النقد السياسى فى أدب طه حسين ( 2-2)

لم يتوقف طه حسين عن مهاجمة حكومات الأقلية التى كانت تنفذ للقصر ولسلطة الاحتلال مطالبها وأولها الحجر على الحريات ومطاردة الكتّاب واعتقال الألسنة، فكان طه حسين يلجأ إلى الرمز فى ممارسة النقد للحكومات وللسياسيين وللقصر، ولذلك لم تستطع الحكومة أن توجه إليه تهمة السب والقذف أو تهمة العيب فى الذات الملكية وهى اتهامات كانت جاهزة دائما فى ذلك العصر. وقد جمع طه حسين بعض هذه المقالات فى كتابين فى سلسلة «اقرأ» التى تصدرها دار المعارف وهما «جنة الحيوان» و«نفوس للبيع» يشبّه كل واحد من أهل الحكم والسياسة بحيوان من الحيوانات فهو يتحدث عن أحد الوزراء ضخم طويل عريض تسبقه بطنه كأنما يفسح له الطريق، فإذا جلس يحتاج إلى مقعد يسع هذه الكتلة الضخمة، ومع ذلك فإن الكائن الضخم يشبه الذباب لا من حيث الحجم، ولكن من حيث الخلق والمزاج، ففيه من «أخلاق» الذباب أنه دائما تابع لا يستطيع أن يستقل بنفسه لحظة، وإذا كان الذباب لا يجد من يحميه إذا أراد الناس إبعاده أو التخلص منه إلا أن هذا الرجل يجد الحماية فى الحياة الاجتماعية، ومن القوانين التى تتيح له أن يكلف الناس من أمرهم شططا ولا يستطيعون أن يبعدوه عنهم أو أن يتخلصوا منه، وهو يعلم ذلك ويستغله، وينمى فى نفسه أخلاق الذباب التى كانت فيه منذ طفولته، وظلت تلازمه فى جميع مراحل حياته، وكان الجميع يقبلونه كارهين وهو يجيد إرضاء رؤسائه، ويلح فى طلب ما يريده من الناس، فيحصل عليه حين لا يجد الناس وسيلة أخرى ليستريحوا من إلحاحه، وكان دائما يتتبع أسرار وأخبار زملائه وينقلها إلى رؤسائه ووسيلته فى ذلك أن يتقرب إلى زملائه وينقل ما يبوح به كل منهم إلى رؤسائه، وهكذا صعد بفضل انخداع زملائه فيه ورضا رؤسائه عنه، ولما وصل إلى موقعه الرفيع استطاع بغريزته أن يكتشف من يصلح ليكون جاسوسا على مرءوسيه، كما كان يفعل هو، وهكذا ازداد عدد المنتمين إلى «مدرسة الذباب»!

***

ويعتبر بعض النقاد أن طه حسين من أهم المفكرين الذين مهدوا لثورة يوليو بكتاباته وتحكم المحتلين فى مصير البلاد، وعن الفساد وطغيان السلطة، والحرمان الذى يعذب الفقراء، والاستهانة بالدستور والقانون، وكان أدبه الرمزى هو الذى نبه الأذهان إلى استحالة استمرار أوضاع الفساد السياسى والأخلاقى وهذا ما جعل الملك والاحتلال واتباعه يقولون إنه «شيوعى» فهو- مثلا- يتحدث عن «الباشا» الذى كان الفلاحون يذعنون لسلطانه، ويرون طاعته حق عليهم وأنهم ملك له، كما أنه أرضه وماشيته ملك له، ولكن الفلاحين تنبهوا بعد أن ظهرت فتاة تتحدث إلى كل واحد فى البلد وتكشف لهم ما هم فيه من بؤس وظلم، وبثت فيهم روحا جديدة فتغير رأيهم فى «الباشا» واقتنعوا بأنه ليس من حقه أن يسلبهم حقهم، وبدأ بعضهم يتحدث إلى بعض همسا، ثم ازداد الهمس ثم ارتفعت الأصوات وذهب الباشا يلتمس الحل عند زملائه فوجدهم جميعا يشعرون بالهلع لنفس السبب، ووجد أصحاب الثروات الحرام يعانون ويبحثون عن وسيلة للنجاة بأنفسهم، وملأت الشوارع أصوات الاحتجاج وهتاف الساخطين على الظلم إلى أن وجد الباشا نفسه يوما يستمع إلى صوت يقول له: أقدم طائعا راضيا خير من أن تقدم كارها مضطرا، وكانت صاحبة الصوت هى الفتاة التى طافت بالناس جميعا وفتحت عيونهم وعقولهم، وتساءل «الباشا»: من الفتاة؟.. فقيل له إن اسمها «العدالة الاجتماعية».

وهكذا كان طه حسين من أوائل الداعين إلى «العدالة الاجتماعية» والرافضين للظلم الاجتماعى الذى كان سائدا فى مصر ومن أوائل من دعوا إلى الثورة أو تنبأوا بها.

***

وكتب طه حسين- فى العهد الملكى يقول- «نظرت مصر فإذا أهلها ساخطون قلقون مضطربون لا يرضون عن شىء، ويذكر المصريين بقول الشاعر القديم:

إذا لم تكن إلا الأسنة مركبا

فلا أرى للمضطر إلا ركوبها

ومعنى ذلك أن الناس ستجد نفسها مضطرة إلى الحصول على حقوقها بغير الوسائل التقليدية.

***

وفى قصة أخرى يصف أحد الباشوات بأنه فيه صفات الثعلب، فهو يراوغ ويتملق الجميع حتى ينجح فى أن يجعل الأحزاب تشعر بأنها محتاجة إليه فهو واحد من الثعالب التى عناها المتنبى حين قال:

نامت نواطير مصر عن ثعالبها

فقد بشمنا وما تغنى العناقيد

ويشير إلى واحد من كبار الساسة برع فى اللعب على كل الحبال واستخدم مواهبه فى الكتابة، فاتصل بوجوه الناس وفرض نفسه عليهم فأصبح واحدا منهم، وفى أحداث التطور السياسى والاضطراب الخلقى والانتقال الاجتماعى وما كان من تغير القيم تمكن من أن يرتفع إلى مكان الأفذان.

وكانت قصصه عن الباشوات تثير سخطهم عليه فيحرضوا من يهاجمه من اتباعهم.

***

وفى كتابه «نفوس للبيع» اختار طه حسين أن يوجه النقد إلى السياسيين فى شكل رسائل يبعث بها إلى «صديق» وفى كل رسالة يقصد شخصية معروفة لا تخفى عن فطنة القارئ، وقد تعود قراء طه حسين فى ذلك الوقت على قراءة ما يكتبه على أنه ألغاز وإشارات ويجتهدون فى معرفة الشخصية التى يقصدها وما يريد أن يوصله إلى الرأى العام.

ففى رسالة من هذه الرسائل يقول «للصديق» المفترض: شغلت بنفسك حتى يأس الناس منك لأنك معهم وقت الرخاء وبعيدا عنهم وقت الحاجة إليك، ولأنك تستأثر بالكثير وإذا بحث الناس عن «المعين» وجدوك قد ذهبت بعيدا ونعمت وحدك ولا ينغصك منظر البؤس، لأن قلبك من صخر وليتك تفتح فى قلبك ثغرة لتشعر بالناس وتشاركهم.

وبصور شخصية معروفة فى الوسط السياسى فيقول إن صاحبها لا يستمتع «بالنعمة» التى تتاح له إلا إذا عرفت أن «النقمة» تصب على غيره، وهو يقول وأعماله غير ما يقول، وهو مثل غيره ممن رفعتهم الحياة إلى أرقى الدرجات فهم سادة وقادة يدبرون ويقدرون ويأمرون وينهون وينفعون ويضرون، ولكنهم «عبيد» يملكون من أمور الناس الكثير ولا يملكون من أمور أنفسهم شيئا، وكنموذج لهؤلاء يحكى قصة الفتى الذى أفاق من نومه ذات صباح فإذا هو قد مسخ حشرة، ولكنه احتفظ بحظ من العقل فهو يعرف ما صار إليه، فكان حين يلقى أهله يحزنون عليه مع الوقت أصبحوا يضيقون به، ثم بعض الناس أصبحوا ينفرون منه، حتى هان على أهله وعلى الناس، ويعلق على هذه القصة قائلا: كل شىء فى حياتنا يذكّر بالمسخ، فالوطن كان فيما مضى وطنا مجيدا يهابه الأقوياء ويستظل به الضعفاء وينشر ضوء الحضارة، لكنه انزوى وتضاءل: أتراه قد مسخ كما مسخ هذا الفتى أم أن أهله هم الذين مسخوا؟

ويوجه حديثه إلى شخصية أخرى قائلا: كأنك تخلق كل يوم خلقا جديدا ينسيك اليوم الذى قبله، ويكرر الاستشهاد بقول الشاعر فى حديثه عن السياسيين فى زمانه.

يعطيك من طرف اللسان حلاوة

ويروغ منك كما يروغ الثعلب

ويقول عن حال المجتمع فى هذه الفترة التى ساد فيها الفساد السياسى والاجتماعى: انظر حولك، فسترى نفوسا تعرض للبيع، وأخلاقا تعرض للمساومة، منها ما يباع بثمن بخس، ومنها ما يباع بثمن لا بأس به، ولكنها تباع على كل حال، وعلى الإنسان أن يختار إما أن يبقى على خلق فيمتنع عن الغواية ويصون نفسه من أن يكون سلعة للبيع والشراء، وإما أن يعرض أخلاقه للمساومة وفى هذه الحالة عليه أن يرضى بما يعرض عليه.

وفى حديث آخر عما وصلت إليه مصر فى ذلك الزمن يقول:إن فى مصر شرا ماثلا، فقد كان المصريون يقدرون أن الآخرة هى التى تقذف الأشرار فى الجحيم وتمتع الأخيار بالنعيم، ولكن تبين لهم أن نعيم الدنيا لا علاقة له بالأذكياء أو بالأخيار، ولكن النعيم فى مصر لأصحاب الثراء العريض وليس لغيرهم من الفقراء وأوساط الناس، أما أصحاب الجحيم فهم الجائعون الضائعون، والبائسون اليائسون، والمأزومون المحرمون الذين لا يحفل بهم أحد، وكأنهم أرسلوا إلى الأرض ليتجرعوا فيها الشقاء!

***

وتحت عنوان «رسالة السراب» كتب طه حسين موجها حديثه إلى من يملكون زمام البلد: إذا أقبلت الساعة التى يودع فيها الناس حياتهم، وتعرض فيها أعمالهم، فندموا حين لا ينفع الندم، وأنت تسعى إلى المنافع وتصعد إلى السلطات وقد امتدت إليك أسباب الغرور، وأخيرا تكتشف أنك ممن كانت (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ).. واقرأ الآية (39 من سورة النور).

لقد كان طه حسين صادقا مع نفسه ومع مجتمعه، كان ينبه ويدق الأجراس من أجل إعادة الوعى إلى الغافلين ليدركوا تدهور الأحوال و حجم الفساد والفاسدين.. وكانت هذه هى رسالته التى لم يتخل عنها.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف