حصاد مهرجانات القراءة

عندما بدأ مهرجان القراءة للجميع منذ ثلاث سنوات ظن كثيرون أنها موجة أخرى من موجات الحماس لمشروع جديد سوف ترتفع إلى أعلى ذروة ثم تهبط وينتهى مصيرها إلى النمسيان مثل مشروعات كانت ذات قيمة كبيرة ولكنها أصبحت بالتراخى والإهمال من ذكريات الماضى.


لكن الأيام أثبتت عكس ذلك، فقد استمرت الدعوة للقراءة، والاهتمام بالكتاب والمكتبات العامة، وتنظيم الحملات القومية لإثارة اهتمام الناس وحماسهم لكى يعلموا أنفسه، ويدركوا قيمة الثقافة فى ترقية الوجدان والسلوك، والارتفاع بالمواطن إلى الدرجة الحضارية التى تجعله يعيش العصر، ويمارس الحرية ممارسة سليمة،ويعرف كيف يتعامل بأسلوب راق داخل مجتمعه، واستمر الحماس، بل تزايد عامًا بعد عام، واتسعت دائرة المهتمين بالمشروع والمستفيدين به، ونزلت الدعوة إلى أعماق المجتمع فى القرى والأحياء الشعبية.


وشهادة لله، فإن الاهتمام الذى توليه السيدة سوزان مبارك، ومتابعتها المستمرة لكل خطوات هذا المهرجان للعام الرابع هى التى جعلت المشروع يستمر، ويزداد نجاحًا، ولو أن متابعتها للمشروع توقفت يومًا، غمن المؤكد أن كل شىء سوف يعود إلى ما كان عليه عند نقطة الصفر.


والجديد فى مهرجان هذا العام أنه يتجه إلى الأسرة ككل بالدعوة إلى القراءة، بعد أن كان يركز على الطفل، وعلى أبناء الريف، لأن تربية الأبناء لا تحقق أهدافها كاملة فى إطار الأسرة، وهى المجال الطبيعى لتربية الأبناء، وإذا كانت المشكلة هى ارتفاع سعر الكتاب فقد عملت قريبنة الرئيس على تنفيذ مشروع ثقافى غير مسبوق، هو إصدار 150 كتابًا من أشهر الأعمال فى الأدب العربى ومن الكتب الكلاسيكية التى أسهمت فى تكوين الحضارة الإنسانية منذ اليونان حتى العصر الحديث يتراوح أسعارها بين عشرة قروش وخمسين قرشًا أى بأقل من نصف تكلفة الورق الذى طبعت عليه، وانتهى بذلك العائق المادى، وسقطت حجة القائلين بأن ارتفاع أسعار الكتب هى السبب فى ابتعاد الناس عن مصادر الثقافة الجادة، - وهى الكتب – ولكن بقيت هناك عوائق أخرى.


من هذه العوائق مثلاً أن كثيرًا من الأدباء أنفسهم لا يؤمنون بأهمية الكتاب ولا يحرصون على اقتناع الفرد بقيمة الكتاب، واكتشاف المتع الروحية والعقلية فى مصاحبة الأفكار العظيمة، والمشكلة أننا نعيش فى عصر "حضارة التليفزيون"، وأساتذة الاجتماع والتربية فى العالم كله يشكون من سيطرة ههذ الشاشة السحرية الصغيرة على عقول الصغار والكبار بألوانها، وصورها، وتعاقب أحداثها المثيرة، وتجسيدها بالأحداث للأحداث والمواقف والشخصيات، وبما تقدمه من "وهم" الثقافة. وفى الولايات المتحدة وأوربا كتب كثيرة لعلماء الاجتماع وأساتذة العلوم السلوكية تحذر من سيطرة التليفزيون على العقول، لأنه لا يقدم ثقافة حقيقية ولكنه يقدم صورًا متتابعة، وأفكارًا بسيطة وسطحية، وهو يصلح لقتل الوقت، وتزجية أوقات الفراغ، والهروبب من الشعور بالوحدة أو الملل،ويصلح للحظات استرخاء الجسم والعقل وملكات التفكيروالنقد، ولكنه لا يصلح لإثارة العقول للتفكير، أو لتكوين معلومات صحيحة منظمة، أو للتعمق بجدية فى مناقشة موضوع. وباختصار ليس التليفزيون وسيلة من وسائل الثقافة العميقة والجادة، ولكنه يمكن أن يكون وسيلة للقافة العامة لمحدودى العلم. وهو بالأكثر وسيلة إعلام وليس وسيلة ثقافة.ليس هذا هجومًا على التليفزيون،، ولكنه دفاع عن الكتاب، فالتليفزيون يتدفق دون أن يعطى المشاهد فرصة كافية لاستيعاب أو تأمل الفكرة أو استعادتها، ولكن الكتاب يمكن قراءته على مهل، وإاعدة قراءة فقرو مرة أو مرات، وإعادة قراءة الكتاب كله مما يسمح للقارىء الاشتابك مع أفكار الكتاب فى جدل يولد أفكارًا جديدة، ويلهم بمعان أخرى ويحفز على التفكير، وينشط قدرات العقل على التفكير والتحليل والابتكار. ولكن تبقى للتليفزيون بقدرته الفائقة على جذب متوسطى الثقافة، والتأثير عليهم، وتبقى له قدرته على الانتشار والتغلغل فى كل بيت، ومخاطبة الصغار والكبار فى كل من المستويات، وأكثر من ذلك تبقى قدرته التى لا ينافسه فيها أحد على التأثير فى الوجدان بالدعوة، والدعاية، عن طريق الالحاح، والتكرار والاقتراب العاطفى..


أهمية مهرجانات القراءة أنها تعيد إلى الكتاب قيمته باعتباره أدة المعرفة الأساسية، ووسيلة العلم الحقيقية. ووعاء الثقافة الجادة، ومهرجان هذا العام يتوجه إلى الأب والأم والأبناء سواء كانوا فى سن الشباب أو الطفولة ليدعو الجميع إلى أن يعودوا إلى الكتاب الرخيض إذا أرادوا الأبناء، والإطلاع المجانى متاح من خلال مكتبات كثيرة أشرفت قرينة الرئيس بنفسها على إنشائها، وهى مكتبات حقيقية ودائمة، وليس من قبيل المشروعات التى تظهر وقت الافتتاح ثم تحتفة. وهذه حسنة لابد من تسجيلها لكل المساهمين والمشرفين على المشروع الكبير.


يبقى أن يقوم التليفزيون بدوره الذى لا غنى عنه، وهو حفز الناس على التجاوب مع المشروع،وإقناعهم بأهميته لهم كأفراد، وبجدواه للمجتمع كله. لأن نوعية حياة الفرد وسلوكه وتفكيره ومشاعره هى نتاج أفكاره ومعتقداته وثقافته، وكلما كانت هذه هذه الأفكار والمعتقدات والثقافة غنية وإيجابية متطورة ومسايرة لروح العصر ومقتضياته كلما كان المجتمع أقرب إلى التقدم والتطور والرقى. فالطالب المثقف أقدر على التعلم والاستيعاب من الطالب الذى لا يقرأ ولا حظ له من الثقافة، وأداء الموظف المثقف يختلف عن أداء الموظف البعيد عن أدوات ومفاهيم الثقافة.. وهكذا نستطيع القياس على كل مهنة، وكل إنسان، لأن الثقافة لا تؤثر فى العقل وحده، ولكنها تؤثر وبقوة فى تكوين المشاعر والاتجاهات والسلوك والضمير.


من هنا أقول أن مشروع الثقافة للجميع هو فى حقيقته مشروع حضارى بالدرجة الأولى، وهو عملية كبيرة لإعادة بناء العقول المصرية، واستنهاض الهمم، وربط المواطن مهما يكن موقعه بمصادر المعرفة العاطفية ليعيش العصر ويتعايش مع مفاهيمه.. هذا المشروع حرب على الجهل بكل صوره،وعلى الكسل العقلى الذى يجعل الناس تأخذ معارفها ومعلوماتها بالسماع عن الآخرين بدلاً من اللجوء إلى المصدر الأول للمعرفة وهو الكتاب بما فى ذلك من إيجابية واشتياق.


ولا أحب أن أعلق القصور فى المكتبات العامة فى الأحياء على قلة الاعتمادات المالية كما اعتدنا أن نفعل فى كل شىء، ولكنى أرى أن التقصير من جانب المسئولين على المكتبات العامة أهم وأولى بالعمل. ولذلك أدعو إلى فتح مكتبات جميع المدارس فى الصيف ليتردد عليها أهل الحى من الشبابوغيرهم، وأن يعاد تقييم وتدريب العاملين فى مكتبات الأحياء التابعة لوزارة الثقافة لأن بعضهم يبذلون جهده لإبعاد الناس من ارتياد هذه المكتبات ليرتاحوا، ويحافظوا على العهدة، ويتفرغوا لأمور أخرى تشغلهم، وهم مطمئنون إلى انعدام التفتيش والرقابة، وأدعو إلى أن تنظم كل الجهات المسئولة عن الشباب مسابقات فى القراءة وتخصص لها جوائز تحفزهم عليها، ومن الممكن أن تشارك فى ذلك كل الأندية، والمصانع، والوزارات،والهيئات، والجمعيات، ورجال الأعمال.. الخ.


بودى أن يتحرك الجميع بنفس الإيقاع الجاد والسريع الذى تتحرك به جمعية الرعاية المتكاملة.. ليعود الكتاب إلى عرشه.. وتعود الثقافة إلى موقعها الرفيع فى المجتمع.. وتعود العقول إلى رشدها.. ويعود العاقلون إلى الصفوف الأولى لتكون لهم الغلبة العليا فى المجتمع. وبذلك نضاعف الحصاد العظيم الذى حققته مهرجانات القراءة فى أعوامها الثلاثة الماضية.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف