هذا ما نريده من الحوار

من بين الاجتهادات الكثيرة لتفسيرالإرهاب فى مصر هناك من يرى أن الحقيقة التى تختفى وراء قناع الدين، والشعار المرفوع بإقامة الحكم بالشريعة، هناك دوافع ومصالح خفية، وأن الشباب المخدوع بالشعارات ليس إلا مخلب القط. أما المحرك الحقيقى الذى لا يظهر الإسلام الحقيقى فى مقتل، وشغل المسلمين بقضايا فرعية تشدهم إلى الخلاف والصراع الداخلى، وتبعدهم فى اللحظة المناسبة عن المسار الصحيح الذى يمكن أن يؤدى بهم إلى إعادة بناء أوطانهم واستعادة وجوههم على الخريطة السياسية والحضارية فى العالم مع بدايات القرن الحادى والعشرين.


وملخص الفكرة أن العالم الآن فى مرحل إعادة تشكل، وهناك نظام عالمى انهار، ونظام آخر لم يتشكل ولم يتبلور بعد. وفى هذه المرحلة التى يعاد فيها ترتيب العالم فإن الفرص تظهر أمام الدول الصغيرة لكى تعيد ترتيب أوضاعها وتسعى إلى أن تصبح قوة إقليمية على الأقل. ومن الممكن أن يفتح الباب أمام بعض هذه الدول ذات الامكانات الخاصة مثل مصر، وللقوى الحضارية والروحية والثقافية التى نحيت عن مسار التاريخ فى القرن العشرين وبالذات الإسلام.. من الممكن أن يتاح له الظهور ثوة حضارية قادرة على القيادة بعد انهيار نظريات وأيديولوجيات كانت راسخة. وهناك قوى، ودول من مصلحتها، ألا يحدث ذلك، وأن تظل دولة مثل مصر فيها عوامل القوة الكامنة بعيدة عن مواقع التأثير والصدارة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بانهائها بمعارك داخلية، وإثارة فتن بين أبنائها، وأكثر مصادر التوتر والغتن قوة فى العالم الإسلامى هى توظيف لإسلام لصالح أعدائه، فيظهر من بين أبنائه من يزايد على الآخرين بالإسلام، ويتاجر ويقتل وينهب باسم الإسلام، ويحقق ذلك إصابة عصفورين بحجر واحد: تشويه صورة مصر وإرباك مسيرتها وتعطيل نموها الاقتصادى والحضارى من ناحية، وتشويه صورة الإسلام من ناحية أخرى وإظهاره عمليًا أمام العالم على أنه دين الهمجية والعنف وعشوائية القتل والتخبط فى التفكير.. بل وإظهاره بأنه دين غير واضح لأن أصحابه حتى الآن – بعد أربعة عشر قرنًا – لم يتفقوا على مفاهيمه ومبادئه الأساسية، بل ولم يتفقوا على ما هو الإسلام، ومن هو المسلم.. وما هو الحلال والحرام.. فمتى إذن يمكن أن يتفقوا، ومتى يمكن بلورة ههذ الشريعة التى يقول أصحابها أنها رسالة حضارية وتقدمية، وأنها صالحة لكل زمان ومكان، بينما الناطقوا باسمها يسرقون المحلات، ويقتلون فى الشوارع غدرًا ويرتكبون جرائم تدخل كلها فى قانون العقوبات فى أى دولة من دول العالم المتقدم أو المتخلف على السواء.؟


فالإرهاب بشكله الحالى، وبنداءاته، وأفكاره، وأعماله، هو أكبر خدمة يمكن تقديمها لأعداء مصر- أيا كانوا – ولأعداء الإسلام – وما أكثرهم – ولذلك فإن التصنيف الصحيح للمفكرين والسياسيين والمثقفين فى مصر لم يعد له إلا أسا واحد: مع من، وضد من أنت؟ هل أنت مع الإرهاب، بشكل ظاهر أو مستتر، بشكل مباشر أو غير مباشر "بالتعاطف معه ومحاول إيجاد المبررات له" أو محاولة التخفيف من خطورته، أو "محاولة إيجاد نوع من تعاطف الجماهير الطيبة معه"، أو أنت ضد الإرهاب بكل صوره وأشكاله، وبكل أقنعته ومقولاته..


ولأننا نواجه موقفًأ تاريخيًا.. غير تقليدى.. فإنه يحتاج لرؤية شجاعة.. وغير تقليدية.. ومن الآن لابد أن يكون الموقف واضحًا.. لا مكان فى صفوف الحركة السياسية المصرية لكل من يتعاطف مع العنف السياسى أو يتستر عليه أو يتعاطف معه، أو يسعى إلى عقد تحالف انتهازى معه، أو يحاول إسباغ الشريعة الفكرية على ظاهر أقواله، ولن يكون مسوحًا بعد اليوم بلعبة البهلوانات فى مجال حساس وخطير يمس كيان الوطن والأمن القومى بمفهومه الدقيق.. كما لن يكون مسموحًا للانتهازية السياسية بأن تحاول اكتساب نقطة من هنا أو هناك على حساب وحدة الوطن وسلامة أراضيه وأرواح أبنائه.. فالمسألة جد.. وتصل الجدية فيها إلى أعلى درجة.. إلى درجة يصبح فيها التسامح مع أمثال هؤلاء تفريطًا فى حق الوطن ومستقبله، وهذا شىء خطير لا يقدر عليه أحد.


وأعتقد أن الهدف الأول للحوار الوطنى هو تحقيق درجة من الوضوح الفكرى، والاتفاق فى الرؤية المستقبلية، وبلورة مجموعة مبادىء تحكم العمل السياسى فى مصر فى الفترة القادمة.. وكل قوة سياسية فى مصر ىبد أن تعلن بوضوح كامل، ودون التفاف، وبغير لف أو دوران، أنها ترفض العنف بكل صوره، وترفض عمليات تهديد المجتمع مهما تكن نواياها المعلنة والخفية، وبنفس القدر تعلن أنها مع الحرية السياسية والتعددية والتسامح الفكرى بأوسع معانيه بحيث لا يضيق أحد برأى ولا بفكر ما دام فى نطاق الفكر والرأى، وما دام معلنًا وفى الضوء، وما دام يدافع عن نفسه بحرية ويسمح للفكر الآخر بحق الحياة والتعبير عن نفسه فى إطار الشرعية ثم يكون للمواطنين حرية الاختيار والامتناع بما يشاءون دون ممارسة ضغوط معنوية عليهم بتصوير رأى على أنه منزل من السماء، لأن ما أنزل من السماء، محفوظ فى القرآن الكريم لا يختلف الناس عليه، ومن حقهم أن يختلفوا فى تفسير أو تأويل بعض آياته، ولا يزالون مختلفين إلى يوم الدين، ويحكم الله وحده بينهم فيما كانوا فيه يختلفون – وليس الحكم عليهم من بشر يغتصبون سلطة الله وحقه فى الحكم والحاكمية.. وهكذا كان وسيظل علماء التفسير يقبلون الاختلاف-  فى الفروع – بصدر رحب وفقًا لقاعدة "رأيى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب" ووفقًا لمبدأ "نتفق على ما هو مؤكد وثابت ويعذر بعضنا بعضًا إذا اختلفنا فيما هو دون ذلك".


وأتصور أن كل القوى المشاركة فى الحوار لابد أن تتفق وتعلن منذ البداية أن الفكر السياسى مفتوح لكل اجتهاد، وأن واجبنا حماية الحريات والممارسات السياسية من محاولات استغلال المشاعر الروحية والنصوص المقدسة لعبة فى هذا المجال.. كما أتصور أن يبدأ الحوار بتأكيد أن العمل السياسى هو مجال رجال السياسة، والعمل الدينى هو مجال رجال الدين، ولابد أن يكون واضحًا ما يحاوله البعض من الخلط بينهما ليصبح رجل الدين نجمًا سياسيًا ومناورًا فى ميدانها، ثم تصبح للآراء والأطماع والمناورات السياسية سبغة دينية يخلعها عليها المناورون ويتسترون بالدين ليكونوا فى موقف المعصوم من الخطأ.. وحاشى لله أن يكون على الأرض إنسان معصوم من الخطأ بعد المعصوم عليه الصلاة والسلام.. وحاشى لله أن يدعى إنسان إنه يحتكر وحده معرفة مراد الله، وأنه وحده العارف بمقاصد رب العالمين، أو المتحدث باسمه، أو ممثله على الأرض، أو ظله، أو غير ذلك من تعبيرات تعدنا إلى ظلام القرون الوسطى.. حاشى لله أن يكون لبشر الحق فى أن يصبح وحده محتكرًا للسلطة الإلهية.. ويستغل الآية "ومن لم يحكم بما أنزل الله.." ليجعله "ومن لم يحكم بما أقول وما أمر به.. الخ" فيما أنزله الله معروف ومعلوم وواضح..


وأتصور أن الحوار القادم مهمته الأولى أن يسهل فى إبراز وجوه سياسية جديدة، وكوادر شابة مؤهلة للمشاركة فى قيادة العمل السياسى فى المرحلة القادمة، وتستطيع أن تؤثر فى الجماهير بصدقها، وبالقدرو فى سلوكها الذى يغلب المصلحة العامة على الأهواء والمصالح الخاصة.


وهذا موضوع يحتاج إلى إيضاح.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف