أنيس منصور بين الصحافة والسياسة
أنيس منصور تاريخ طويل، وعريض، يمتد إلى أكثر من ستين عاما من الإبداع والامتاع، قالوا عنه إنه موسوعة فلسفية وأدبية وعلمية، وهذا صحيح، وقالوا عنه إنه «شلال» المعرفة وهذا أيضا صحيح. وقالوا إنه من أكبر «ظرفاء العصر» بما يحفظه من حكايات وأشعار ونكت بلا نهاية، وقالوا.. وقالوا.. ومع ذلك لا يزال هناك الكثير الذى يقال عنه، وأعتقد أنه دخل تاريخ الصحافة والثقافة واحتل فيه مكان الصدارة، وسيظل يلهم قراءه بأفكاره اللامعة وأسلوبه المتميز الجميل، ومعلوماته الواسعة.
إنه يكتب عن تولستوى، وهيدجر، وسارتر، والبرتومورافيا، وكيركجارد، وعبد الرحمن بدوى، كما يكتب عن العقاد والمتنبى وطه حسين وكامل الشناوى، وعن رحلته الرائدة فى الصحافة المصرية التى طاف بها فى العالم فى 200 يوم، وكما يكتب عن أساطير التاريخ وعن الذين هبطوا من السماء وبنوا الأهرامات فى مصر ثم عادوا إلى السماء بعد ذلك.. و.. و.. مئات الموضوعات.. مقالات.. وكتب.. كتب.. ومقالاته هى الأكثر قراءة وفقا لاستطلاعات الرأى وكتبه هى الأكثر مبيعا، وفقا لأرقام التوزيع فى دور النشر.. كتب عن الوجودية، والخبز والقبلات، وشىء من الفكر، والبقية فى حياتى، و.. و.. مجموعات قصص مثل بقايا كل شىء، وعزيزى فلان، وغيرها.. وكتب فى الرحلات مثل حول العالم فى 200 يوم، واليمن ذلك المجهول، وبلاد الله خلق الله، وأطيب تحياتى من موسكو، وأعجب الرحلات فى التاريخ، وغريب فى بلاد غريبة، ولعنة الفراعنة، وأوراق على شجر.. ومسرحيات مثل الأحياء المجاورة، وحلمك يا شيخ علام، ومين قفل مين، وجمعية كل واشكر، وكلام لك يا جارة.. وكتب فى السياسة مثل عبد الناصر المفترى عليه والمفترى علينا، وكتب ساخرة مثل الكبار أيضا يضحكون.. وكتب مترجمة مثل روموس العظيم وهبط الملاك من بابل، والشهاب، وهى للكاتب المسرحى دورينمات، ومسرحيات تنيس وليامز مثل الكهف، ولآرثر ميلر وبعد السقوط، و..و.. لا أستطيع أن أحصر كل الكتب..
أما المقالات فهى عشرات الآلاف.. فى الأخبار، وأخبار اليوم، ومجلة الجيل، وآخر ساعة، ثم مجلة أكتوبر التى أسسها وكان أول وأعظم رئيس تحرير لها، وأخيرا فى الأهرام التى ارتبط فيها اسمه بعنوان عموده اليومى «مواقف».
***
كان ترتيبه التاسع بين أحد عشر ابنا وابنة.. فى الكتاب قضى عامين ونصف العام لتعلم القرآن، وطفولته- كما قال- لم تكن فيها حوادث أو تقلبات، ولم يعرف أنها كانت طفولة تعيسة إلا بعد أن بدأ فى استعادة تفاصيلها.. كان والده مفتش زراعة لدى عائلة يكن باشا، وكانت الأسرة تنتقل من مكان إلى مكان، وكان الوالد شاعرا صوفيا، وأمه كان لها تأثير أكبر فى تكوينه، كما كان ارتباطه بأبيه شديدا.. ومات أبوه يوم تخرجه من الجامعة عام 1947.
قال عن نفسه: إنه اكتشف أنه مخلوق يشاهد المجتمع دون أن يشارك فيه بسبب طبيعته الخجولة، المنطوية، ولم يخرج إلى المجتمع إلا بعد أن تزوج وشجعته زوجته إلى حضور المناسبات الاجتماعية، ربما كانت نزعته إلى الاستقلال والوحدة بسبب اعتناقه فى شبابه الفلسفة الوجودية بما فيها من تمجيد للفردية، والحرية والاكتفاء بالذات، وهى ملامح تتشابه مع شخصيته وتفكيره ورغبته فى التأمل وتحليل البشر، وهو يعترف بأنه فى بداياته الأولى كان يصاحب شيخا ضريرا يحفظ الشعر (الهلس) ويصاحبه فى الأفراح وفى الغناء فى بعضها، ويقول له: إن صوته صوت مطرب.
وأنيس منصور يعترف بكثير من أسراره فى مذكراته وأحاديثه الصحفية ومنها أنه فكر فى الانتحار مرتين: الأولى عقب حصوله على التوجيهية عام 1942 وكان ترتيبه الأولى، لكن والده كان مريضا وكذلك والدته، وأصيب بسبب ذلك بحالة شديدة من اليأس والإحباط فذهب إلى كوبرى طلخا ليلقى نفسه فى فرع النيل، ولكنه تراجع، أما المرة الثانية التى شرع فيها فى الانتحار فلم يشأ أن يتحدث عنها!
دخل الصحافة بالمصادفة - كما قال - فلم يكن يقرأ حتى الجرائد كما لم يشارك فى أية مظاهرة سياسية، ولم تكن له علاقة بالأحزاب السياسية، وكان طموحه أن يعمل فى إحدى الهيئات الدولية، لكن الدكتور عبدالوهاب عزام عميد كلية الآداب فى ذلك الوقت نصحه بالعمل فى الصحافة، وعرض عليه صديق أن يكتب القصص فى الصفحة الأولى من صحيفة «الأساس» التى كان يصدرها الحزب السعدى وكان يشرف على هذه الصحفة وقتها موسى صبرى، وهكذا دخل الصحافة من باب الأدب، وظل يعتبر نفسه أديبا يعمل فى الصحافة، ويقول: أنا لست مخبرا صحفيا وأصنف نفسى أديبا يكتب فى الصحافة.
دخل فى فلك العقاد، ثم طه حسين وعبدالرحمن بدوى ثم استقل بعد أن تبلورت شخصيته وتوصل إلى أسلوبه الخاص جدا فى الكتابة.
تجاوز الثمانين ولكنه ظل يتمتع بشباب الفكر وحيوية العقل.. بل كانت لديه أحيانا روح الطفولة التى تندهش لكل جديد، وتبحث دائما عن الجديد، وتلفت نظرها التفاصيل والأحداث الصغيرة العابرة.. قارئ نهم قيل إنه أعظم قارئ.. تلميذ العقاد وروى الكثير عنه وعن الحياة الثقافية والاجتماعية فى مصر فى كتابه العظيم فى صالون العقاد كانت لنا أيام.
له محبون كثيرون جدا.. جدا.. وله أيضا خصوم.. وهذا دليل على أنه كبير ومثير للجدل.. فى السياسة اختلف معه البعض ولكن اتفق الجميع معه فى آرائه فى الأدب والفلسفة.. شريط حياته طويل وأحداثه مزدحمة لا تكاد تصدق أن كل هذه الأحداث وقعت فى ثمان عاما فقط، أو أن إنسانا واحدا استطاع أن يقرأ كل هذه الكتب بالعربية والإنجليزية والإيطالية والألمانية التى يجيدها.. وإن إنسانا واحدا كتب هذه المقالات والقصص والمسرحيات والكتب.. لابد أنه لم تكن له فى الحياة إلا القراءة والكتابة، ولكنه يقول إن ذلك غير صحيح وأنه عاش حياته ككل الناس.. فيها الجد واللعب والحب والسفر، ولكنه يشعر بمعنى حياته حين يقرأ ويكتب فهذه أمتع لحظات حياته.
***
النبش فى ذاكرة أنيس منصور ليس سهلا، لأنه قال الكثير عن حياته وأفكاره ومواقفه، ولكنه لم يقل كل شىء، فلديه أسرار وحكايات خصوصا عن علاقته مع السادات الذى كان يلازمه فى ساعة المشى فى حديقة البيت ويتبادل معه الأحاديث، كما كان يقوم بمهام خاصة لنقل رسائل إلى قادة وزعماء فى الخارج وخاصة إسرائيل من السادات يريد أن يبعث عنها عن غير الطرق الرسمية.
خط حياته الظاهر يمثل خطا صاعدا بلا توقف، ترك وظيفة مدرس فى كلية الآداب قسم فلسفة ليعمل فى الصحافة، وبعد مقالاته عن رحلته حول العالم فى أخبار اليوم، ومقالاته عن تحضير الأرواح بالسلة، كما رآها فى الهند، أصبح اسمه على كل لسان، مناصب عديدة سعت إليه.. نائب رئيس تحرير الأخبار.. ثم رئيس تحرير مجلة أكتوبر التى أسسها واختار لها صفوة من الصحفيين لازال منهم عدد يحمل روح أنيس منصور، وبعدها استقر فى مكتب أنيق فى الأهرام كاتبا متفرغا ليكتب عموده «مواقف» وعموده فى صحيفة الشرق الأوسط السعودية التى تصدر فى لندن، ومقالات فى أخبار اليوم وفى أكتوبر.. وقبل رحيله كان عاكفا على إعداد ثلاثة كتب أعتقد أنه انتهى منها قبل أن يلزمه المرض بالذهاب إلى المستشفى فى الرعاية المركزة.. وأذكر أنه قبل ذلك بسنوات كان يجلس ساعات طويلة جدا لكتابة كتابين فى وقت طويل دون أن يشعر بالآلام التى بدأت تزداد فى ساقه.. وأخيرا تبين أنه أصيب بجلطة فى الساق، وعولج منها..
***
تختلف معه أو تتفق.. وهذا حقك، فلديه الكثير جدا من أسباب الاتفاق والاختلاف، ولكنك لن تختلف فى أنه كاتب عظيم تشعر بالاحترام لعقله وجهده وتجد لديه ما يجعلك تشعر بعظمة الفكر والمفكرين.
كان الأول على القطر المصرى فى امتحان التوجيهية، والأول فى ليسانس الآداب قسم فلسفة مع مرتبة الشرف.. موقفه من عبدالناصر يتأرجح بين الاتفاق والاحترام.. فى عهده تعرض للفصل وأيضا حصل على جائزة الدولة التشجيعية وتسلمها من عبدالناصر فى عيد العلم.. له كتاب يهاجم فيه عبد الناصر بعنوان «عبدالناصر المفترى عليه والمفترى علينا» وعند وفاة عبدالناصر كتب يقول: إن عبدالناصر كان سياسيا فريدا ووطنيا نزيها، وإن وفاته أكثر من نكبة ومن نكسة لأنه كان واجهة شريفة ومشرفة لمصر وللعالم العربى، وكانت مصر قبله صغيرة وأصبحت كبيرة، وظل يعمل إ لى آخر قطرة فى دمه ونبضة فى قلبه، ولم يختلف أحد على أنه شخصية فريدة فى التاريخ الحديث، فقد نهض واقفا من الآهات ثم قام ورفع وعلا، وتحدى بنا ومعنا العالم كله.. هذا عن عبدالناصر.. أما عن السادات فكان يرى أنه من عظماء التاريخ، وأنه يملك موهبة القيادة والرؤية الصائبة دائما.. ولذلك ذهب معه فى رحلته الشهيرة إلى القدس، وقال فى حديث أخير إنه لا يهتم بما يقال من أنه من أنصار التطبيع مع إسرائيل، لأنه كان أول من بادر بعد نكسة 67 بتنظيم معرض للصور لرفع الروح المعنوية وطاف به أنحاء العالم العربى، وكتب كثيرا عن قدرة الشعب والجيش على استرداد الأرض وتحريرها.
***
هو من أخلص أبناء محافظة الدقهلية.. ولد فى المنصورة وقال إن الدقهلية أكثر محافظات مصر حضارة وأثرا فى الثقافة المصرية والعربية ومن أبنائها على مبارك باشا الأب الأول للتعليم فى مصر، ولطفى السيد الأب الأول للفلسفة والفكر، والشيخ متولى الشعراوى، والشيخ جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق، ومنها أيضا سيدة الغناء العربى أم كلثوم، وسيد الملحنين رياض السنباطى، وسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، وسيدة المسرح سهير البابلى، وسيد الكوميديا عادل إمام، وسادة الضح: محمد صبحى، وأمين هنيدى، ويونس شلبى، والشعراء: كامل الشناوى، ومأمون الشناوى، وصالح جودت، وعلى محمود طه شاعر الجندول، وإبراهيم ناجى شاعر الأطلال، وحيرم الغمراوى، ومئات آخرون..
وكان حريصا على أن يشيد بالدقهلية وأبنائها من الكتاب والسياسيين مثل الدكتور محمد حسين هيكل، وأحمد حسن الزيات، والدكتور رشاد رشدى، ونعمان عاشور وسناء البيسى، وأول فيلسوف عبدالرحمن بدوى، ورائد الصحافة الحديثة محمد التابعى، والمثال العظيم محمود مختار وحتى العقاد الذى ولد فى أسوان كانت والدته من الدقهلية.
أما رؤساء تحرير الصحف والصحفيون من الدقهلية فيذكر منهم عبد العزيز خميس، ومحمود التهامى، ومحفوظ الأنصارى، ومصطفى شردى، ووحيد غازى، وحسن شاه، وزعيم المعارضة الراحل إبراهيم شكرى، وعالم الفضاء الدكتور فاروق الباز، وساحر الكرة محمود الخطيب، والوزير الأسبق ممدوح البلتاجى، ورؤساء التليفزيون: حسين عنان، وتماضر توفيق، وهمت مصطفى.. و.. و.. هل رأيت من يعتز بمحافظته مثل أنيس منصور؟
ومع أنه عقلانى وواقعى إلا أنه كان عاطفيا بدرجة كبيرة وصل إلى الثمانين ومازال يتحدث عن حبه لأمه وأبيه وأخته غير الشقيقة وعيناه ينديهما الدمع.. خصوصا أخته من أبيه التى كانت تعيش مع جدها وكان هو يعيش مع أبويه، ويلتقيان معا ليجلس كل منهما ساعات إلى جانب الآخر دون كلمة، ثم تنصرف هى إلى بيت جدها وينصرف هو إلى بيت والديه، وماتت أخته فظل يذكرها ويبكى ويتساءل: لماذا لم يحتضنها ويقبل رأسها وكان يتمنى ذلك وهى أخته. ولماذا لم يتحدث معها؟ ولماذا لم يطلب من أمه أن تسمح له بالعيش معهم فى بيت واحد؟.
علاقة غريبة ظلت ذكراها تطارده وتؤرقه وتؤلمه.. مع أن ذلك كان وهما طفلان.. وغريب أن تجده يتحدث كثيرا عن أخته هذه ويكتب عنها كثيرا فى ذكرياته ومذكراته على الرغم من مرور عشرات السنين!
***
فى كتابه «عبدالناصر المفترى عليه والمفترى علينا» يقول: إنه نشره فى سلسلة مقالات فى مناسبة مرور 25 عاما على قرار الرئيس جمال عبدالناصر بفصله من عمله بسبب مقال نشره فى «أخبار اليوم» بعنوان «حمار الشيخ عبد السلام» وفى هذه المقالات أراد أن يقدم دراسة عن عصر عبدالناصر الإنسان، الحاكم الفرد، وعن الأثر الاجتماعى والنفسى والأدبى والفلسفى لعمليات التعذيب لعشرات الألوف، وقد وجد أن أكثر معانى الفلسفة الوجودية قد تفجرت فى داخله، ويقول كيف درست الفلسفة الوجودية وقمت بتدريسها فى الجامعة وصدر لى أول كتاب عنها سنة 1950 ثم لم أكن أدرى معانى القلق والموت والحرية، ومعانى العدم والانعدام، وكل ذلك عرفته والفضل للرئيس جمال عبدالناصر، ودراويش الرئيس جمال عبدالناصر قد صوروه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى- قالها د.محمود فوزى- فهو المعصوم من الخطأ، أما انكساراته وعثراته فخطوات على الطريق الصحيح، فالنصر خطوة كبيرة إلى الأمام والهزيمة نكسة إلى الأمام، فهو منتصر دائما حتى عندما انتصر الجيش المصرى فى سنة 1973 كان هو الذى وضع الخطة، فكان انتصارا عسكريا وهزيمة سياسية أى أنه الذى مات انتصر عسكريا، والسادات الذى لم يمت انهزم سياسيا، فعبد الناصر إذا حضر انتكس، وإذا غاب انتصر، وإذا حضر انتصر قليلا، وإذا غاب انتصر كثيرا، وهذه التراتيل الكهنوتية التى يرددها مشايخ الطرق الناصرية استفزازية وتجاهل لويلات ملايين المصريين والعرب.
فى هذا الكتاب يثأر منصور لنفسه من عبدالناصر الذى فصله بسبب مقال، فيقول: عبدالناصر كان يريد أن يكون ماركسيا ولم يستطع، واحتقاره الظاهر بكل ما هو عربى ولكل رئيس على دولة عربية، وقضايا اليمن دخولا وخروجا ومائة ألف شهيد وعشرات البلايين من الجنيهات ذهبا، والوحدة ثم الانفصال، والهزيمة العسكرية، وكانت الهزيمة العسكرية هى النهاية!
ويكشف محاولة اغتياله، وفى مؤتمر صحفى للرئيس حسنى مبارك قال له: يا أنيس أرجوك، فى عرضك، كفاية المقالات عن عبدالناصر، فهى تسبب لى صداعا، كفى، فكل رئيس له أخطاؤه، كفى، وكان رده: حاضر يا ريس.. ولكنى انتهيت منها، وبدأت سلسلة أخرى ثم عاد مبارك يقول: للأمانة، أنا كلمت أنيس فى بيته مرتين، وتناقشنا، ولكنه لم يستجب، والكتاب بعد ذلك ملىء بالهجوم- وليس النقد- على عبد الناصر شخصيا وعلى جميع أعماله.
***
أما السادات فله صفحات أخرى فى كتاب بعنوان «من أوراق السادات» يضم مقالات نشرها فى مجلة «أكتوبر» وهو رئيس تحريرها أراد بها إنصاف الرئيس السادات وإنجازاته العظيمة لبلاده، طرد الخبراء السوفيت، وتصفية مراكز القوى الناصرية، والانتصار فى حرب أكتوبر، وفتح قناة السويس، والأحزاب، ومعاش السادات، والتأمينات الاجتماعية، وانسحاب إسرائيل والسلام معها، والانفتاح الاقتصادى، وحرية الصحافة، وقطع رجل زائر الفجر، ثم يروى ما حدث يوم 27 ديسمبر 1961 يوم أبلغ بقرار وقفه عن العمل بسبب صورة حمار فى مقال له عن الطاغية نيرون، وقيل له: لا علاقة للحمار وما جاء فى المقال، ولكن لابد أنك قصدت شيئا يفهمه القارئ، ولكن السبب الحقيقى أنه كتب مقالا بعنوان «حمار الشيخ عبد السلام» فيه غمز ولمز وإيماءات وإسقاطات واضحة، وفى يوم رأس السنة الميلادية صدر قرار بفصل أنيس منصور مع جلال الدين الحمامصى، بعدها قال له حسن جلال العروسى مدير مكتب مؤسسة فرانكلين التى نشر أنيس منصور فيها عددا من الكتب: لا تؤاخذنى لا أستطيع أن أتعامل معك أنا رجل أعمال مدير مؤسسة أمريكية ولا أريد مشاكل مع الحكومة، فأرجو إنهاء كل ما بيننا، وقال له مدير الإذاعة المصرية عبدالحميد الحديدى، لا أستطيع الآن أن أذيع لك شيئا.. لا مقالات.. ولا قصصا.. اعذرنى.. وكما انتهى عمله فى الصحافة انتهى فى نفس الوقت فى الجامعة.. وبعد سنوات تغيرت الأحوال ونشر سلسلة مقالاته فى كتاب «عبدالناصر المفترى عليه والمفترى علينا» قال فيه كل ما فى نفسه!
***
أما فى كتابه «أوراق السادات» الذى نشرته دار المعارف مؤخرا فقال: إن أهم الصفات التى يتحلى بها الرئيس السادات فهى: ذاكرة قوية، وإحساس بالتاريخ وبدروه هو فى التاريخ وينام بعمق.. وفى هذه السلسلة كان الرئيس السادات يملى وأنيس منصور ينقح العبارات ويستوثق من الوقائع والتواريخ، ولم يلجأ السادات إلى ورقة أو كتاب ينقل منه بعض ذكرياته.
وأمضى أنيس منصور سنوات استغرقه فيها العمل فى «مجلة أكتوبر» الوليدة ومجلة أخرى وليدة هى «وادى النيل» وما يكلفه به الرئيس السادات من مهام متعددة، ولم يكن مرتبه فى ذلك الوقت يزيد على 416 جنيها شهريا، بينما يوافق على علاوات لمن هم دونه تصل إلى ما يعادل مرتبه مرة ومرتين وزيادة، ولم ينتبه إلى حقه فى أن يتقاضى علاوة سنوية، وقد كان نائبه يتقاضى ثلاثة أضعاف مرتبه وبعد عشرين عاما سأل سكرتيره: لماذا لم تنبهنى إلى زيادة مرتبى أو تعديله، فكان جوابه عجيبا: لقد ظننا أن سيادتك لا تريد فلوسا!
وكانت نشأة «مجلة أكتوبر» بقرار من الرئيس السادات وقد نشر أنيس منصور فى مقدمة كتابه «أوراق السادات» صورة للسادت معه وهو يراجع بروفات الأعداد التجريبية الأولى، وكذلك نشر صورة لورقة بخط السادات بعد مراجعته للمجلة كتب فيها: عزيزى أنيس: لقد راجعتها وأجريت التصحيحات اللازمة مع استخدام أسلوبنا الصحفى فى أول السطر وغيره، ولكننى أريدك أن تراجعها بنفسك، فقد تكون هناك مواقف تحتاج لإبرازها إلى استعمال الفن الصحفى، ولا أدعى اليوم أننى صحفى، مع تحياتى.. توقيع: أنور السادات.
إن علاقة أنيس منصور بالرئيس السادات تحتاج إلى حديث طويل.
***
ومالا يعرفه كثيرون ما أعلنه أنيس منصور أخيرا من أنه انضم للإخوان فى بداية حياته، وصار أمين مكتبة فى مركز إمبابة، و كان يذهب ليؤم المصلين فى المساجد ويخطب فيهم يوم الجمعة، ولكن فى سنة 1946 اكتشف عدد من الإخوان أنه وبعض زملائه فى الجامعة يتناقشون فى أمور ليست دينية لكنها موضوعات فى الفلسفة الوجودية والماركسية، فأبلغوا مكتب المرشد فجاء قراره بفصله هو وزملائه من الجماعة.. ويعلق على ذلك بقوله: قد يكون للإخوان فكر، ولكن لهم سوابق عديدة فى العنف تجعلنا غير قادرين على تبنى فكرهم أو الدفاع عنهم.
***
حياة طويلة.. ومشوار طويل.. الحديث عنه يحتاج إلى سلسلة مقالات وليس مقالا واحدا.. وهكذا عظماء الرجال يختلف الناس عليهم وعلى أفكارهم، ولكنهم يتفقون على أنهم عظماء.