أوهام البحث العلمى (2)

فى زيارة الرئيس حسنى مبارك للصين فى الشهر الماضى حرص الرئيس على زيارة موقع له أهمية خاصة عنده، وقضى فيه وقتًا طويلاً، وسأل واستفسر عن التفاصيل المتعلقة بإنشائه وسير العمل فيه.. وكان هذا الموقع هو واحد من عشرات المواقع التى تجرى فيها تجربة الصين الفريدة فى ربط البحث العلمى والتكنولوجيا بالصناعة والإنتاج والمجتمع.


ففى هذا الموقع عشرات الجمامعات وعشرات المصانع. وكل طالب وأستاذ مرتبطان بالعمل فى أحد هذه المصانع، والأساتذة يتخذون من المصانع حقول تجارب لأفكارهم ونظرياتهم وابتكاراتهم، وبذلك نجحت الصين فى ربط العلم بالعمل والتطبيق، والقضاء على الفجوة بين الفكر النظرى والفكر التطبيقى، وأعداد أجيال جديدة من العلماء والمهندسين والعاملين فى مجالات الصناعة والتكنولوجيا، أتيحت لهم الفرصة كاملة لتدريب وممارسة العمل ومواجهة مشكلاته، بحيث يتعامل مع ظروف العمل بعد انتهاء الدراسة تعاملاً واقعيًا ومنتجًا.


وحين أدبى الرئيس مبارك إعجابه بهذه الفكرة كان يعبر بذلك عن ضرورة الاستفادة بهذا الأسلوب الذى نحتاجه أشد الاحتياج، لكى نقضى على الفجوة. بل الانفصال. القائم عندنا بين الدراسة فى المعاهد والكليات من ناحية، وبين المصانع ومواقع العمل المختلفة من ناحية أخرى، بحيث يقضى الطالب عندنا سنوات طويلة فى الدراسات والامتحانات، ويعرف كثيرًا عن النظريات.. ولكن معلوماته عن مشكلات العمل الحية التى يعيشها العاملون فى الميدان لتزيد عن أن تكون معلومات نظرية لا تمكنه من التعامل معها عندما يبدأ حياته العملية.. ولذلك سادت عندنا فكرة أن عاملاً قديمًا محنكًا أفضل من مهندس حديث، ونعبر بذلك عن حقيقة أن المهندس قضى سنوات الدراسة الجامعية دون أن يكتسب المعرفة والدراية الكافية التى تمكنه من ممارسة العمل فعلاً. وما ينطبق على المهندس ينطبق على سائر التخصصات حتى مهنة المدرس التى كان التدريب العملى جزءًا لا يتجزأ من مناهج الدراسة فى كليات التربية.. تراجعت، وبعد أن كانت كل كلية للتربية ملحقًأ بها مدرس كاملة يشارك طلابها كلية التربية فى العمل بها بصورة منتظمة، وتكون مجالاً لاكتساب الخبر من ناحية، وللتعود على السلوك الصحيح فى مواجهة المواقف المختلفة من ناحية أخرى، ولتكون من ناحية ثالثة ميدانًا للتجارب التربوية الجديدة، وفوق ذلك فإن حماس طلاب التربية ورغبتهم فى التفوق سيؤدى إلى أن تكون لدينا مدارس نموذجية وتتخرج منها أجيال من التلاميذ الذين حصلوا على التعليم الصحيح الكامل.


لم يعد ذلك موجودًا فى أى مجال، إلا فى  مجال واحد هو مجال الزراعة.. وحتى كليات الزراعة أصبحت تشكو من انقطاع صلتها بالحقول والمزراع.. ولكن مراكز البحث العلمى التابعة لوزارة الزراعة، فهى وثيقة الصلة بالتطبيق وكل أبحاثها لخدمة الواقع ومشاكله ونتائجها ملموسة رغم أنها أقل المراكز ضجيجًا وصخبًا.


أما بقية مراكز البحث فأكثرها يقدم لنا أوهامًا عن البحث العلمى، فهى توهمنا أنها تدرس المشكلات القائمة، وتوهمنا أنها تبحث عن حلول لها، وتوهمنا أخيرًا أنها نجحت فى كل ذلك وحققت ما لم يتحقق فى بلد آخر.


أقول لك وأنا أتابع نشاط مركز البحوث الاجتماعية على سبيل المثال. ما هى النتائج العملية التى استفاد منها المجتمع المصرى من وجود هذا المركز بأساتذته ومبناه ومكتباته وموظفيه وميزانياته، التى تكفى لبناء مدينة سكنية أو إقامة مصنع لتشغيل آلاف العاملين كل سنة..!


ماذا قدم مركز البحوث الاجتماعية والمفترض أن فيه صفوة العلماء والباحثين المتخصصين فى العلوم الاجتماعية والسلوكية والرأى العام والجريمة.. الخ.. ما هى حصيلة عمل هذا المركز طوال السنوات العشر أو العشرين الماضية؟..  ولا أقصد كم بحثًا أجراه.. ولا كم كتابًا طبعه.. أو كم محاضرة أو ندوة أو مؤتمر. فهذه عند الحصر كثيرة، أكثر مما يجب، لكنها غثاء كغثاء السيل.. لماذا؟.. لأنه لم يشارك بأية صورة فى تغيير أى شىء.. لم يكن له دور فى تغيير أسلوب التعليم.. ولا فى تغيير القوانين.. ولا فى إعداد خطط لمواجهة ظواهر اجتماعية ضارة مثل الجرائم والإرهاب وانتشار العنف.. ولا فى برامج رعاية الشباب لوقايته من الانحراف.. أو لعلاج المنحرفين.. وكلما مررت بهذا المركز تذكرت عبارة شيخنا العظيم الإمام مالك الذى كان يقول لأتباعه وخصومه: "لا أحب قولاً ليس وراءه عمل". لأنى أرى هذا المركز كثير الكلام، قليل العمل، عديم الأثر فى حياتنا الاجتماعية.


وليس هذا المركز وحده هو الذى يقدم لنا أوهام البحث العلمى. ولكن هناك أكاديمية البحث العلمى ذاتها، وإن كانت للإنصاف فيها نشاط ولجان، واجتماعات، وبدل حضور الجلسات، ومكافآت كثيرة.. وتضم صفوة من العلماء الكبار، وفيها نشاط يمكن الدافع عنه والقول بأنها أحسنت فيه، وتستحق عليه الشكر، ولكن المحصلة النهائية أقل بكثير مما هو مطلوب، وما هو منتظر، وما هو مفروض وتحتاج ‘ليه.. هل استطاعت أكاديمية البحث العلمى أن تكون عنصرًا أساسيًا وفعالاً فى تطوير العمل فى المصانع والجامعات والحقول على أسس جديدة بناء على أبحاث علمية دقيقة.. ما هى الحصيلة.. ما هى.. بالضبط.. الفائدة التى عادت على المجتمع؟.. هذا هو السؤال الذى أصبح واجبنا أن نوجهه إلى كل مؤسسة للبحث العلمى فى مصر ولا نقبل منها إجابات عامة غامضة.


وبصراحة لن نجد مركزًا أو مؤسسة للبحث العلمى ناجحة بهذا المعيار، ولكننا سنجد مرافعات للدفاع عن كل منها بأساليب بلاغية.


ونتيجة لذلك فإن البحث العلمى فى الجامعات يتراجع، ولا يجد الأساتذة وقتًا، وطاقة، لمساعدة طلاب الدراسات العليا، ويتركونهم لاجتهاداتهم الشخصية ومدى قدرة كل منهم على القيام ببحثه - النظرى أو العملى – بشكل يصلح فى ظاهره ليكون رسالة ماجستير أو دكتوراه.. والنتيجة أن أغلب رسائل الماجستير والدكتوراه غير ذات فائدة للمجتمع، وما فيه فائدة ليست هناك استفادة حقيقية منها وهذه شكوى قديمة. رغم أن أصحابها يقضون سنوات طويلة فى إعدادها، ولديهم الاستعداد للعمل الشاق لو وجدوا من يرشدهم ويقدم لهم بعض الإمكانات.. وزاد الأمر من خطورة الانقطاع عما يجرى فى العالم من تطورات جديدة فى فروع المعرفة، أصبحنا لا نتابعها ولا نعرف عنها إلا أخبارها من الصحف.. ولا نحتاج إلا التذكير بدور رفاعة الطهطاوى فى ربط المجتمع المصرة بحركة التقدم العلمى فى أوروبا. ولا ببدء النهضة فى أى بلد بإرسال بعثات للعالم.. حدث ذلك فى اليابان، وفى الصين.. وفى  النمور الآسيوية جميعًا.. وفى عصر محمد على.. وكانت فترات الازدهار العلمى الحقيقية فى مصر – كما فى أى مجتمع فى العالم – رهن باتصالها بالحركة العلمية والفكرية والثقافية فى كل مستوياتها فى العالم المتقدم.


لا أعرف إن كان مناسبًا أن يكون موضوع إعادة البحث العلمى فى مصر إلى مكانه الصحيح يمكن أن يكون موضوعًا فى جدول أعمال الحوار القومى القادم أم لا.. ولكنى واثق من أن مناقشة هذا الموضوع والوصول فيه إلى حل يعيد البحث العلمى إلى مكانه ويستعيد به قدراته على العمل ومسايرة التطور والانشغال بحل مشاكل المجتمع، والاتصال بتيارات وتطورات التقدم العلمى فى مختلف دول العالم. سوف يكون أول خطوة صحيحة على الطريق الذى يصل بنا إلى مكان مناسب فى القرن الحادى والعشرين، ويساعدنا على التفكير بعد ذلك فى موضوع "النمر المصرى" الذى بدأ يشغلنا، ولدينا مقومات تحقيقه، والبداية هى قيام البحث العلمى على عمل وليس على كلام، وعلى نتائج عملية وليس مجرد أوهام..

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف