السمــاء لن تمطر دولارات!
كل من أقابله يحدثنى عن مليـــارات الدولارات التــــــــى ستتدفق على مصر وتحل المشكلة الاقتصادية.. أوباما وعد بمليار دولار.. دول الثمانية وعدت بعشرة مليارات وقيل إنها 12 مليارا.. السعودية وعدت بأربعة مليارات.. وقطر وعدت بمشروعات استثمارية فى مصر بعشرة مليارات.. والبقية تأتى.. كل هذه المليارات حتى الآن مجرد وعود وتصريحات بعضها نثق فى أنه سيتحقق وبعضها الآخر موضع شك.. أوباما مثلا وعوده كثيرة.. وكلامه كثير.. وهو بالغ الكرم عندما يتكلم وفى النهاية أين الشيكات؟.. سيطول الانتظار كالعادة والمساعدات الأمريكية بشروط أهمها ما يغلفونه بعبارة جميلة تخفى مطالب أمريكية معروفة تحت اسم «برامج التحديث الاقتصادى» وهذا الاسم يذكرنا بشعار «الإصلاح الهيكلى» الذى كان يردده جمال مبارك وأحمد نظيف ويوسف بطرس غالى، وأدى تنفيذه إلى الخراب الذى أشعل الثورة.. تحت شعار الإصلاح الهيكلى تم بيع أصول الدولة بتراب الفلوس وتم نهب أراضى الدولة وتشريد العمال واشتعال الأسعار وظهور طبقة اللصوص الذين ادعوا فى بطاقاتهم أنهم «رجال أعمال» وهم الآن أمام جهات التحقيق وفى السجون على الجرائم التى ارتكبوها فى حق البلد وخدعونا، والحقيقة أنهم مارسوا عملية تنويم مغناطيسى ناجحة ولكن نجاحها لم يدم طويلا لأن «الكذب ليس له رجلين» كما يقول المثل المصرى القديم.. وربما كان الصادق الوحيد هو ديفيد ليبتون مدير وحدة الشئون الاقتصادية الدولية فى مجلس الأمن الأمريكى، فقد قال إن مصر صارت تعانى من تراجع النمو، وارتفاع العجز فى الموازنة وفقدان مليارات من احتياطى النقد الأجنبى، وأن المساعدات ستكون على مراحل، وستكون مشروطة . وقال أحد مساعدى الرئيس الأمريكى إن المساعدات لن تكون «شيكا على بياض» ولكنها ستكون مرتبطة بتنفيذ مصر ببرنامج «الإصلاحات».
من حقنا أن تكون لنا وقفة مع الصديق الأمريكى لنسأل: إذا كانت الإدارة الأمريكية على علم بالمشكلة الاقتصادية فى مصر، وهى طبعا على علم بأن ديون مصر لأمريكا تمثل مشكلة كبرى وهى تتزايد بتزايد الفوائد.. فلماذا لا تتخذ قرارا لن ينساه الشعب المصرى وسيكون له أثر كبير فى إعادة الثقة المفقودة بين الشعب المصرى ووعود ونوايا الولايات المتحدة تجاه مصر.. لماذا لا تقرر إسقاط الديون.. إسقاط الديون وليس تخفيضها.. لأن تخفيضها يعنى التنازل عن جزء من الفوائد التى تتراكم.
ومن بين الاقتصاديين من يرى أن مصر يجب أن تتوقف عن سداد أقساط الديون مع العلم بأن لهذا الإجراء مخاطر، ولذلك فلابد أن يتم باتفاق مسبق مع كل الأطراف وبدون مخاطر سياسية أو صدمات كهربائية، وهذا الحل سبق أن اتخذته دول فى أمريكا اللاتينية، ومن الممكن دراسة تجربتها التى حققت نجاحا مبهرا، ومثارا لإعجاب البنوك والمؤسسات المالية العالمية، وتدفقت عليها الاستثمارات وكأنها لم تتوقف عن دفع ديونها.
وإذا كان هذا هو الوقت لوقفة مع الصديق فهو بالأولى وقت الوقفة مع النفس، أولا بوضع نظام جديد لبيع الشركات فى حدود معينة وليس بطريقة العشوائية التى كان الفساد والفاسدون يطبقونها، وأن يكون البيع ليس لمستثمر رئيسى كما فعل الفاسدون، ولكن بطرح الشركات فى صورة أسهم فى سوق المال وبذلك نوسع نشاط سوق المال ونشجع المصريين على تملك شركاتهم واستثمار مدخراتهم فيها بدلا من الوقوع فى فخ الاحتكار الذى وقعنا فيه، وسوف نظل نعانى منه لفترة طويلة.. وهذه السياسة هى التى تحقق توسيع نطاق الملكية وتحقق توسيع نطاق القطاع الخاص الوطنى، ومع هذه السياسة لابد من قانون جديد لتنظيم تملك الأجانب للشركات المصرية حتى لا يتحكم الأجانب فى الصناعة والاقتصاد وليس الهدف طبعا عدم تشجيع الاستثمار الأجنبى، ولكن الهدف هو تنظيم هذا الاستثمار بما يحقق مصلحة مصر واقتصادها أولا وعلى المدى الطويل، ويحقق مصلحة المستثمر الأجنبى فى نفس الوقت..
ولعلنا نذكر أن أكبر دولة رأسمالية فى العالم، وهى الولايات المتحدة فى ظل أكبر إدارة ممثلة للرأسمالية المتوحشة ومع ذلك رفضت إدارة أحد الموانئ باستثمار إماراتى، وكررت ذلك أكثر من مرة.. وليست الولايات المتحدة وحدها التى تتدخل حكومتها فى بيع وإدارة الأجانب لشركاتها ومرافقها، فهذا ما يحدث فى الدول الرأسمالية الكبرى.. اليابان.. وبريطانيا.. وفرنسا.. وإسرائيل.. وهناك تجربة قاسية يذكرها الخبراء لأنها كانت درسا قاسيا للمجر.. فقد باعت المجر شركاتها الاقتصادية التى كانت مملوكة للقطاع العام لشركات أجنبية وكانت النتيجة أن تحول احتكار الدولة إلى احتكار أفراد أجانب أو شركات أجنبية، وتجربة مصر فى هذا المجال تجربة مرة.. فقد باعت شركات الأسمنت للأجانب على سبيل المثال فتحكمت الشركات الأجنبية فى أسعار الأسمنت وتحولت إلى صور من صور الاحتكار وعجزت الحكومة عن التدخل.
بعد الثورة يجب أن تكون لمصر استراتيجية خاصة للتنمية وللتحول إلى نظام السوق دون استمرار لسياسة إلقاء شركات القطاع العام بعشوائية ودون أن يكون ذلك فى إطار سياسة تحدد ما يجب أن يظل للقطاع العام وما يمكن أن ينتقل إلى القطاع الخاص ويحدد ذلك بعد مناقشات للمتخصصين ومجالس الأبحاث والمجالس التشريعية وليس بقرارات فوقية.
ويا سادة التحول الهيكلى الذى يتحدث عنه البنك والصندوق الدوليين لا يحقق التنمية.. التنمية تتحقق بموضع خريطة تحدد احتياجات السوق المصرى والسوق العربى والإفريقى والعالمى.. وتحدد الصناعات التى يجب إنشاؤها وفقا لأولويات.. وتقام الشركات الجديدة بأموال ومدخرات المصريين فى صورة أسهم فى البورصة ومع عودة الثقة فى الحكومة وسياستها سوف يساهم المصريون وتعود الروح الوطنية إلى الاقتصاد كما عادت إلى السياسة وإلى المجتمع.
ويا سادة، المصريون هم المسئولون أولا وأخيرا عن بناء بلدهم.. وأهلا بالمساعدات والاستثمارات الأجنبية بشروط مصر ومصلحتها وليس بشروط أى طرف أجنبى.. ولنذكر الحكمة التى رددناها ولم ننفذها: إن لم يكن اقتصادك من صنع يدك فلن تكون حريتك ملكك.. ولن يكون قرارك نابعاً من إرادتك.