مـــــع الشـيخ مخلــوف
مع نسمات شهر رمضان التى تعيد إلى اروحنا الحياة وتعيد إلى الذاكرة ذكريات مع رجال من أهل الفضل والعلم تأثرت بهم،ومن هؤلاء الشيخ حسنين مخلوف الذى شغل منصب المفتى لسنوات طويلة ومد الله فى عمره بعد المعاش ليستمر عطاؤه فى خدمة الاسلام ومساعدة المحتاجين وكان من أكثر من عرفتهم كرما.. كان كريما بعلمه وماله وخلقه.
التقيت به أول مرة فى الفيللا التى كان يعيش فيها مع ابنته فى الدقى، وكان ذلك فى السبعينات فى يوم من أيام شهر رمضان، وأجريت معه حديثا للنشر فى «الاهرام» وبعد ذلك توطت علاقتى به وصرت واحدا من تلاميذه وأصدقائه أتردد عليه بموعد وبدون موعد، وتفضل هو بزيارتى فى الأهرام ويهدينى كتبه وأهمها تفسيره الموجز للقرآن وكتاب الفتاوى التى أصدرها فى عدة أجزاء وظل حريصا حتى آخر ايامه على القاء درس العصر فى مسجد الحسين كل يوم من أيام شهر رمضان دون انقطاع، وكان المسجد يمتلئ بجمهور الحاضرين الذى يلتفون حوله فى حلقة تزداد اتساعا كل يوم.
ولد الشيخ حسنين مخلوف فى سنة1890 وتوفى 19رمضان1410هـ- الموافق 15 ابريل 1990م أى أن الله مد فى عمره حتى بلغ مائة عام، وينطبق عليه فعلا حديث الرسول صلى الله علية وسلم: «خيركم من طال عمره وحسن عمله». كان والده الشيخ محمد من علماء الأزهروله مؤلفات فى علم التفسير، ولذلك قاده والده إلى الجامع الأزهر ليحفظ القرآن وكان عمره 5 سنوات وبعد أربع سنوات أقام والده احتفالا كبيرا عندما أتم حفظ القرآن، فعهد به والده إلى شيخ المقارئ ليعلمه تجويد القرآن وانتظم بعد ذلك فى الأزهر حتى حصل على شهادة العالمية سنة 1941 وعين قاضيا شرعيا فى قنا وتنقل بين محاكم ديروط وطنطا والقاهرة إلى أن عين رئيسا لمحكمة الاسكندرية الشرعية أواخر سنة1941 ثم رئيسا للتفتيش الشرعى بوزارة العدل سنة1942 ونائبا لرئيس المحكمة العليا الشرعية عام 1944 ثم مفتيا للديار المصرية مرتين:الاولى من سنة1945الى1950 والثانية من 1952 إلى 1954، وعين عضوا بجامعة كبار العلماء بالأزهر الشريف ورئيساً للجنة الفتوى بالأزهر وعضواً فى مجمع البحوث الاسلامية وعضواً مؤسساً لرابطة العالم الأسلامى بمكة المكرمة وعضواً مؤسسا للجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة، وعضوا مؤسسا بمجلس القضاء الأعلى بالسعودية.. وحصل على جوائز كثيرة منها جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية سنة1982 ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الاسلام سنة1983.
حياة طويلة ومليئة أصدر خلالها أكثر من30 كتابا منها: كلمات القرآن - تفسير وبيان، ومعانى القرآن، وآداب تلاوة القرآن وسماعه، والرفق بالحيوان فى الشريعة الاسلامية، والتفسير والمفسرون، وأحكام الميراث، ومجموعة الفتاوى، والأخلاق الإسلامية، ومن وحى القرآن والسنة.. الخ.. وانجب 10 أبناء وبنات تولوا مواقع ومناصب كبيرة فى مصر والخارج.. ويحكى أن أحد ابنائه - عبد الهادى - الذى أصبح سفيرا ومساعداً لوزير الخارجية رشحته وزارة الخارجية للسفر إلى الولايات المتحدة فى بعثة لنيل درجة الدكتوراة، فيقول إنه كان يعز عليه فراقه وأن يذهب إلى بلاد تختلف طبيعه الحياة فيها عما عودت أولادى عليه،فكتبت له نصيحة وضعها فى برواز وظل محتفظا بها معلقة فى منزلة ومنزلى وقد أفلح لأنه لم يخالف نصيحة أبيه وهو أن يبتعد عما حرم الله، وأن يستعين بالصلاة وتلاوة القرآن ويحذر من وسوسة الشيطان بقوله: عد الينا موفور الكرامة بما عرف عنك من الاستقامة والشرف.. وقبل وفاته وجه إلى ابنائه وأحفاده نصيحة قال فيها: أنصحكم بالتواصل والتزاور والتعاون والتشاور وتربية أولادكم على التدين، وأدعوكم إلى الصفح والغفران فيمايفرط من البعض عن جهالة أو طيش أو سوء تصرف، وأن تعفو وتصفحوا خيرا لكم وأبقى، وعليكم بصلة القربى ومودتهم ومعونتهم، وعليكم فى أعمالكم الاخلاص والترفع عن النفاق والخنوع، وإنى أسأل الله تعالى أن تذكرونى بالدعاء وتقرأوا الفاتحة وتهبوا ثوابها لى. وفى الحديث: «اذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جاريه، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعوله «.. ولقد تحقق لشيخنا هذه الفضائل الثلاث.
وعندما رحل الشيخ كتبت مقالا فى الاهرام (22 ابريل1990، قلت فيه إنه كان نموذجا الاستقامة ووضع الفكر والجرأة فى الحق، لم ترهبه سطوة الحكم، ولاغوغائية الجهلاء، ولا إرهاب المتطرفين، ولم يسع إلى الأضواء، ولم يعرف الطريق إلى ردهات ومكاتب التليفزيون، ولاشغل نفسه بالسعى إلى الشهرة، واكتفى بأن يعلم الناس ويقول كلمة الحق لوجه الله فى دروسه وفتاواه وكتبه.
وقال الشيخ عن نفسه: لم يحدث يوما أن خفت من شخص أو وافقت أحدا فى رأى أراه مخالفا للدين مجاملة له والا كان ذلك كفرا وضلالا.
هذا رجل من مدرس الشيخ محمد عبده، وكان والده صديقا للشيخ محمد عبده ومشاركا له فى معركة الاصلاح الدينى وتطوير الأزهر، ويقول إنه تعلم من والده ان الانسان الذى يؤمن بمبدألابد أن يظل صامدا فى سبيل عيقيدته، وأن أكون فى غنى عن الناس ولااحتاج الى مخلوق من خلق الله ولم تنحنى هامتى إلالله سبحانه وتعالى.