رسائل طـه حسين

فى كتابات طه حسين يمكن أن نلاحظ أنه كان يوجه فيها رسائل إلى شخصيات معينة من أصحاب النفوذ، منهم رؤساء الوزارات فى حكومات الأقلية التى كانت خاصة للملك ولسلطات الاحتلال وتحكم البلا بالحديد والنار على حد تعبير إسماعيل صدقى. أسوأ رئيس وزراء شهدته مصر.. صادر الحريات.. وعطل الصحف.. وفتح المعتقلات لكل من يعارضه.. وألغى الدستور.. وأصدر دستوريًا (1930) يعطى (شرعية) للحكم الديكتاتورى! وهو الذى فصل طه حسين من الجامعة! وكان زعماء الأحـــزاب، ورؤســـاء الوزراء، والوزارات، يقرأون هذه الرسائل، ويعرفون من المقصود بها، ولا يجدون (تهمة) تمكن محاكمته عليها وإلا فضح كل منهم نفسه حين يقدم بلاغا إلى النيابة لأن طه حسين يشبهه بالفأر أو بما هو أسوأ فيؤدى هذا البلاغ إلى نشر هذه التسميات لهم. ولكنهم كانوا يتصيدون الفرصة للتنكيل به فى اتهامات أخرى.. وقد أحيل للتحقيق فى النيابة أكثر من مرة وطرد من الجامعة مفصولا مرة، ومحالا إلى الاستيداع مرة، ومنقولا إلى وظيفة فى وزارة المعارف مرة.. وهكذا ما كان يغيظ كل من يكتب عنه طه حسين أن المثقفين والسياسيين كانوا يتعرفون على المقصود فى كل رسالة.
***
وجه رسالة إلى الحكومة الديكتاتورية، وربما إلى الملك أيضًا، يقول فيها إن الحرية وجلال الكرامة خصال اللين أكثر مما يظهرها العنف أو الخوف.. العنف يخرج الإنسان عن طوره ويرده حيوانا لم تهذ به الحضارة، ويطلق الغرائز التى لاتبقى علىشىء ولا تصدر عن عقل، ولكن الحرية «الحقيقية» فإنها تملأ النفوس نورا، وتثير التفكير والذكاء.
وفى رسالة يبدو أنه وجها إلى المصريين عامة يدعوهم إلى عدم قبول الظلم وإعلان الرفض للجزرة والعصا من الحاكم المستبد، فيقول فيها: إن الإنسان المتحضر يمكن أن يختصر مافيه من ضيق فى كلمة واحدة هى (لا) وما حول الإنسان من ألوان الإغراء كثير ومايلائم الكرامة منها قليل والإنسان الحر هو الذى يستطيع أن يقول لا لما لايلائمه سواء حين تدعوه المائدة إلى أن يأكل أكثر مما ينبغى، أو حين يدعوه القوة إلى الظلم والطغيان والبطش، أو عندما يدعوه العنف إلى الاستكانة والاذعان وقبول الذل، أو حين يدعوه الثراء إلى الطمع والبخل، أو حين يدعوه التفوق إلى الاستكبار والغرور.
ويقول: إن كلمة (لا) لازمة لحرية الشعوب.
ويقول: لايجمل بكرام الناس أن يتحدثوا بلغة الأحرار ويسيروا سيره العبيد.
ولم يستطع «الرقيب» أن يحذف كلمة كما لم يستطع وكيل النيابة أن يمسك فيها دليلا يمكّنه منه.
***
وفى رسالة أخرى يوجه تحذيرا إلى من بيده السلطة من الغرور والانخداع بابتسامات الدهر. وتحذير (للسلطان) من سعى من حوله بالنميمة والوقيعة وابتغاء مرضاته بالوشاية، بسبب تنافسهم عليه بحيث يكيد بعضهم لبعض وكل منهم يريد أن ينال أكثر مما نال غيره.. وينبه (السلطان) إلى أن (الحكم) نقمة لا نعمة.. نقمة تبتلى بها النفوس، و(الحكم) عناء لاراحة، والحكم قلق.. وفى رسالة يوجه كلمة إلى من بيده (السلطة) يقول فيها: أتمنى أن يضع الله عنك أغلال الحكم، وأن يردك من هذه (المحنة) موفورًا.. فخير غنيمة للحاكمين أن يخرجوا من الحكم أنقياء لم يغنموا منه إلا سلامة الإياب!
***
وكتب رسالة إلى من (كان صديقًا) ثم تغير عندما صعد وأصبح صاحب سلطة.. فيقول له: كنت أدعوك بالأخ العزيز الصديق الكريم وأنت تعلم أنك لم تبق لى أخا عزيزًا لأنك الغيت هذا الإخاء ولا صديقًا كريمًا لأنك قطعت أسباب هذه الصداقة.. ولهذا أكتب إليك هذا الكتاب دون أن أرسله إليك واكتفى بنشره.
ويقول لأحد المسئولين الكبار: كنت تجهل نفسك، كنت ترى نفسك رجلاً خيرًا فكشفت الأيام أنك رجل هو الأثرة فى كل شىء وكنت ترى نفسك زاهدا فى متاع الدنيا فكشفت الأيام أنك رجل ينطبق عليه قول الشاعر العربى القديم: غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعمل
وعندما اشتد طغيان (المسئول الكبير) كتب يقول: عد إلى نفسك،والله يداول الأيام بين الناس، والأرض تدور، والظروف تتغير، وسترى قومًا يألفونك الآن، ويتهالكون عليك ثم ينصرفون عنك ويتنكرون لك حين تدور بك الأيام كما تنكرت أنت لمن كانوا يحبونك عندما رفعتك الأيام!
ويقول أيضًا : لايعرف الرجل الكريم إلا بخصلة واحدة هى أن يتجنب ما من شأنه أن يخزيه أمام نفسه.وفى رسالة إلى صديق ترك مصر وعاش بأمواله الكثيرة فى فرنسا كتب: إن فرنسا لم تخلق لك ولا لأمثالك من النازحين . إنما خلقت فرنسا لنفسها ولأهلها (!) عد إلى البلد الذى خلق لك وخلقت له(ويبدو أنه كان يقصد وزير المعارف حلمى عيسى باشا الذى ألغى معهد التمثيل :ويل للعاملين من الكسالى، وويل للعلماء من الجاهلين.
ولصديق تولى الوزارة كتب يقول: يجب أن يخلص العلماء للعلم، وأول مراتب الإخلاص أن ينشروه.
ويذكِّر (مسئولا) صعد إلى القمة بما كان عليه فى نشأته الأولى لأنه حين ارتفع إلى (الطبقة العليا) تنكر لأهله،ونسى الدموع التى سكبتها أمه فى مواقف الضيق، ولماذا يبدو وكأن لديه شعورًا بالتشفى والانتقام لكثرة ما ذاق من قسوة الحياة وقسوة الناس.
ويقول: ما أبرع نظامنا الاجتماعى فى تكريم الحياة، وتنغيص العيش!
ويقول إن فى بعض الناس خصلة الوفاء وهؤلاء هم (إخوان الصفاء) الذين قال عنم أبو العلاء المعرى:
وإذا أضاعتنى الخطوب فلن أرى
لوداد إخوان الصفاء مضيعا
***
وفى رسالة أخرى يذكِّر (الصديق) بأنه ليس كل الشجر يثبت للعاصفة، وانما يثبت لها الشجر الذى رسخت أصوله فى الأرض وارتفعت فروعه فى السماء.
والى (الصديق) الذى تنكر لأصدقائه كتب: الصديق الوفى نادر وهؤلاء الصفوة القلية خلقت لتكون مضربًا للمثل، وموضوعًا لحديث الكتب، ومسرحًا لخيال الشعراء(!).
ويقول لنفسه: إن إخوان الصفاء وأصدقاء الوفاء هم «الكتب» ويقول عن نفسه إنه يقبل الناس على علاتهم لأنه لايمكن تغييرهم ولايمكن الاستغناء عنهم ويذكر قول أبى العلاء:
وهل يأبق الإنسان من ملك ربه
فيخرج عن أرض له وسماء؟!
وفى قصة رمزية يتحدث عن رجل استيقظ يومًا فنظر فى المرآة فرأى صورة وجه بشع، وتكرر ذلك كل يوم، وأمام كل مرآة، وكانت المرآة هى (الضمير) الذى بدأ يستيقظ ويرى صاحبه قد صار قبيحا فى أعماقه بسبب الإساءات التى أساء بها إلى الناس، وقصة أخرى بدأها بقول أبى العلاء:
إعجبى أمّنا لصرف الليالى
مُسخت أختنا سكينة فأرا؟!
ويقول: كثير من إخوتنا ـ مثل أخته سكينه ـ مسخوا جرذانا وحيوانات أخرى وإن احتفظوا بصورهم القديمة.. منهم (فلان) الذى ارتقى بدون إعداد ولا تمهيد فوجد نفسه أشبه بالديك الذى يوضع موضع النسر ومطلوب منه أن يحلِّق فى الفضاء وهو غير مؤهل لذلك، ومن يراه ديكا يسير كالنسور يضحك كثيرًا، ولوكان قد بقى ديكا لكان أحسن حالا.. وهكذا الانتقال السريع يفسد بعض النفوس ويغير بعض الأخلاق.
ونصيحته يوجهها فى بيت الشاعر العربى القديم:
إذا لم تستطع شيئا فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع
ولو قرأنا طه حسين بدقة فسنجد أنه يقول (الحكمة) دون أن يدِّعى أنه من الحكماء، وسنجد أن كثيرًا مما قاله فى زمانه ينطبق على زماننا وعلى كل زمان على الرغم من مرور أكثر من أربعين عاما على رحيله وهكذا عظماء الرجال.. يعيشون أطول من أعمارهم.. ومنهم من يكتب له الخلود.. ولوكانت رسائله وجدت من يفهمه ربما كان التاريخ قد تغير!

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف