل الدول العربية مشروعات مثل مشروع شومان للحديد والصلب وغيره من المشروعات التى بدأت بها الدول الأوروبية المصالحة بعد عداء الحرب العالمية الثانية، حيث تحولت دول أوروبا من العداء إلى الصداقة بعد أن أصبحت لها مصالح مشتركة.. لماذا لم ينشأ العرب حتى الآن شركات كبرى – عملاقة – للحديث والصلب والأسمدة واستزراع الأراضى، واستغلال المناجم، ولماذا لم يبدأوا فى إنشاء بنك مشترك عربى كبير – عملاق – وشركات سياحية عابرة للحدود العربية..  لماذا لم تنشأ شرطة طيران عربية مشتركة وشركة غعربية مشتركة للنقل البحرى، ولنا أن نتصور مدى قوة هذه الشركات إذا ضمت الإمكانات العربية الحالية المجزأة.


حتى المعلومات ما زالت تائهة فى جزر متناثرة ونقول إننا فى عصر المعلومات، ونقول أن المعلومات قوة.. ونقول أن التقدم الاقتصادى لا يبدأ إلا بالمعلومات، ولا ينتطبق إى بالمعلومات، ومع ذلك فليس هناك نظام للتعاون العربى المشترك فى مجالات المعلومات المختلفة.


وعلى الورق لدينا مجلس الوحدة الاقتصادية، ولكنه لا يزال موضوعًأ للاجتماعات والأحاديث ولم تكتب له حياة حقيقية حتى الآن لاستراتيجية الوحدة الاقتصادية العربية.. ولا مشروعات، ولا فعالية، ولا تمويل لذلك، لا أثر له فى التجارة والنشاط المالى فى الدول العربية.. ومن الموضوعات التى أثارها هذا المجلس إنشاء منطقة تجارة عربية حرة وإقامة شركة عربية للتسويق، والتوسع فى الصفقات المتكافئة بين الدول العربية، وإنشاء شركة عربية مشتركة للشحن الجوى والتعبئة والتغليف، وإقامة أرصفة للشاحنات وإنشاء أسواق للمال فى البلاد العربية التى تتمتع بوجود سوق مال ذات قيمة، وتشجيع التعامل بين هذه الأسواق لرفع حركة انتقال رؤوس الأموال للاستثمار فى البلاد العربية بدلاً من الدول الأخرى.


لكن ذلك كله كلام فى كلام..


والزمن لا ينتظرنا إلى أن نفيق من غفوتنا التاريخية.


الزمن كالسيف – كما قال شعراء العرب القدامى – إن لم تقطعه قطعك.


وليس أمام العرب خيار ثالث!.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف