حوار المحافظين.. (4)

الظاهرة التى شغلت جميع المحافظين فى حوارهم الطويل مع وزير الإدارة المحلية أبرزها برنامج الأمم المتحدة الألمانى لقياس المستوى الذى وصلت إليه التنمية البشرية فى العالم وهى أن أكثر بلاد العالم التى اهتمت بالتنمية وركزت على زيادى الإنتاج المادى.ز أقامت مصانع.. استخدمت أراضى؟؟ أقامت سدودًا.. أنشأت طرققًا.. يكون هو البداية والنهاية،وهو الهدف والغاية من التنمية: وهو الإنسان..


أكثر دول العالم تباهى بقدراتها الإنتاجية والتصديرية، ولكنه تقدم للبشر من الرعاية ما يتناسب مع التقدم المادى الذى حققته.. والنتيجة تزايد البطالة والأمية.. وانحساب الناس من المشاركة فى الحياة العامة (السياسية والاجتماعية).. وانخفاض مستويات الرعاية التى يلقاها الأطفال والشباب.. وتدهور أوضاع المرأة ووضعها فى درجة أقل من الرجل بالمعايير الإنسانية..


وكان البحث هل هذه الظاهرة تنطبق علينا، أم أن مجتمعنا استطاع أن يعبر الفجوة بين التنمية المادية والتنمية البشرية لإصلاح ما أفسدته عشرات السنين من الإهمال والتأجيل والتراخى وعدم وضوح الرؤية فيما يتعلق بأهمية التنمية البشرية.


كان بحث المحافظيم أيضًا مركزًا على مظاهر التفاوت الكبير فى الرعاية والخدمات ومشروعات التنمية البشرية فى محافظات الوجه البحرى ومحافظات الوجه القبلى.. بعد أن ظهرت الآن نتائج قرن كامل من الإهمال للإنسان فى محافظات الصعيد.. والحكومة المتعاقبة قبل الثورة وبعدها..


وظهر من الحوار أن المحافظين وحدهم لا يستطيعون أن يحققوا الهدف الكبير المنشود، ولكن قضية تحسين نوعية الحياة للبشر هى استراتيجية يجب أن تضعها الدولة وتحدد فيها الأهداف والوسائل وتعبىء من أجلها قدرات المجتمع كله، وتجذب للعمل بها رجال الأعمال والجمعيات الأهلية والأحزاب السياسية، بحيث يكون واضحًا بما لا يدع مجالا للغموض، والشك أن استراتيجية التنمية، ولا يرفع مستواهم المادى والحضارى والثقافى فقط.. ولكن أيضًا بأن يكون الناس مشاركين فى وضع هذه الاستراتيجيات والبرامج.. لأن إتاحة الفرصة للمواطنين للمشاركة فى تلفكير، والتخطيط، والتنفيذ، والتوجيه، والرقابة دون حواجز أو حساسيات، هى الوسيلة الوحيد لتكوين المواطن الإيجابى الملتزم بقضايا وطنه، الذى يصدر سلوكه عن الولاء والانتماء للوطن.. فالانتماء لها معنى نغرسه فى نفوس الناس بالترديد والتكرار، ولا بكثرة الأغانى والأناشيد الحماسية، ولا بالدروس والخطب والكتب المدرسية، ولكن يأتى ذلك الانتماء تلقائيًا نتيجة الممارسة، والمعايشة، وإحساس المواطن منذ طفولته، بأن هذا وطنه، وله فيه حقوق ثابتة ليست منحة من أحد، ولكنها حقوق لصيقة به باعتباره إنسانًا وباعتباره ابنًا لهذا الوطن، ثم باعتبره دافع ضرائب "وأيو ضرائب..؟!" هذه المشاركة التى تجعل لكل مواطن حقوقًا متساوية مع الآخرين.. ى تتميز طبقة، ولا فئة، ولا أشخاص..الكل أمام القانون سواء.. والكل فى الحقوق والواجبات سواء..


هذا المدخل التربوى السياسى هو المدخل الوحيد لغرس وتنمية الانتماء فى الأجيال المتعاقبة.


ولا شك أن التقرير الأول عن التنمية البشرية الذى أعده معهد التخطيط القومى هو البداية الصحيحة على هذا الطريق، فقد رصد التقرير الظواهر السلبية والإيجابية بموضوعية علمية كاملة. واستمرار إصادر هذا التقرير سيعطينا مقياسًا نطمئن إليه يدلنا على مدى ما نحققه على الطريق الصحيح لرفع مستوى حياة المواطن العادى فى كل أنحاء مصر، ويكشف بالأرقام ما يتحقق من أجل إزالة الفجوات والفوارق بين المحافظات وبعضها، وداخل المحافظات نفسها.


ولكى يتحقق ذلك اتفق المحافظون على مجموعة مبادىء يمكن اعتبارها دليل عمل لهم، وقروا أن يلتقوا كل عام ليحاسبوا أنفسهم – قبل أن يحاسبهم الناس – على ما تحقق منها وما لم يتحقق.. ومن هذه المبادىء:


أولاً:  اعتبار التنمية البشرية مسئولية رئيسية للإدارة المحلية، وباعتبار المواطنين جميعًا ضانعى هذه التنمية وعلى الإطارة المحلية مسئولية التعبير عن الاحتياجات الحقيقية للناس، وعليها زيادة استخدام الإمكانات المتاحة لتحقيقها، ووفقًا لمبدأ المشاركة فإن الأهداف والأولويات التى تضمها المحليات من القاعدة فى الأساس الذى يجب أن تبنى عليه استراتيجية محددة للتنمية البشرية، ومتابعة الإنجازات من برامج ومشروعات بجدية، وشفافية، زالتأكد من تزايد عائدها على عامة المواطنين.


ثانيًا: أن المحافظين، وهم مدركون أن المفهوم الشامل للتنمية البشرية يتجاوز العمل على زيادة الإنتاج،وأن انعكاس هذا المفهوم يجب أن يظهر فى تحديد أولويات العمل وتخصيص الموارد والاعتمادات والاستثمارات.. فإن الأولوية الآن الآن يجب أن تكون لقضايا: الفقر، والبطالة، والأمية، وتدهور مستويات الخدمات الاجتماعية، ويجب ألا يقل الاهتمام بها عن الاهتمام بقطاعات الإنتاج والخدمات التى يعبر عنها بالاتفاق الاستثمارى والنفقات الجارية.


ثالثًا: آن الأوان لتركيز العمل فى الدولة كلها من خلال المحليات على رفع مستوى المعيشة، وتحسين نوعية الحياة فى الريف لتقليل الفوارق بين القرية والمدينة، وهى قضية قديمة، لم نستطع أن نحقق فيها النتائج المرجوة حتى الآن.. وهى تستلزم زيادة حماس ومشاركة المواطنين. كما تستلزم البدء بزيادة كفاءة الإنتاج الزراعى،والتصنيع الزراعى؟؟ وقريب من هذا ضرورة رفع مستويات المناطق المحرومة من الخدمات الأساسية داخل كل مدينة ومحافظة وبخاصة عدم وجود خدمات التعليم وفرص العمل فيها، مما جعلها مناطق طرد لأبنائها إلى المناطق الأفضل نموًا.. ويرتبط بهذا أيضًا ضرورة زيادة الدفعة التى أولتها الدولة لتنمية محافظات الصعيد، والعمل على تنويع مصادر الدخل والإنتاج والتسويق فى المناطق العمرانية الجديدة.


هذه بعض المبادىء التى اتفق عليها المحافظون.. وهناك غيرها كثير.. مما يدل على أن هذا الحوار كان نقطة تحول استراتيجى فى عمل الإدارة المحلية فى مصر.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف