فى قـــارب واحــــد..!

حرص الرئيس حسنى مبارك فى خطابه بمناسبة الاحتفال بعيد ثورة 23 يوليو على أن يشير إشارات لا تخفى أهميتها ولا دلالاتها على المتابعين لمسار اتطورات الحياة السياسية.. ومن هذه الإشارات المهمة قوله "إننا جميعًا فى قارب واحد"، ولن يتحول شعب مصر أبدًا إلى فرق شتى، وفصائل متناحرة تنفصم بينها العرى, وتقطع الأوصال".. وتزداد أهمية هذه الإشارة إذا وضعناها فى سياقها الصحيح, وفى ضوء الظروف الحالية التى تنتقل فيها الممارسة الديمقراطية نقلة جديدة تجو مزيد من الانفتاح على الفكر الآخر، وقبول مبدأ الحوار لحل الخلافات السياسية والفكرية والاجتماعية، وإطلاق ملكات الإبداع دون أية قيود إلا اعتبارات الصالح العام والأمن القومى ودواعى حماية المستقبل.. كما تزداد قيمة هذه العبارة حين نحلل أبعادها فى ضوء المواقف السياسية التى سبقت وصاحبت وأعقبت الحوار الوطنى.


فلقد كان الحوار مناسبة، أو اختبارًا، للتعرف فى موقف عملى، على مدى صدق النوايا، والإخلاص للمصلحة العامة والمقدرة – أو عدم المقدرة – على التنازل عن المناورات الحزبية والسعى إلى تحقيق مكاسب فردية أو فئوية.. فظهرت تيارات مختلفة بعضها استطاع أن يثبت أنه مدرك لطبيعة الظروف المحيطة بالوطن فى هذه الفترة، وبعضها أثبت العكس، إنه غائب عن إدراك المخاطر، وبعيد عن تفهم دواعى المصالح الوطنية العليا، ولا يرى إلا مصالح وغنائم يمكنه أن يحققها بسرعة ولو على حساب الوطن.. ولو على حساب مجموع الجماهير.. ولو على حساب مستقبل الأجيال الجديدة.. كما أظهرت تيارات أنها يمكنها أن تمارس لعبة الديمقراطية وفقًا لفقواعدها وأصولها الصحيحة، وتدرك أن كل رأى لابد أن يجد فرصة التعبير عن نفسه، ولكن ليس هناك رأى لبشر يمكن أن يدعى لنفسه العصمة، أو الصلاحية لكل زمان ومكان، أو الصواب المطلق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. ولكن كل رأى قابل للاختلاف، وللحوار، ولتعدد زوايا الرؤية تبعًا لمواقف ومصالح ههذ الرؤية.. وهذا مشروع ولا أعترض عليه، ولكن الاعتراض يأتى حين تتصور فئة – أو فرد – أنه لها رأيًا معصومًا من الخطأ، أو موقف المناقشة والنقد، أو يمكن أن يكون موضوعًا للاختلاف.. هذا أولاً..


وثانيًا: كان الحوار مناسبة لتأكيد معنى آخر هو أن الممارسة الديمقراطية الصحيحة لابد أن تعترف بأن الصواب هو ما تراه الأغلبية صوابًا إلى ان يثبت العكس أو تقتنع الأغلبية برأى آخر. وأن محاولة الأقلية التوصل إلى أن رأيها هو الصواب، وهوالجدر بالاعتبار، وهو واجب للنفاذ، فوق رأى الأغلبية، فهذا خطأ فى فهم الديمقراطية وإفساد الممارسة، وضباه للحق والحقيقة وطريق فاسد يؤدى إلى نتائح فاسدة، بل أنه يوصل إلى أوخم العواقب، كما أثبتت تجارب الشعوب فى كل مراحل التاريخ.


أثبت الحوار أنه بقدر ما يكون للأغلبية من حق اتخاذ القرار فإن عليها واجب الاستماع  إلى الآراء المعارضة بكل تقدير ووضعها بوضع الاعتبار، لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادى فى الباطل. وبعد أن تأخذ آراء الأقلية حقها من المناقشة والتفهم، فإن الكلمة الأخيرة للأغلبية.. وأثبت أيضًأ أنه بقدر ما يكون للأقلية من حق ابداء الرأى المعارض دون خشية أو مصادرة، فإن عليها واجب احترام الأغلبية والنزول على إرادتها.. باختصار أن الأعلبية أغلبية.. والأقلية أقلية.. الأغلبية هى التى تحكم وتتخذ القرار وتتحمل مسئوليته.. والأقلية تعارض وتنتقد وتفند آراء الأغلبية بكل قوة.. ولكن أيضًا بكل احترام..


لماذا؟


لأن الجميع أغللية وأقلية هم فى النهاية أبناء وطن واحد.. ولهم هدف واحد هو تحقيق الرخاء والخير لأبناء الوطن، وتدفعهم للاختلاف اعتبارات واحدة هى الرغبة فى الوصول إلى القرار الأفضل والأكثر تحقيقًا للمصلحة والأقرب إلى الصواب.


والجميع.. أغلبية وأقلية يتقبلون مبدأ الخلاف على أنه تعبير عن ضرورة من ضرورات التفكير الصائب.. ومنهج للوصول إلى ترشيد العمل السياسى.. وإذا لم يكن الخلاف موجودًا لوجب أن يوجدوه لكى لا يمر قرار إلا بعد تقليب أوجه الرأى فيه، ووضع افتراضات الخطأ موضع الاختبار لكى نضمن الصواب.. والتفكير العلمى الصحيح لا يعتمد على مقدرة الأدلة التى يقدمها على صحة قاعدة أو فرض علمى بقدر ما يعتمد على الأدلة التى تكذب أو تشكك فى هذه القاعدة.. كذلك القرار السياسى لا يكفى أن يكون له ألف سبب يبرر اتخاذه، ولكن إذا كان هناك سبب واحد يبرر اتخاذ قرار آخر غيره فلابد من التفكير فيه بجدية ومناقشته بموضوعية إلى أن يتضح أيهما القرار الصحيح..


والجميع.. أغلبية وأقلية ينطلقون فى عملهم من واقع قد يكون هناك كثيرون على وعى به، ولكن قليلين قد يكونون على غير وعى به، رغم بساطته، وهو أن هذا الوطن ليس وطن الأغلبية وحدها، ولكنه وطن الأعلبية والأقلية، وأن حقوق المواطنة تتضمن الحق فى المشاركة.. المشاركة فى مناقشة السياسات والمبادىء والمواقف.. والمشاركة فى اتخاذ القرار.. والمشاركة فى الإشراف والرقابة على التنفيذ.. والمشاركة فى توجيه أجهزة التنفيذ ومحاسبتها.. هذه المشاركة، نقول عنها إيجابية المواطن بالنسبة للقضايا العامة، وبقدر ما يتاح للمواطن من مساحة للمشاركة تتكون لديه المشاعر والسلوك النابعة من الإيجابية، والعكس هو الذى يؤدى إلى السلبية، والإنطواء، وقد يوصل إلى عدم الولاء أو الانتماء إلى آخر هذه الأمراض النفسية الاجتماعية السياسية.. والمهم أن روح المشاركة لكى تنمو فى المجتمع ف‘نها تحتاج إلى مجهود من الأغلبية والأقلية معًا، ولا تنمو من تلقاء ذاتها بطريقة عفوية أو عشوائية.. وإاذ كان على الأغلبية واجب إفساح الصدر وإعطاء الفرصة للأقلية لتبدى آرائها كاملة دون صخب أو مقاطعة أو استهزاء أو استهانة.. فإن واجب الأقلية أن تدرك أن حقها فى المعارضة لا يعنى حقها فى تغيير القرار أو فى أن يكون لها حق "الفيتو" أو حتى حق إدعاء الصواب مهما تكن حكمة الأقلية.. لأن الديمقراطية فى النهاية هى حكم الأغلبية، وفى الكتب أقوال كثيرة لفلاسفة يرون أن الأغلبية ليست دائمًا على صواب بنسبة مائة فى المائة، ولكن الأقوال الأكثر للفلاسفة وعلماء السياسة تتفق على أن إهدار الأغلبية ينطوى على خطر بالغ قد يؤدى إلى أوخم العواقب، وقد ينتهى إلى الديكتاتورية، وما الديكتاتورية إلا حكم الأقلية أو حكم الفرد وتصور بأنهم أكثر حكمة ودراية بالصالح من الشعب كله.


وأخيرًا فإن الأقلية لا ينبغى أن تتجاوز فى الخلاف الحدود المسموح بها لكل خلاف سياسى، وهو إبداء الرأى المعارض، والدفاع عنه، وشرحه، دون أدنى تفكير فى الانقلاب على أصحاب الرأى الذى يحوز رضا الأغلبية.. ودون تصور أن "عدو عدوى صديقى" فتمد المعارضة أيديها إلى كل من يختلف مع النظام بصورة أو بأخرى توهمًا بأن ذلك من عمل المعارضة، إلى أن تجد بعض فصائل المعارضة نفسها دون أن تدرى فى صفوف أعداء الوطن.. وقد يبدو الفارق بسيطًا جدًأ فى البداية ولكنه فارق هائل فى النهاية.. فارق بين من يختلف لكى يدفع القارب إلى الأمام بقوة أكبر توصله إلى الهدف العام بسرعة أكثر.. وبين من يحدث ثقبًا فى القارب ظنًا بأنه إذا غرق ستكون هه هى الفرصة التى تنتظرها الأقلية لكى تقود القارب، ويصل الغباء إلى نسيان حقيقة بسيطة يدركها عقل طفل.. هى أنه – فى هذه الحالة – لن يكون هناك قارب..!


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف