أوهام البحث العلمى (3)
خلال جولة سريعة فى بعض دول آسيا التى أصبحت تسمى "النمو الآسيوية" أتيح لى أن ألتقى بمسئول كبير فى سنغافورة, تلك الجزيرة المحدودة المساحة وعدد السكان التى أصبحت الآن أكبر مركز للتجارة الدولية ومن أهم مواقع الصناعات الالكترونية والتكنولوجية, وسألته بعد أن وجدت نفسى فى حالة من الأنبهار بما رأيت: "كيف استطعتم أن تحققوا كل هذا التقدم فى وقت قصير.. ما هى بالضبط نقطة البداية؟".. وكانت الإجابة فى عبارة واحدة: "ليس هناك إلا مفتاح واحد للتقديم: التعليم والبحث العلمى"..!
وقد أخذت قضية التعليم حظها من الأهتمام الرسمى والشعبى, إلى درجة الإعلان الرئاسى باعتبار التعليم المشروع القومى لمصر حتى عام 2000, وإعلان الرئيس مبارك فى كل خطبه خلال الأعوام الثلاثة الماضية وآخرها فى عيد العمال أول مايو الماضى أن التعليم سيكون له الأولوية من أهتمام الدولة ومخصصات التمويل, باعتباره الأساس لبناء مستقبل الوطن وأبنائه.
لكن قضية البحث العلمى هى التى ما زالت تحتاج إلى هزة. ويبدو أن مؤسسات البحث العلمى عندنا قد أستسلمت لسيطرة العقليات البيروقراطية التى حولت المسألة من قضية حياة أو موت.. تقدم أو تخلق.. أن نعيش العصر أو نعيش خارجه.. إلى قضية درجات وعلاوات ومناصبب ومكاتب ومبان فاخرة وأجهزة تكييف, ثم الأكتفاء بموقف الدفاع المتحفز, بالحق وبالباطل, إذا خطر لأحد أن يكشف حقيقة الحال الذى وصلت إليه هذه المؤسسات. وعلى سبيل المثال فإن مركز البحوث الاجتماعية مشغول هذه الأيام بإعداد رد مطول وقوى على ما كتبته حول تقاعس هذا المركز فى التصدى للمشكلات والظواهر الاجتماعية والسلبية التى طفرت وتضخمت وأصبحت تهدد أمن وسلامة المجتمع. وتعقد فيه الاجتماعات, ويجرى الإستعانة بخبراء من مراكز البحوث الإستراتيجية لإعداد رد منمق ليس فيه دفاع عن الأحوال المتردية فى المراكز, ولكن فيه هجوم على نوايا وبواعث كل من يحاول أن يمسه أو يكشف المستور فيه..
وهذا منهج خطأ, ولا يفيد: أن نحول القضايا العامة إلى قضايا خاصة وشخصية, فلا يخطر على بالى أو على بال أحد غيرى أن أنال من شخص أحد من المسئولين فى هذا المركز, ولا أظننى أطمع فى وظيفة فيه, ولكنى أطمع فى أن أراه مؤسسة نشيطة وفعالة ومؤثرة ومفيدة للمجتمع المصرى.. أسأل نفسى: ماذا حقق هذا المركز للبلد.. كم أنفق عليه.. وكم عدد الكفاءات النادرة والمتخصصة والموجودة فيه.. وماذا أعطانا مقابل ما أخذ من أموال الضرائب.. هل عمل على نشر فكر اجتماعى جديد..؟ هل ساعدنا فى تطور مناهج العمل مع الشباب..؟ هل بحث لنا الأسباب العميقة لجذور الإرهاب ولماذا يقع بعض الشباب فى شباكه..؟ هل استطاع تكوين فرق "إنقاذ اجتماعى" من المرشدين والمواجهين الاجتماعيين بخطط وأسلحة علمية للعمل لوقاية الشباب من الانحراف وإنقاذ من وقع منهم فى الشباك..؟ ولماذا ظلت هذه المؤسسة العلمية الاجتماعية بعيدة عن المؤسسة الدينية وأنشطتها وجهودها.. لماذا لم تفكر حتى الآن فى التنسيق والتعاون معها لمواجهة خطر الإرهاب؟.
الهدف من اثارة هذا الموضومع ليس الهجوم, وحاشا لله أن أفكر فى المساس بقيمة علماء أفاضل, ولكن الهدف هو"المؤسسة" فى ذاتها, وأسلوب عملها، وتوجهاتها, وفلسفتها فى التعامل مع المجتمع, وإحساسها بالمسئولية تجاه المشاكل الكبيرة التى تشغل البال, وتهدد الكيان, ومدى تفاعلها مع احتياجات البلد فى ظروف دقيقة.
أما الدكتورة فينيس كامل وزيرة الدولة للبحث العلمى, ومن موقع الاحساس بالمسئولية, ولذلك جاءنى ردها موضوعيًا وخاليًا من الأنفعال, مقدراالدافع الجقيقى لما أكيب.. وقالت فيه, انها قرآت بكل أهتمام مقال" أوهام البحث العلمى" وما فيه من ضرورة اعادة البحث العلمى فى مصر الى مكانه الصحيح حتى يؤدى دوره المأمول فى خدمة المجتمع" وهى آراء نبعت بالتأكيد عن غيرة وطنية, واهتمام بقضية بؤرة الأهتمام ليس فقط على المستو المحلى, بل على المستو ى العالمى".
وتقول الوزيرة:"ولذلك فإننى أود أن أعبر عن خالص شكرى وامتنانى لطرح هذه القضية بصراحة فى سلسلة من المقالات. ولن أبدأ بإجابات عامة أو غامضة, ولن أتبع أسلوب مرافعات الدفاع بآساليب بلاغية, ولن أعلق أوجه القصور على"شماعات" الأخرين,ولكنى أود أن أقول, وبكل الصدق والوضوح, أن مؤسسة البحث العلمى فى مجملها قد أدت دورًاهاما فى المرحلة السابقة.وهناك آدلة مؤكدة لذلك, ولكنى بالقطع اتفق مع الكاتب فى أن البحث العلمى مؤسساتهلم تستطع حتى الأن تحقيق الأمل المعقودعليها فى عالم يتنافس لمكافحة التخلف, وتسلق جبال الارتقاء العلمى والتكنولوجى. ولهذ فقد عكفت منذ توليت مسئولياتى فى لأكتوبر 1993 على دراسة الأوضاع, وتشخيص المشاكل,وتجهيز الحلول الواقعية, وبدعم من القيادة الساسية ثم تشكيل لجنة وزارية عليا للبحث العلمى والتكنولوجيا برائاسة رئيس الوزراء وعضوية أحد عشر وزيرًاو مما يؤكد عزم الدولة الأكيد على وضع البحث العلمى والتطوير التكنولوجى فى مصر فى مكانه الصحيح, وباتباع إسلوب التخطيط العلمى السليم, والأدارة الفعلية للامكانات فى سبيل تحقيق الغايات من حيث مسايرة التطور, والأنشغال بمشاكل المجتمع, وإحتياجاته الحالية والمستقبلية فى ضوء رؤيته للتحدى الحضارى القادم, ووضع مصر فيه, الأنفتاح على مراكز التقدم العلمى العالمى.. ونامل أن نستطيع من خلال هذا العمل الحاد والمخلص أن رنتفع تدريجيًا باسهامات قطع البحث العلمى والتكنولوجيا الوطنى من أجل مصر..
هكذا أجد أن موقف الوزيرة يستحق الاحترام.. اعترف بوجود المشكلة.. وبدء فى العمل المخلص وعلى الطريق الصحيح لحلها..
وبنفس الروح المخلصة نواصل الأسهام مع الوزيرة فى التفكير للنهوض بهذا القطاع المسؤل عت بناء المستقبل كله.. ونشارك معها فى تكوين رأى عام يؤيد الجهود المخلصة للتطوير.