أخيــــرا.. الجائـزة لمن يستحقهــا
أخيرا جاءت جائزة النيل فى الآداب إلى الكاتب - والمفكر- والفيلسوف الساخر أحمد رجب. صحيح أن جائزة النيل هى أعلى جائزة فى مصر، وأحمد رجب هو أكبر كاتب فى مصر.. ولو كان على قمة أجهزة الثقافة من يعرف أقدار الناس لكان أحمد رجب قد حصل عليها منذ سنوات ولكن الحمد لله أن جاءت الجائزة أخيرا لمن يستحقها بعد أن زال الكابوس عن المجلس الأعلى للثقافة وعادت الثقافة اليه.
وأحمد رجب ليس كاتبا صحفيا فقط كما يقول عنه البعض، ولكنه مثقف كبير، دارس للثقافة المصرية والعربية والعالمية، وهو مفكر بالمعنى الدقيق للكلمة، صحيح أن كلمة مفكر تطلق على كل من كتب، ولكن أحمد رجب بالمعايير الحقيقية مفكر اجتماعى وله نظرات خاصة وعميقة للواقع السياسى والاجتماعى متميزة ولها خصوصية ومذاق خاص، أما أسلوبه السهل الممتنع فإن فيه رشاقة ودقة فى التعبير ولديه قدرة خارقة على التعبير عن أفكار وآراء كبيرة بكلمات محدودة لا تزيد على خمسين كلمة وقد تصل الى ثلاث كلمات ولكنها كطلقات الرصاص تصيب الهدف ولا تحتاج الى شرح أو تفسير.
فى زمن القمع وتكميم الأفواه والأقلام كان هو يحارب الفساد والاستغلال والاحتكار والاستبداد السياسى والتشدد الدينى والجماعات التى حذرنا منها الرسول صلى الله عليه وسلم وقال عنها «هلك المتنطعون» أما كتاباته الساخرة فهى القناع الذى يخفى وراءه سلاحه الذى يطعن به الفساد والفاسدين ويفهمه القراء حتى البسطاء منهم ولا يستطيع الفاسدون أن ينالوا منه.
موهبته مذهلة فى التركيز، فهو يكتب كما كان مصطفى أمين يدعو إلى الكتابة التلغرافية، وكأن الكاتب يرسل برقية الى القارئ ويدفع ثمنا لكل كلمة وعليه أن يوفر على نفسه الإنفاق بغير ضرورة ويوفر على القارئ وقته، ومادامت الفكرة يمكن أن تصل واضحة ومكتملة فى عشر كلمات فلماذا يقدمها الكاتب فى عشرين؟ وفى كثير من الأحيان كان القراء يشفقون عليه لفرط شجاعته فى الهجوم على سياسات ومشروعات كان كثيرون يطبلون لها.
ولكن شجاعته كان يحميها بذكائه فى التعبير وخفة الظل وتحويل القضية الى ما يشبه النكتة فتضحك وانت تبكى على ما صار اليه الحال، فمقاله القصير جدا «نص كلمة» هو مدرسة فى المقال الأدبى وهو أقرب الى الكوميديا السوداء فى فن الدراما. وبقلمه يرسم صورة كاريكاتيرية تظل عالقة فى الأذهان، وبعد أن ابتدع شخصياته المشهورة وأبدع الفنان مصطفى حسين فى رسمها، تحولت هذه الشخصيات الى شخصيات حية تدب فيها الروح ونراها، فى الشارع والمصلحة والحكومة، ومن يستطيع أن ينسى الوزارة فى المغارة أو عبد الروتين، وعبده المشتاق، وكمبورة الانتهازى الذى يعبر عن إفراز مرحلة الانفتاح والفساد، وقاسم السماوى الذى يحقد على كل إنسان يحاول أن يشوه كل ناجح وما أكثر نموذج قاسم السماوى من حولنا، أما فلاح كفر الهنادوة فكان لسان حال الشعب المصرى فى مواجهة الفساد وضياع الحقوق والنهب المنظم لثروات البلاد.
كان بودى أن أحصل على نسخة من الرسالة التى أعدتها الدكتورة منار المراغى وحصلت بها على درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف عن موضوع تميز وخصوصية الكاتب أحمد رجب ولكن كان من حظى أن أعثر على رف إحدى المكتبات على نسخة من كتاب «أحمد رجب ضحكة مصر» للأستاذ محمد توفيق تحدث فيه عن شخصية أحمد رجب التى تتميز بالخجل والعزلة وكما وصفه الصديق الكاتب الكبير إبراهيم سعده بأنه طول حياته يبتعد عن الأضواء والحفلات والاجتماعات الرسمية، ولا يذهب الا لمن يرتاح معهم والذين عرفوه وصادقوه، ويرتبك حين يسمع من يمدح شخصه أو يهنئه على صدور كتاب جديد له، ولا يطلب ولا يطمع فى أكثر من استمرار القلم فى يده ولا شىء آخر، والصحافة بالنسبة له أن يقرأ ويكتب وليست منصبا أوقيادة أو رئاسة تحرير، وقد حاول مصطفى وعلى أمين وغيرهما إقناعه مرارا بتولى رئاسة تحرير أحد إصدارات أخبار اليوم ولكنه كان يعتذر دائما.. وابراهيم سعدة أكثر من يعرف أحمد رجب وأكثر من يستطيع الحديث عنه عن معرفة لسنوات طويلة عن قرب وهذه الصفات صفات مفكر وفنان وأديب وليست صفات صحفى، وهذا يؤكد أن حصوله على أكبر جائزة من جوائز الدولة فى الأدب تعبير عن ذلك.
والى جانب هذه الصفات يحدثنا ياسر رزق رئيس تحرير « الأخبار» عن يوم أن قرر مجلس أمناء الجائزة التقديرية لنقابة الصحفيين منح أحمد رجب هذه الجائزة منذ عشر سنين وطلب منه أن يخصص جائزة سنوية باسمه فى الكتابة الساخرة، فأعلن تبرعه بقيمة جائزة النقابة ثم اكتشف أن قيمة الجائزة ليست أموالا ولكنها درع فقط فقدم للنقابة شيكا بمبلغ خمسين ألف جنيه لجائزة أحمد رجب.. واكتشف ياسر رزق أن هذا المبلغ هو كل ما كان يمتلكه أحمد رجب وهو معروف عنه أن يده (مخرومة) وينفق كل ما يأتيه مهما بلغ.
أحمد رجب دخل التاريخ ليس بالجوائز ولكن بقيمته ودوره.. دخل تاريخ الصحافة ودخل تاريخ مصر مع رجالها العظام.