حوار المحافظين.. (3)

كان واضحًا خلال الحوار الخصب الذى دار بين 26 محافظة ووزير الإدارة المحلية حول أول تقرير عن التنمية البشرية فى مصر، إننما نحمل المحافظين بأكثر مما يحتملون ونطلب منهم ما يفوق طاقتهم ومحاسبهم على ما قدموا من إنجازات دون أن نوفر لهم الحد الأدنى من الإمكانات اللازمة لكى يحققوا هذه الإنجازات،ويبدو أن مشاكل المحافظات والمحافظيم أولا لكى يتمكنوا من حل مشاكل الناس بعد ذلك. ويبدو أن الحل لههذ المشاكل هو حل سياسى بالدرجة الأولى، وليس حلاً على المستوى التنفيذى.


من هذه المشاكل مثلاً أنه حتى الآن لا توجد هيئة أو مؤسسة قومية لإدارة التنمية البشرية وتنفيذ ومتابعة برامجها فى إطار قومى. كما أنه ليست فى الوزارات حتى الآن أجهزة متخصصة لمشروعات التنمية البشرية، ويرتبط بهذه المشكلة مشكلة أهم هى عدم وجود بيانات جيدة عن أسلوب حياة الناس. ومن الغريب ألا تكون لدينا حتى الآن بيانات دقيقة وصحيحة تعغكس الظروف الاقتصادية والاجتماعية التى يعيش فيها كل قطاع من قطاعات الشعب المصرىوإن كانت هناك أرقام وبيانات على المستوى القومى فليست هناك أرقام أوبيانات عن الحياة فى مستوى الأقاليم.. وقد أعلن فى هذا الحوار أم معهد التخطيط سيبدأ مع عدد من المؤسسات فى إعداد نظام معلومات عن مؤشرات التنمية البشرية.


وليس صحيحًأ أن التمويل هو المشكلة الوحيدة أمام تحسين أحوال الناس فى المحافظات. ولكن هناك ما لا يقل عن التمويل أهمية لتحقيق هذه الغاية.. فنحن حتى الآن لم نحدد الأهداف.. لم نحدد ماذا يقصد بالتنمية البشرية.. وما هى الحال التى نريد أن يصبح عليها الناس.. ما هو الحد الأدنى من الخدمات الذى يجب أن تتوفار للإنسان، وما هو الحد الأدنى من التعليم، ومن الرعاية الصحيحة.. ومن المأوى.. ومن فرص العمل.. ومن ضمان مستقبله ومستقبل أسرته فى حالات العجز أو الموت.. وما هى شروط الحد الأدنى لما يجب أن يكون عليه البيئة التى تصلح لحياة الإنسان. وفى ضوء الأهداف التى تتفق عليها يمكن حساب التكلفة والتمويل اللازم.. وعلى سبيل المثال فإن تغطية التعليم الأساسى فى مصر بنسبة مائة فى المائة يحتاد إلى بناء مدارس وتعيين مدرسين وموظفين وميزانيات للكتب والأنشطة، وإلى زيادة مخصصات الرعاية الصحية للتلاميذ.. وهكذا يظهر التداخل بين مجالات التنمية البشرية كما تظهر أهمية تحديد الأهداف بدقة وبكل وبكل وضوح قبل وضع الخطط وقبل التنفيذ، ولابد مأ نضغ فى اعتبارنا أن مجالات التنمية بقدر ما تتداخل فى التخطيط والتمويل والكانل فى تنطبق عليها نزرية الأوانى المستطرقة فى النتائج. وكمثال أيضًا فإن تحسين التعليم الأساسى يؤدى إلى تحسين المستوى الصحى وإلى تحسين العادات والتقاليد والقيم الضارة بالصحة فيقلل تكلفة العلاج، كما أن الزيادة فى رصغ الطرق تؤدى إلى تقليل تكلفة الصيانة والخسائر فى السيارات وسرعة النقل وزيادة عامل الأمان؟ ولذلك فإن التخطيط السليم للتنمية البشرية يقضى بتمويل مجموعة من الأهداف ككل، وهذا يخفف من حدة مشكلة التمويل فى الظروف الحالية.


وعندما نقرر تحسين حياة الناس فلابد أن نضع هذا الهدف فى إطار فلسفة المجتمع الحالية التى تقوم على أخطاء القطاع الخاص دور أكبر فى التنمية. وهذا ستتبع أن يكون له أيضًا دور كبير فى التنمية البشرية. ومن المسلم به أن الدولة سوف تظل تحتكر المرافق العامة، المياه والكهرباء، والصرف الصحى، والسكك الحديدية، ولكن من الممكن أن تزداد مساحة مشاركة القطاع الخاص فى مجالات التعليم والصحة والإسكان والخدمات، ولابد أن نحدد للقطاع الخاص ما يساعده وما يشجعه على لاقيام بدوره فى هذه المجالات التى يمكنه أن يقدم فيها الكثير بحكم الخبرة المتراكمة لديه طوال السنوات الماضية.


ولقد أثار حوال المحافظين قضية هامة أخرى هى قضية تعبئة الموارد المحلية القائمة الآن. وظهر فى الحوار أن ذلك مرتبط بنجاح التحرير الفكرى والاجتماعى والاقتصادى على المستوى المحلى، وهذا يستلزم ثلاث خطوات استراتيجية:


أولاها: إعادة هيكل الميزانية العامة للدولة  لقوم على أساس تحقيق التنمية البشرية وفقًا لمبدأ لا مهرب منه عة أن الدولة لها دور محورى فى هذا المجال، وسيظل عليها هذا الواجب والالتزام مهما تم تحرير الاقتصاد ومهما كانت نتائج الانتقال إلى الخصخصة وقوى السوق.


وثانيتها: أنه من الضرورى أن يوضع فى الاعتبار أن التنمية البشرية جزء من قضية الأمن القومى، وبالتالى فإن ما يبذل فيها لا ينفصل عما يبذل من أجل تحقيق الأمن الداهلى والخارجى.


وثالثتها: أهمية الانتقال من مبدأ "كل الخدمات مجانًا" الذى أصبح فارغًا من مضمونه، ولم يعد سوى شعار أجوف، بعيد كل البعد عن الواقع العملى، إلى مبدأ آخر تعترف فيه بالواقع، زنقرر فيه تحميل المستهلك بالتكلفة على أسس اقتصادية وعملية. وذلك فى إطار فلسفة جديدة يجب أن يعتنقها هى أن إصلاح أحوال الناس معناه مشاركة الناس فى التكاليغ كما نعنى مشاركتهم فى المنافع.


وشارك المحافظون فى حوارهم فى الإجابة عن سءال: هل يمكن وضع استراتيجية للتنمية البشرية فىهذا الوقت الذى يتميز فيه المجتمع وينتقل من حال إلى حال اقتصاديًا وسياسيا.. من الاقتصاد المركزى إلى اقتصاد السوق.. ومن الشمولية إلى التعددية السياسية.. وهل نفكر فى إصلاح حال الناس بخطة قصيرة الأجل أم نذع خطة للك طويلة الأجل، أم نستخدم المسكنات للمشاكل طويلة الجل.. وفى كل الأحوال فقد ظلت قضية تطوير وتغيير التعليم فى مصر تطل فى كل مناقشة على أنها فى نقطة البداية ومحور العمل.. وإذا نجحنا فى تغيير التعليم فسوف ننجح فى كل ميدان آخر من مجالات تنمية البشر، لأن بناء الإنسان يبدأ فى المدرسة ويبدأ ببناء العقل وتكوين الشخصية تكوينًا إيجابيًا سليمًا، وهذا كلام نعرفه ونردده منذ عشرات السنين، لكن حصيلة الإنجاز فيه أقل بكثير مما يجب، والنتيجة أن لدينا نقصًا رهيبًا فى عدد المدارس، وفى أعداد المعلمين، وفى قدرة المدرسة على تقديم رعاية متكاملة للتلاميذ علميًا وعقليًا ونفسيًا واجتماعيًا.. وهذا يدعونا إلى أن نأخذ مأخذ الجد الطرح الجديد لقضية التعليم على أنها القضية القومية الأولى فى أنها قضية أمن قومى، يتوقف على نجاحنا فيها ضمان المستقبل.. وكل جهد يبذل فى التعليم اليوم هو العمل المخلص فى الاتجاه السليم لبناء مصر كوطن أفضل للجيل القادم.


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف