أوهام البحث العلمى (1)

مما يلفت النظر فى السنوات الأخيرة تويد عدد المؤتمرات والندوات التى تعقد فى مصر ويشارك فيها مجموعة كبيرة بذاتها من الباحثين وأساتذة الجامعات رغم تنوع موضوعات البحث والاختلاف الكبير بينها.. مما كان يفترض فيه الاستعانة بمتخصصين فى كل منها.. حتى أصبحت لدينا أسماء يتكرر ظهورها فى كل ندوة ومؤتمر، مهما يكن الموضوع، وتدلى بآراء، وتقدم أفكارًا حتى أصبحت الظاهرة كلها موضع تساؤل دائم واستغراب فى كثير من الأحيان.


وقد نبهنا أستاذنا محمد حسنين هيكل مؤخرًا إلى أن زحام المؤتمؤات فى القاهرة واللقاءات والندوات.. ظىهرة صحية، لكنها تكون أصح إذا ما جرى الالتزام بأصول وقواعد جديدة جديرة بأن تراعى. وبينها المعرفة المسبقة بموضوع البحث ما هو؟ وبالداعين إليه: من هم؟ وبالمستفيد النهائى من الجهد المبذول – ماذا يطلب؟.. وأعتقد أننا يجب أن نضيف إلى هذه الأسئلة الجوهرية أسئلة أخرى حول الجبهات المنظمة والشخصيات المصرية المشاركة والمكافآت التى تدفع مقابل أوراق البحث التى تقدم فى هذه الندوات والمؤتمرات، وأكثرها أوراق هزيلة وسطحية، لا تضيف جديدًا، ولا تزيد عن كونها مجموعة انطباعات وملاحظات لا ينطبق عليها وصف البحث العلمى ولا تخضع لشروطه.


ونتيجة لكثرة استمرار هذه الندوات والمؤتمرات أصبحت تقريبًا وظيفة مستديمة لعدد غير قليل، تراهم هم هم فى كل ندوة، وكل مؤتمر، يقولون نف سالكلام تقريبًا مع تنويعات واختلاف فى التقديم والتأخير، حتى أصبحت لدينا مجموعة بذاتها مخترفة لهذا العمل، ورتبت حياتها عليه، تراها تنتقل من ندوة إلى أخرى، وكثير منهم يشارك فى أكثر من ندوة فى اليوم الواحد.. والمسألة فى ذاتها لا تمثل خطورة حتى الآن. ولكن تأتى الحطورة من أن هذه المجموعة التى يجرى تألميعها وتقديمها ليست كلها الأقدر من حيث الكفاءة والمقدرة العلمية، ولكنها الأقدر فى العلاقات العامة، ويؤدى هذا بطبيعة الحال إلى حجب كثير من الكفاءات الحقيقية والأساتذة المتخصصين.


وتثير الاهرة مسألة السكحية والجدية والعمق فى البحث العلمى ونشاط المثقفين عامة والعلماء على وجه الخصوص. فلس من المعقول أن يستطيع "عالم" أو "مثقف جاد" أن يشارك فى ندوة أو اثنتين كل يوم ويعد نفسه لها إعدادًا جيدًا، أو يجد الفرصة للبحث الذى يقوم أساسًا على التروى والتأنى، ويحتاج إلى قدر معقول من الوقت والتفرغ والتركيز.. والنتيجة أن تأتى الأبحاث سطحية، وليست قائمة أو معبرة عن منهج البحث العلمى بمفهومه الصحيح، وثانى الأفكار أقرب إلى الدعوات والتمنيات.. ولذلك يتساءل الناس عادة عقب كل مؤتمر أو ندوة: ماذا سيحدث.. وماذا سيتغير أو يمكن أن يتغير..؟ وتكون الإجابة غالبًا أن المؤتمرات والندوات ليست إلا ساحات ومناسبات للظهور والكلام.


وهذا مكمن الخطر.. لأن الأمر يمكن أن ينتهى بنا إلى أن نعيش فى أوهام على أنها حقائق.. وهم أننا نبحث ونناقش ونرسم الخطط.. ووهم أنه قد أصبحت لدينا محصلة من هذه الأبحاث قابلة للتطبيق لتفيد المجتمع فى أى مجال وبأى وجه من الوجوه..ووهم أن لدينا "علماء" و"باحثين".. ثم أخيرًا وهم أن الحياة العلمية والثقافية والفكرية بخير بكل هذا الضجيج الإعلامى وليس العلمى.. ولا أظن أن المجتمع قد استفاد من هذه المؤتمرات والندوات فائدة علمية ملموسة أو يمكن أن يستفيد منها، كما لا أظن أن الجهات ومعرفة مقاصدها سوف يعيننا على فهم كثير مما يجرى خاصة وأن كل المعلومات والأرقام والحقائق من كل مكان يتم تناولها فى هذه اللقاءات ببساطة وتلقائية ومنها ما ليس مهمًا وقد يكون منها ما هو شديد الأهمية..


والدليل على أهمية هذا التساؤل أن الجهات المنظمة لهذه المؤتمرات لا تتعامل مع الجامعات ومراكز البحث المصرية كشخصيات اعتبارية، أى لا تتعامل معاه باعتبارها هيئة علمية وتعمل معها ولو بالتنسيق.. ولكنها تتعامل مع الباحثين والأساتذة فى هذه الهيئات كأفراد، يشاركون دون التزام منهم تجاه الهيئة التى يعملون فيها أو حتى معرفة منها، بما يعمل وما يقدم من أبحاث ونتائج قد تكون خاصة بهذه الهيئة ككل وليست ملكًا لهذا الأساذ أو ذاك.


وكذلك تمويل هذه المؤتمرات.. فهو يتم بسخاء يغرى الباحثين على أن يهتموا بأعمالهم الأصلية سعيًا إلى الذين يقدرون قيمة "العلماء" و"البحث العلمى" ويدفعون ما يليق بهما. والمسألة تجرنا إلى حدث عن الولاء، والانتماء، والاستقلال والتبعية الثقافية، وربما تقودنا أيضا إلى أهمية وجود "نظام" أو "تقاليد" أو حتى "التزام" أخلاقى يضع الحدود لكيفية تنظيم ههذ المؤتمرات: فى غيبة أم بعلم ومشاركة الهيئات العلمية المختصة وبموافقتها، وكيفية اشتراك الباحثين فيها. فرادى ممثلين لأشخاصهم ومتحللين من انتمائهم للهيئة العلمية التى ينتسبون إليها أم بموافقة وتفويض؟.. ولا أظن فى ذلك بدعًا.. يكفى أن نسأل ماذا يحدث فى جهات وهيئات البحث العلمى فى أمريكا وأوروبا واليابان ونضع نظامًا يتفق مع ما يجرى عليه العمل عندهم.. لكيلا يكون البحث العلمى "سداح مداح" وساحة مستباحة بلا حسبب ولا رقيب ولا مسئولية ولا مسئول.


لا يستطيع أحد أن يفكر أننا فى مرحلة تحول فكرى كبيرة.. وأن هذه المرحلة تحتاج إلى إثارة "دوامات" و"زوابع" عقلية لكى تنشط عمليات الفتكير والبحث والاهتمام العام بالقضايا الأساسية لتغيير وبخاصة فى المجالين الاجتماعى والاقتصادى.. ولا أحد يفكر أن كثرة الحديث والتفكير والبحث هو فى النهاية ظاهرة صحية تحسب لأصحابها ولا تحسب عليهم، كذلك فإن أحدًا لا يفكر – على الإطلاق – أن هناك مؤتمرات وندوات جادة حققت أهدافها وسارت على أساس دقيق وسبقتها مراحل أعداد جيدة وانتهت إلى نتائج مفيدة.. كل ذلك حق نعترف ونسلم به.. ولكن لابد أن نعترف أيضًا بأنه ليست كل المؤتمرات والندوات كذلك. ولو أردنا أن نقول الحق، ولا شىء غير الحق، لقلنا أن حصيلة أكثر الندوات والمؤتمرات "ليس كذلك" وإنما هى استنفاد للطاقة، وتفريغ لقدرات البحث والباحثين، وإشاعة جو ظاهره الجدية العلمية وباطنه للسطحية العلمية. كما أن ظاهره الاستفادة بجهود الباحثين عن مهمة البحث الجدى، وتبديد طاقاتهم، وتعويدهم على الاستسهال. فإن كتابة بحث يضم حصيلة عمل عام أو عامين.


ويكفى أن نرى كيف أن بحثًا صغيرًا يثدم من باحث أمريكى أو أوروبى فى مؤتمر يحدث من الأثر، ويثير من الاهتمام ما يدعو للدهشة، وتصبح فكرته أو نظريته أو نتائجه حديث الباحثين فى مجاله فى عشرات الأبحاث كل شهر دون أن يجد فيه الباحثون ما يلفت النظر أو يثير الاهتمام أو يدعو إلى المناقشة.


وهذا هو القصد من إثارة الموضوع.


أن نعيد إلى البحث العلمى فى مصر، وإلى الباحثين العلميين الاحترام الواجب، ونسير على الطريق الصحيح قبل أن يتحول البحث العلمى إلى "دردشة صالونات" ونوع من تزجية أوقات الفراغ، أو التسلية العقلية للمثقفين.. ولا نحسب أن نقول أنه يمكن أن يصبح شيئًا آخر من ذلك..

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف