أوهام البحث العلمى (4)

يبدو أن المشغولين بحالة البحث العلمى عندنا أكثر كثيرًامما كنت أتصور, فقد ثارت فى الأيام الأخيرة مناقشات واسعة وصريحة لأوضاع البحث العلمى ومؤسساته وأوجه النقص والقصور فيها وكيفية الخروج من المأزق الحالى, لكى يصل البحث العلمى فى مصر إلى الأمل والطموح القومى الذى طالبنا الرئيس مبارك بالسعى إلى تحقيقه بكل قوة, لكيلا ندخل القرن الحادى والعشرين قبل أن نحسن الاستعداد للتعامل مع معطياته بالتفكير, والتخطيط, ووضع الأحجار الأولى فى أساس البناء الكبير لوطن يليق بتاريخه وبشعبه وبدوره الحضارى الرائد.


وفى رسالة من عالمنا المعروف الدكتور محمد عبد الهادى رئيس الهيئة القومية الاستشعار من البعد وعلوم الفضاء تشخيص دقيق وشجاع، وتجديد لطريق العمل الذى لم يعدأمامنا إلا أن نسرع الخطى عليه.يقول فيها:أسعدنى وأمتعنى أن أقرأ لكم سلسلة مقالات أوهام البحث العلمىء وكان جانب من سعادتى نابعا من أن أجد أخيرا مفكرا وكاتبا يشغل نفسه بفضية اعتبرها قضية مصير،حيث أصبح البحث العلمى الهادف ، والارتقاء التكنولوجء مصدر الثروة، ومكمن القوة والحفاظ على الامن القومى لاى دولة تفكر فى ظل المتغيرات العالمية. وفى ظل التحديات الحضارية التى تشهدها منطقتنا.وفى ظل ما هو منتظر من ثورة شاملة فى شكل الحياة وما هو متوقع من تقدم مذهل خلال العشرين عاما القادمة فى مجالات العلوم والتكنولوجيا مثل: الموارد الطبيعية، والمياه، والهندسة الورائية، وتكنولوجيا البحار والمحيطات، وغيرها من المجالات التى أصبحت فى مقدمة مشاغل القيادات السياسية فى الدول المتقدمة، وأيضا فى الدول النامية التى ترغب فى الاتجد نفسها متخلفة عن هذه الثورة الشاملة، وليس فقط مجتمع العلماء والتكنولوجببن فى هذه الدول.لإدراكهم الأبعاد الاقتصادية والامنية الخطيرة جدًا التى تترتب على هذا التخلف.


ويقول الدكتور محمد عبد الهادى:"وبالرغم من اننى أشارككم الرأى فى  العديد مما اثرتموه فإننى أود ان أشير الى بعض الجوانب والأمثلة الباهرة ومنها مركز الاستشعار من البعد الذى أصبح الآن الهيئة القومية للاسشعار من البعد فى وزارة البحث العلمىء المصريين،منذ عام  1971 ، أن يتعاملوا مع أحدث تكنولوجيات عصر الفضاء, وكيف أمكن لهم  تطويرها واستخدامها بنجاح مذهل فى عدد كبير من مشروعات التنمية الأقتصادية فى العديد من المجالات المتصلة باستكشاف وإدارة الموارد الطبيعية. والرصد البيئى، ومواقع المشروعات الهندسية والانمائية الكبرى, ولهذه المشروعات قائمة كبيرة, وقد يدهش البعض أن هذا المركز الذى بدأ كمشروع للتعاون العلمى بين حكومتى مصر والولايات المتحدة فى أوائل السبعينات كان يمول كافة مرتبات العاملين به ومصروفات تطويره، حتى أصبح يمتلك واحدة من أحدث طائرات الاستشعار فى العالم، ومعامل فضائية متقدمة للتعامل مع بيانات الأقمار الصناعية وإعداد الخرائط والدراسات.. وكل ذلك من عائد خدماته المباشرة لهذه المشروعات فى عشرين عاما تقريبا ، ولم يكن له باب أول فى موازنة الدول (أجور ومرتبات) إلى أن رئى تحويله الى هيئة قومية بقرار جمهورى فى عام 1971 ، حتى يصبح نواة لوكالة فضاء مصرية فى هذه التكنولوجيا المتقدمة.


وكان من أهم المشروعات التى انجزها المركز: المسح والحصر الدقيق والشامل لكل الاراضى الزراعية من أسوان حتى حدود الدلتا الشمالية فى زمن قياسى لم يتجاوز عدة شهور. بهذه التكنولوجيا المتقدمة. وكان مقررا لها أن تتم فى عشرين عام بالوسائل التقليدية والآرضية، وهو ما عبر عنه المرحوم السيد كمال حسن على رئيس الوزراء فى ذلك  الوقت، بأنه من أهم انجازات حكومته، وصدر بناء على نتائج هذا المسح الشامل قانون منع التعدى على الأراضى  الزراعية لحمايتها من التاكل.


ويشير الدكتور عبد الهادى إلى تقرير اعدته وزارة الخارجية الأمريكية بمعاونة عشرة من أكبر بيوت الخبرة الحكومية والخاصة فى الولايات المتحدة، للرئيس الأمريكى  الأسبق جيمى كارترقيل زيارته لمنطقة الشرق الأوسط عام 1979, وكان الغرض من هذا التقرير الضخم هو تقديم رؤية شاملة للرئيس الأمريكى   عن كافة أوجه الأنشطة، والتقدم فى جميع الدول العربية مقارنة بإسرائيل، فى إطار النظرة الاستراتيجية التى كانت مستهدفة لدراسة امكانات التعاون الاقليمى    مستقبلا بين دول الشرق الأوسط وقد جاء فى التقريرعن تقدييم التقدم المصرى الكبير فى مركز الاستشعار من البعد أن اعتبره أكثر تقدما- فى هذا الوقت- عما هو موجود فى اسرائيل، وان مصر نجحت فى  نقل واستخدام هذه التكنولوجيا الفضائية المتقدمة ، إلى حد أن اعتبر التقرير أن المركز المصرى هو المركز الوحيد فى منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا الذى يمتلك امكانات تكنولوجية متقدمة، نجاحه فى استخدامها لخدمة اغراض التنمية يعتبر نمونجا لدول العالم الثالث.


لكن الدكتور محمد عبد الهادى يعود فى النهاية الى النقطة التى أريد أن أركز عليها فيقول: ء وكم كنت أتمنى- ويتمنى الكثيرون-أن يظل قصب السبق لمصر فى هذا المجال التقنى المتقدم, إلا أن بعض الدول النامية الأخرى التى بدأت معنا جهدًا علميًا فى مجالات حيوية وخطيرة فى الخمسينات والستينات, مثل الهند, فى الطاقة النووية, وفى محركات الطائرات, وأبحاث الصواريخ, وفى الزراعة, والهندسة البيولوجية, وفى علوم الفضاء والاستشعار من البعد. ولكن الهند وبعض الدول الأخرى أنتهت بدخولها النادى النووى فى الستينات, وأصبحة دولاً فضائية فى الثمانينات والتسعينات, وشاركت إسرائيل أمريكا ببرنامج من52 مشروعًا فى مبادرة الدفاع الاستراتيجى المعروفة بحر النجوم, وأطلقت الهند, وكذلك إسرائيل، عددًا من أقمار الاستشعار والاستطلاع، والاتصالات، وحققت الهند إنجازات كبيرة فى مجال الأمن الغذائى، وأبحاث الجينات، والهندسة الوراثيةـ بل وشكلت دول – مثل إسرائيل – لجنة وزارية عليا لوضع استراتيجية، وخطة عمل فى مجال الهندسية الوراثية، للحفاظ على "التنوع الجينى" والاستفادة من الثورة العلمية فى مجالات الزراعة والصناعة والصحة والدواء والصناعات التصديرية.


وبغد جهد للاقناع بأهمية الاستفادة من العمل الوطنى المتميز فى مجال الاستشعار ن البعد، فى عصر يطلقون عليه اسم عصر الفضاء، للاحتفاظ بمكان الريادة والاستفادة من هذه التكنولوجيا فى مجالات الموارد الطبيعية والبيئية والبث التليفزيونى المباشر والاتصالات وغيرها من التطبيقات والاستخدامات التى تتفق مع أهدافنا، وشكلت لجنة عليا للفضاء الخارجى برئاسة الأستاذ الفاضل الدكتور مصطفى كامل حلمى، وكان وقتها نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للتعليم والبحث العلمى فى أوائل الثمانينات، وبذلك هذه اللجنة جهودًا مضنية مع العديد من العلماء والهيئات، وتم وضع ورقة عمل للاستراتيجية المصرية وخطة خمسية للاستخدامات السلمية للفضاء وتم اعتمادها من رئيس الوزراء.. ثم تغيرت شخوص ومواقع، وتوقفت أعمال اللجنة ولم تعقد سوى اجتماع واحد فى السنوات الثمانى الماضية..


هذا هو جوهر الموضوع الذى أريد أن أركز عليه إلى أن يصبح مفهومًا ومعلومً  لكافة.. إن الأعمال اعظيمة تنجخ ثم تتعثر.. والجهود الكبيرة تبذل ثم تتوقف.. بينما القيادة السياسية لا تترك مناسبة إلا وتطالب الجميع بالعمل للحاق بالعصر، بالعلم والتكنولوجيا.. ولا تبخل بالإمكانات الكبيرة بالقياس إلى ظروف المجتمع.


والقضية كبيرة تحتاج إلى استمرار البحث.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف