حوار المحافظين.. (2)

عندما قال الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى الستينات عبارته المشهورة: "ان بناء المصانع سهل.. واقامة المستشفيات والمدارس ممكن.. ولكن بناء الإنسان هو الصعب العسير.." كان يريد أن يعلن عدة حقائق فى كلمات قليلة. كان يريد اولا ان يعترف بان عملية بناء الانسان لم تسر فى طريقها الصحيح، ولم تحقق هدفها المنشود. رغم أنهاهى القضية رقم واحد فى جدول أعمال آى ثورة, وأى دولة, وأى حكومة, وإن لم تكن ذلك يكون التقصير مما لا يمكن أن يغتفر. وكان يريد أيضًا أن ينبه إلى أن عملية بناء الإنسان, التى يتوقف عليها بناء مستقبل أى وطن, من الممكن تحقيق نجاح فيها, وأن ذلك ليس فى عداد المستحيل, ولكنه فقط أمر صعب.. لا ينجح فيه إلا القادرون على اقتحام الصعاب.


وكان لقاء جميع المحافظين مع وزير الأدارة المحلية وعددمن المفكرين وعلماء معهد التخطيط القومى المناقشة تقرير من جديد, لا بقصد معالجتها لفظيًا بالخطب والشعارات, ولكن بقصد تقييم الطوات التى أتخذت فعلاً, والمشروعات التى نفذت فعلاً, فى كل المدن الكبرى والصغرى, وفقًا لحظة اعدتها المحليات للتنمة البشرية على أساس مفهوم تكامل التنمية: الاقتصادية, والاجتماعية, والروحية, والفكرية والثقافية.. الخ.


والواقع أن التنمية: البشرية  تواجه صعوبات فى العالم كله، وأول هذه الصعوبات ما نبه إليه تقرير الأمم المتحدة الأخير الذى يركز على أهمية "الأمن البشرى" ويقول إن هناك مليارات الدولارات تنفقها الدول الكبرى على المسرح بينما تعانى دول أخرى من الحاجة إلى الطعام، وأن الولايات المتحدة وحدها تنفق 290 مليار دولار سنويا على التسلح ، وتخسر فى نفس الوقت 425 مليار دولار نتيجة الجرائم التى تنتشر داخلها وتضيع فيها أرواح وثروات كثيرة...


وهناك دول شديدة الفقر فى أفريقيا يواجه المواطنون فيها الهلاك جوعا، ويعانى معظم السكان أمراض سوء التغذية والأمراض وضحاياها نتيجة ذلك تفوق احتمالات ضحايا الحرب 33 مرة...


إن مثال الولايات المتحدة يقدم المثل الصارخ والنموذج لخطورة اهمال التنمية البشرية والأمن البشرىء ففى عام 1992 بلغ عدد الجرائم التى تلقت الشرطة عنها بلاغات 14 مليون جريمة كلفت اقتصاد الولايات المتحدة 425 مليار دولار.


وتعرض فى نفس العام اكثر من مليونى مواطن لإصابتهم بإصابات بدنية مختلفة" وقتل من الأطفال بالرصاص 20 طفلا يوميا.. وبلغت نفقات استهلاك المخدرات ما يفوق. مجموع دخول أكثر من 80 بلدا من البلاد النامية.. وثلث عدد الأمريكيين البيض يعيشون فى مناطق ملوثة بكربون المونيكسيد، ونصف المواطنين السود يواجهون هذا الخطر، ويهدد البطالة أعدادًا تتزايد من الأمريكيين، وإن كانت البطالة بين السود دائما ضعف حجمها بين البيض.


هذا التقرير العالمى عن التنمية البشرية يمثل أجراس إنذار خطيرة للعالم كله.. فهو ينبه إلى أن انعدام الأمن البشرى مشكلة عالمية.. البلاد الفقيرة مشغولة بمشاكل الجوع والمرض، والبلاد الفنية تواجه مشاكل المخدرات والجرائم..


بينما الإنفاق على حماية الحدود يزيد على الإنفاق على حماية  الأفراد داخل الحدود.. ومع تهاية الحرب الباردة وتراجع الإنفاق العسكرى فإن عائد السلام الذى تحقق فى العالم بلغ 935 مليار دولار ولم يوظف لتمويل التنمية الاجتماعية للمواطنين فى انحاءالعالم .. ومن المتوقع ان يتحقق عائد إضافى للسلام يبلغ 460 مليار دولار خلال السنوات الخمس القادمة مع انخفاض معدلات الإنفاق العسكرى بواقع 3% سنويًا فمن يضمن أن توجه هذه الأموال إلى تحسين أحوال الناس.. بحيث توجه أكبر الميزانيات للتعليم والصحة وإلى تعزيز أمن المواطن.. ومن غرائب الاحصاءات فى أفقر دول العالم أن فيها 19 جنديا مقابل كل طبيب واحد مع أن التوتر الدولى واحتمالات قيام  الحروب تتناقص ، والأغرب أن الذين يشجعون تجارة الأسلحة  فى الدول الفقيرة هى الدول المسئولة عن تحقيق الأمن العالمى، من الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن.. وأكبر بلد يشترى الأسلحة التقليدية فى العالم هو الهند التى تواجه مآسى الجوع، ونقص التعليم، وحرمان 15مليون فتاة من التعليم.. نيجيريا اشترت صفقة واحدة من الدبابات بتكلفة تكفى لتحصين جميع أطفالها من الأمراض.. واشترت إيران غواصتين تعملان بالذرة من روسيا بتكلفة تكفى لتوفير الأدوية لكل مواطنيها ويزيد.. علمًا بأن 13% من المواطنين محرومون حرمانًأ كاملاً من الرعاية الصحية.. واشترت كوريا 68 صاروخًا من أمريكا يكفى ثمنها لتحصين كل الأطفال من الأمراض ويكفى أيضًا لتوفير مياه شرب نظيفة لثلاثة ملايين ونصف مليون مواطن محرومين من المياه..


وهذا الإنذار العالمى يوجه أكثر إلى الدول الكبرى، لكن انعكاساته تصل إلى كل بلد فى العالم ولا ينجو منها أحد. كما ينطوى التقرير التقرير الدولى للتنمية البشرية على مؤشر آخر للخطر فى العالم هو التفاوت الشديد بين الفقراء والأغنياء فى عدد كبير غدًا من الدول بحيث يؤدى ذلك إلى حرمان الفقراء من ضرورات الحياة وفرص التعليم والعلاج والسكن بما يؤدى إليه ذلك من احتمالات حدوث قلاقل اجتماعية.


ويشير هذا التقرير الدولى إلى حالة التعليم فى مصر فيتوقف عند مشكلة انتشار الأمية، ويقول أن نسبة نسبة الأمية فى الوجه القبلى ضعف نسبتها فى الوجه البحرى، وأن متوسط العمر فى الوجه القبلى  يقل بمقدار 6 سنوات عن مواطن الوجه البحرى، وأن نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى يقل 45%.. وفى هذا تنبيه كافٍ.. ومن أجل ذلك كانت سياسة الدولة بالتركيز فى الخدمات على محافظات الصعيد، وكان حوار المحافظين موجهًا إلى كيفية النهوض بالمدن والقرى فى كل محافظة من محافظات الوجه القبلى على حده. حيث تصل الخدمات بدرجة متساوية من تعليم وإسكان ومرافق وعلاج.. وتوجد فرص عمل حقيقية تمتص البطالة وتقلل من تيار الهجرة من الصعيد إلى العاصمة وإلى الوجه البحرى، وترفع مستويات الأداء الثثقافى والاجتماعى.


ولكن المسألة الجوهرية فى موضوع النسبة البشرية هى أنها لا تتحقق بالجهود الحكومية وحدها، ولكن لابد أن يشارط فيها المواطنون أنفسهم تطوعًا، ومشاركة، بالأموال، وبالتفكير، وبالعمل.. وفى هذا الاتجاه تظهر أهمية الجمعيات الأهلية لتى تعمل فى ميادين الخدمات المختلفة.. هذه الجمعيات تحتاجد إلى نظرة جديدة.. وفلسفة جديدة.. وأسلوب جديد للعمل.. وقيادات جديدة.. لكى تقود نهضة واسعة فى البلاد.. وهذا ممكن كما كشفت المناقشات.. فقط يحتاج الأمر إلى إزالة المعوقات أمام هذه الجمعيات وتدريب العاملين فيها وتخفيف حدة بيروقراطية الأجهزة المشرفة عليها.. ليتحرك الناس لخدمة أنفسهم.. وتنمية مجتمعاتهم المحلية..


لكن المناقشات تناولت ما هو أكثر بكثير من ذلك.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف