«وصفـة» لإصـــلاح الأحـوال !
صديقى الدكتور عاطف العراقى هو البقية الباقية من المفكرين أساتذة الفلسفة الكبار، وهو كما وصفه زميلنا صلاح صيام فى «الوفد» أحد رهبان الفكر الذين ضحوا بحياتهم الشخصية ورفض الزواج ليعطى كل وقته وكل حياته للفكر وللفلسفة الإسلامية التى تخصص فيها وقدم للمكتبة العربية عشرات الكتب التى تؤسس للفكر العربى والإسلامى الحديث.. ولكن صديقى الدكتور العراقى متشائم ولا يرى فى المجتمع شيئا يعجبه.. وربما يكون ذلك بسبب أن الفلسفة تبحث عن المجتمع المثالى، وعقلية الفيلسوف بطبيعتها ميالة للنقد ورؤية السلبيات بقصد الإصلاح.. الفيلسو? يريد تحقيق الكمال فى المجتمع وفى الإنسان وهذا مستحيل لأن الكمال لله وحده.
فى آخر حديث له مع صلاح صيام قال إنه لا يوجد فى مصر مشروع للنهضة، والمجتمع أصبح مجتمع التنازع والتقاتل وليس مجتمع التعاون.. والمسيطرون على الثقافة فى رأيه هم من الأقزام وأشباه المثقفين، ولذلك لم يفعلوا شيئا، والصناعة الرائجة الآن- كما قال د. زكى نجيب محمود- هى كيف نصنع من القزم عملاقا والسبب فى ذلك السياسة والإعلام، ولو أن المفكرين جميعا توقفوا عند حد النقد والحديث عن السلبيات فمن يقودنا لتحقيق النهضة.. هل نستورد من يقودنا؟.
وفى رؤيته لتطور المجتمع المصرى يقول الدكتور العراقى إن حركة التنوير فى مصر بدأت على يد رفاعة رافع الطهطاوى وكان يريد أن تصبح مصر مثل أوروبا فى العلم والفن والصناعة، ولكن فى السنوات الأخيرة رجعت بالنهضة الفكرية إلى الوراء حتى فقدت مصر الريادة الفكرية، وذهب أساتذة الجامعات فى إعارات إلى دول متخلفة فكريا فتأثروا به وعادوا لينقلوا لتلاميذهم هذا الفكر، وأكثر من ذلك فى رأى الدكتور العراقى إننا نعيش فى عصر «أشباه المثقفين» وليس فى عصر المثقفين، وتتاح لأشباه المثقفين كل الفرص ويحرم منها المثقفون الحقيقيون، ودليله?على ذلك أن الكتب التى كانت تصدر فى مصر سواء كانت تأليفا أو ترجمة مازالت من أعظم الكتب على عكس معظم الكتب التى تصدر اليوم فهى سطحية وقليلة القيمة، ولذلك ليس لها تأثير.. وفى هذا معه حق!
الخطأ الأكبر الذى أدى إلى انتكاس حركة التقدم فى رأيه هو غياب الديمقراطية، وحرص الحاكم على أن ينفرد بالسلطة ويسير الشعب وراءه سواء فى هيئة التحرير أو الاتحاد القومى أو الاتحاد الاشتراكى أو الحزب الوطنى، وهو محق فى ذلك أيضا، ولكن يبلغ التشاؤم مداه عند فيلسوفنا الذى بلغ السادسة والسبعين من عمره المديد بقوله إنه لا أمل فى قيام حركة نهضة أو تنوير لتستعيد مصر مكانتها، ولكى تستعيد مصر مكانتها تحتاج إلى قرن أو قرنين من الزمان لتتخلص البلاد من الشللية والنفاق والانتهازية ويكون الاختيار للمناصب على أساس الكفاءة وليس?على أساس العلاقات الشخصية وتبادل المنافع، وإذا أردنا تحقيق نهضة فلابد من استبعاد كل من شارك فى الفساد الثقافى والاقتصادى والسياسى.
ولى على الصديق الكبير عتاب.. لقد تحدث عن سلبيات وصفحات سوداء ولم يدلنا كيف نتخلص منها ولم يرسم لنا طريقا للنهضة. وقال إننا نحتاج إلى مشروع للنهضة ولم يقل لنا ما هى عناصر هذا المشروع فى رأيه.. ولا كيف نحققه ومن المسئول عن ذلك.. المثقفون؟.. الحكومة؟.. وقال إن التنظيم السياسى الواحد قضى على الديمقراطية والحرية السياسية ولم يقل لنا كيف نعيد بناء نظام سياسى ديمقراطى جديد.. وقال لنا إن الحياة الثقافية تعانى من فقر الفكر وتضع فى الصدارة من أسماهم أشباه المثقفين، ولم يدلنا على كيفية الإصلاح وما دوره هو بالذات وهو ?أكبر مثقف فى مصر اليوم..
أعاتب صديقى لأنى أرى أن البكاء على اللبن المسكوب لن يفيد.. صحيح لابد من نقد السلبيات لكى تكون عبرة للجيل الجديد ولمن يتصدى للعمل الوطنى، ولكن الاكتفاء بنقد السلبيات لن يحقق لنا التقدم.. التقدم يتحقق بخريطة للبناء.. بفكر للإصلاح.. بمشروع نهضة يشارك فى وضعها أصحاب الفكر فى كل المجالات..
عزيزى الدكتور عاطف العراقى أرجوك أن تخلع النظارة السوداء.. فقد أشرق فى مصر الأمل.. ومصر تنتظرك وتنتظر كل من لديه تجربة وفكر ليساعد على دفع العجلة لكى تدور بعد أن توقفت طويلا..
وعتابى للصديق العزيز بسبب رؤية كل منا لدور الفكر والمفكرين، فهو يرى- أو هكذا أظن أنه يرى- أن دور المفكر هو إلقاء الأضواء على ما فى المجتمع من عيوب وسلبيات، لكى تكشف الأسباب الحقيقية للتخلف، ويكون ذلك حافزا للإصلاح.. وهذا شىء عظيم.. ورسالة يجب أن يتحملها المفكر الصادق والمخلص مع نفسه ومع مجتمعه.. ولكن- فى رأيى الشخصى- وأظنه أنه سوف يتفق معى فى النهاية- أن الرسالة لا تكتمل بهذا الدور وحده.. ولابد أن يكون للمفكر دور فى الإصلاح.. والبناء.. والتحديث.. والتنوير.. بعد أن يدلنا على الأخطاء يقودنا إلى إصلاحها.. وهذ? هى المهمة الأصعب.. لأن نقد الواقع يحتاج إلى ذكاء وخبرة لرؤية ما حدث وما يحدث وما يقودنا للسير عليه دون أن ينحرف بنا المسير، فهذا صعب جدا.. لأنه يحتاج إلى قدرة على استشراف المستقبل، والتنبؤ بما هو ممكن وما هو غير ممكن، وأحاطه بقدرات المجتمع اليوم وما ستكون عليه غدا، وقدرات أعدائه الذين سيعملون على وقف نمو وإعادة خطواته إلى الوراء لكى يبقى على ما هو عليه من الضعف والتفكك.. المفكر هو الذى يستطيع أن يقدم لنا البوصلة.. ويجدد لنا معالم الطريق..
وإذا كان هذا هو موقف المفكر فى كل وقت فهو فى ظروف المجتمع المصرى الآن مثل موقف المقاتل أثناء المعركة واحتدام القتال.. فهذه ثورة.. والجميع يبحثون عن «سكة السلامة» ومن لديه رأى يفيد لتأمين الثورة وحمايتها وضمان تحقيقها لأهدافها لصالح الشعب وليس لصالح فئة أو جماعة، ولصالح التقدم إلى الأمام وليس العودة إلى الخلف.. وكل من لديه «رؤية» للمستقبل وتحسين الأحوال عليه أن يتقدم ويبادر بطرحها، وإذا لم يتكلم اليوم فمتى سيتكلم؟.. فلنتحدث عن السلبيات.. ونتحدث عن الإيجابيات وعن الإصلاح أيضا!
وأذكر أن مستشار رئيس تركيا فى زيارته لمصر قال عبارات مهمة. قال: إن البعض فى المنطقة يعيش الماضى، بينما تركيا تعيش المستقبل، ولدينا رؤية ومشروع قومى للنهوض بتركيا، وقد اتبعنا سياسة التركيز على تغيير نمط التفكير فى المجتمع التركى بقدر اهتمامنا بتغيير القوانين لأن الأساس هو «عقل المواطن» و «أسلوب تفكيره» للارتقاء بهما، وقال أيضا نحن ننظر لأنفسنا فى المرآة ونعلم أن لدينا نواقص يجب إكمالها ولا نرفض رأيا أو فكرا، فقط نرفض الأفكار الداعمة للإرهاب والأفكار المعبرة عن أجندات خفية! وهذا أمر ليس سهلا، وواجهنا عراقيل ?تحديات ولكننا تغلبنا عليها.. وكان طريق الإصلاح عندنا يبدأ بالتعليم، لذلك خصصنا له أعلى نسبة فى موازنة الدولة إيمانا بأن الاستثمار فى الإنسان وفى الطاقة البشرية هو حجر الأساس فى التغيير.. كذلك كان لدينا إصرار للقضاء على الفساد والمحسوبية وعلى وضع الرجل المناسب فى المكان المناسب.. وواجهنا محاولات داخلية لعرقلة الإصلاح، وهذا شىء متوقع من جماعات وجهات تعمل فى الظلام وتريد عودة البلاد إلى عصور الظلام ونحن نواجه هذه المحاولات ونواصل مسيرتنا بعزم.
هكذا يفكرون ويعملون فى تركيا، فكان لهم ما تحقق من نمو وتقدم فى كل المجالات، ونموذج النهضة فى تركيا يفيدنا فى معرفة كيف تنهض الأمم من كبوتها.. ليس فقط بالبكاء على ما ضاع بسبب الفساد والاستبداد ولكن بمحاسبة الفاسدين والمستبدين دون توقف عن العمل لبناء مستقبل أفضل.