حوار المحافظين.. (1)

بدأ الدكتور محمود شريف وزير الإدارة المحلية تجربة جديدة، هى إدارة حوار واسع على مائدة مستديرة تجمع حولها 26 محافظًا يمثلون قمة القيادة التنفيذية فى جميع محافظات مصر، مع مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء معهد التخطيط القومى. وكان موضوع الحوار الذى استمر يومين كاملين واستغرق أكثر من خمسة عشرة ساعات هو: تنمية البشر فى مصر.. ماذا تحقق، ومذا لم يتحقق، وما هى المعوقات والحلول للانطلاق فى تنفيذ مخطط لبناء الإنسان يمتد باتساع خريطة مصر كلها من حلايب إلى السلوم، ومن الفرافرة إلى رفح، ويتغلغل إلى عمق أعماق الريف ليصل إلى كل إنسان فى كل قرية..؟ وكانت القضية خطيرة.. ذات أبعاد استراتيجية ومستقب لية ترتفع بها إلى قمة الأولويات التى ينبغى أن تكون شاغل كل أجهزة الدولة منذ الآن وحتى نهاية هذا القرن لنبدأ القرن الجديد بمصر جديدة.


وكان أساس المناقشات صدور أول تقرير علمى مصرى أعده معهد التخطيط القومى عن "التنمية البشرية فى مصر" تسغرق إعداده 4 سنوات وبذل فيه خبراء معهد التخطيط القومى مع برنامج الأمم المتحدة للإنماء جهدًا كبيرًا. وتأتى أهميته بعد أن صنفت مصر فى أحدث تقارير التنمية البشرية للأمم المتحدة على أنها فى المرتبة الرابعة والعشرين بعد المائة من بين مائة وثلاث وسبعين دولة، وكان من الطبيعى أن يبدأ المسئولون عن التخطيط فى مصر وعلى رأسهم الدكتور كمال الجنزورى، ليسألوا: لماذا تقع مصر فى هذه المرتبة الدنيا رغم ميراثها الثقافى الغنى، ورغم ما تنفقه على الخدمات الاجتماعية مثل التعليم والصحة؟


وكانت فكرة عقد هذا الحوار بين المحافظين تعتمد على سببين: أولهما أن فلسفة العمل الوطنى تقوم على أن أحوال الناس أكثر أهمية من كل شىء آخر.. الناس أهم من أرقام الناتج القومى.. والناس أهم من المصانع.. والناس أهم من الإنجازات الهائلة التى حققتها الحكومة لعلاج عجز الموازنة، وإصلاح حال الاقتصاد.. وتنمية الناس أهم من تنمية الإنتاج والتجارة وعلاج التضخم.. والسبب بسيط، هو أن كل هه الأعمال – على خطورتها البالغة – ايس لها مبرر، ولا هدف، إلا تحسين أحوال الناس. فالإنسان هو الغاية.. وهو الوسيلة، هو الوطن، وهوالمواطن، هو الحاضر، وهو المستقبل، وكل جهد يبذل من أجل الإنسان هو وحده الجهد الذى يستحق أن يكون سابقًا لكل ما عداه من واجبات وضرورات وأولويات.


أما السبب الثانى لإدارة هذا الحوار على قمة العمل التنفيذى بالمحليات هو أن البداية الصحيحة للتنمية الاقتصادية هى تحسين ظروف حياة البشر.. وكانت القضية الأولى فى الحوار هى: هل يمكن أن تتحقق تنمية الإنسان المصرية تلقائيًا.. من خلال قوى السوق.. ودون تدخل قوى ومباشر من الدولة، مسايرة للاتجاه الفلسفى الجديد الذى يدفع إلى مزيد من إنسحاب الدولة.. أم أن هذا المجال بالذات.. مجال تنمية البشر لم يتحقق بشكل جديد ويصل إلى أهدافه إلا عن طريق تدخل الحكومة بكل ما لديها من قدرات وإمكانات.. ثم فرضت قضية الديمقراطية نفسها حين وصل الحوار إلى نقطة مهمة هى: هل يمكن أن تتحقق التنمية البشرية بأجهزة لحكومة وحدها أم أن التنمية البشرية هى فى جوهرها تنمية لصالح الناس لكنها لابد أن تتم عن طريق الناس أنفسهم.. وهنا توقف الحوار طويلاً وعميقًا عند موضوع "المشاركة".. مشاركة المواطن فى كل ما يخص حياته ومستقبله هو وأبناءه.. مشاركة هى تعبير عن الايجابية والفاعلية، وترجمة لحقيقة أن المواطن لا يعيش لنفسه فقط، فيما تستحق أن يولد من عاش لنفسه فقط كما كان زعيمنا الوطنى الكبير مصطفى كامل.. ولكن لابد أن تتسع دائرة اهتمام المواطن لتشمل دوائر أخرى هى دائرة الحى الذى يعيش فيه، والمدينة، ثم المحافظة، إلى أن يصل إلى الاهتمام بكل هموم الوطن.. والتفكير فيها والمشاركة فيها بالفكر وبالعمل.


وسار الحوار وفقًا لمفهوم اتفق عليه الجميع هو التنمية البشرية مفهوم مكون من ثلاثة عناصر: العنصر الأول هو العمر المتوقع للمواطن عند مولده.. لأن متوسط العمر يعكس مسائل كثيرة، من بينها الرعاية الصحية، وصلاحية البيئة، وكفاية الغذاء وجودته، ومستوى الخدمات الأخرى التى تؤثر فى سلامة الإنسان. أما العنصر الثانى فهو مستوى التعليم، وهنا برزت قضية الأمية باعتبارها وصمة حقيقية، ومأزقًا حضاريًا يعوق التنمية والتقدم الاقتصادى، ويعوق أيضًا الديمراطية والتقدم السياسى، وامتد الحوار بعدها إلى النقص فى إمكانات المدارس، وضرورة المشاركة الشعبية فى تمويل التعليم، والدور الذى يجب أن يلعبه رجال الأعمال لخدمة المجتمع بعد أن قدم المجتمع لهم من الخدمات كل ما يستطيع من إعفاءات وتسهيلات وامتيازات وحماية، وما زال مستعدًاا لتقديم المزيد لفتح الطريق أمامهم دون عوائق، وليس أقل من أن يردوا شيئًا من هذا الدين تعبيرًا عن المسئولية الاجتماعية الواجبة.. وتشعب الحوار إلى قضايا كثيرة مثل أهمية ربط التعليم بسزق العمل من ناحية، وبالحاجات العلمية من الأبحاث اللازمة للتطوير الإنتاجى والعسكرى والاجتماعى..


أما الحوار الثالث فى التنمية البشرية، فهو دراسة نصيب الفرد من الناتج القومى أو مدى تحقق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص بين المواطنين، ليس بالمفهوم السائد فى ظل التطبيقات الماركسية التى ثبت فشلها، ولكن بالمفهوم السائد فى الدول التى تأخذ بنظرية قزى السوق، وعلى رأسها أمريكا.. وفرنسا.. وكندا.. وألمانيا.. وسنغافورة.. وتايوان.. وكوريا.. وأندونيسيا.. لأنه ليست هناك دولة فى العالم تتبنى نظرية تقول بعدم مسئولياتها عن تحقيق القدر المعقول من العدالة الاجتماعية وتوفير الخدمات الأساسية.. ولذلك فإن دور الدولة باق.. بل إنه دور لا يقل أهمية – فى ظل اقتصاد السوق – عما كان فى ظل الاقتصاد الشمولى، مع اختلاف فى الفلسفة والاتجاه والدرجة.. ولكن تبقى الدولة مسئولة.. بل هى المسئول الأول عن توفير الخدمات لمواطنيها.. وإن كان الحوار قد تطرق إلى كيفية تمويل هذه الخدمات وقدرة الحكومة على تدبير الموارد الكافية لها.. لن الاتفاق كان كاملاً على أنه لابد من وضع أهداف للتنمية البشرية التى نريدها.. ولابد أن تكون هذه الأهداف واضحة ومحددة وليست مجرد شعارات أو عبارات عامة، غامضة.. ولابد أن تكون هذه الأهداف واقعية وقابلة للتحقيق وفقًا لتوقيت زمنى.. وأيضًا لابد أن تكون التكاليف محسوبة ومصادر التمويل محددة.. ثم كان طبيعيًا أن يتحدث المحافظون عن قضية الإدارة المحلية الأولى: اللامركزية.. وتطوير نظام الإدارة وأسلوب العمل فى الجهاز الحكومة.. وإعطاء أهمية حقيقية لمشكلة نقص الكفاءات الإدارية والفنية فى بعض المحافظات، وهذا يجعلها تنفق كثيرًا ويكون العائد قليلاً.. لأن سوق الإدارة هو الداء الى ليس له دواء.. إلا الجراحة..!


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف