الإسلام ونظرية صراع الحضارات

ظهرت فى الفترة الأخيرة نظرية جديدة لتفسير الصراع العالمى لقيت رواجًأ كبيرًا بين كتاب ومفكرى الغرب، ومنهم انتقلت إلى المثقفين العرب وتحولت على أيديهم إلى نوع من "الهستيريا"، بحيث أصبح يرددها الجميع وكأنها المفتاح الذى كان ضائعًا لفهم العالم، ووجده الغربيون أخيرًا، ولم يعد ينافسها فى هذه "الهستيريا" إلا نظرية "نهاية التاريخ" التى اخترعها الباحث الأمريكى الجنسية اليابانى الأصل فوكوياما وانتهى فيها إلى أن الصراع انتهى بسقوط الاتحاد السوفيتى وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم، وسيظل الحال كذلك إلى يوم الدين.


أما نظرية الصراع الحضارى، فلملخضها أن التاريخ هو تاريخ حضارات والصراع بينها، وأن العالم وقد انتهى من مرحلة أساسية من مراحل الصراع، فإنه مقبل على حلقة جديدة يكون فيها الصراع الدولى الحضارى، وليس أيديولوجيا أو اقتصاديًا، وسيكون الخطوط الفاصلة بين الحضارات هى نفسها خطوط القتال فى المستقبل وأبرز أصحاب النظرية هو المفكر المعروف سموئيل هانتنجتون وقد بذل جهدًا خارقًا لكى ينشر فكرته بكل طريقة، وهى تدور حول أن الصراع العالمى سيكون بين الغرب من ناحية والحضارات غير الغربية من ناحية أخرى، وأولها الإسلام،  وتليه ست حضارات اخرى هى: الكونفوشية واليابانية والأرثوذكسية السلافية والأمريكية اللاتينية وربما الديانات الأفريقية أيضًا، ولكن الحضارة الإسلامية من بين هذه الحضارات هم مركز الصراع فى المستقبل القريب.


ويفيدنا فى الموضوع كتاب جديد صدر فى القاهرة بعنوان "الغرب والإسلام" قامت فيه الباحثة منى ياسين بترجمة وتحليل خمسة نصوص هامة موضوعها رؤية الغرب للإسلام ومستقبله. ويهمنى أن أركز هنا على نظرية هانتنجتون لأنها تنتهى بدعوة الغرب  لأن يتحد لتصدى لما يعتبره الخطر الزاحف من الشرق فى اتجاه الغرب والشمال. وهذا الموقف العدائى، أو على الأقل المتحفز، وأن بدأ وليد الحقبة الأخيرة من هذا القرن فإن جذوره تعود إلى أكثر من ألفع ام كما يقول البعض، وتبدو معالم هذه الحقيقة فى محاولات تجاهل ما قدمه المسلمون من استهامات فى الحضارة البشرية والحضارة الغربية على وجه الخصوص.


أما لو حاولنا تفسير أسباب هذا الموقف الغربى فى عمومه فسوف نجد أسبابًا عديدة على ألسنة وأقلام الباحثين الغربيين والمسلمين على السواء، تبدأ بإنكار الموضوعات من الأساس والقول بأن تصوير العداء أو الجهل أو التجاهل الغربى للإسلام ليس إلا محض وهم مسيطر على عقول البعض إلا أكثر وتنتهى بنظرية المؤامرة والعداء القديمين وبينهما نظرية تقول بأن الغرب يحتاج دائمًأ إلى تهديد من جهة ما لكى يبقى آلته دائرة، ويحافظ على حركته وقوة الدفع فيه لأن نركيب الآلة القتالية والعدوانية فيه هى التى تمثل القوة المحركة الأساسية له اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، وإذا وقفت ههذ الآلة الكبيرة فإن الحضارة الغربية كلها ستواجه تهديدًا حقيقيًا بالانهيار.


يضاف إلى ذلك تزايد ظهور الجماعات العنصرية المتطرفة المعادية للإسلام والمسلمين فى فرنسا وألمانيا وروسيا وغيرها. وتزايد النزاع إلى اتهام الإسلام بأنه دين يقوم على العنف والعداء للآخرين واتخاذ الممارسات الإيرانية منذ ثورة الخمينى دليلاً على ذلك وممارسات الجماعات الإرهابية فى الدول الإسلامية دليلاً آخر مع تجاهل الحقيقة الجوهرية وهى أن روح الإسلام كما هى فى الكتاب والسنة والسلف الصالح، وكما هى عند مئات الملايين من المسلمين المسالمين هى الدليل الذى يجب أن يأخذ ويقاس عليه، لأن ذلك هو ما يمثل القاعدة وغير ذلك استثناء يؤكد القاعدة الغالبة ولا ينفيها.


لكن مفكرًَا مثل هانتنجتون يبدأ بمقدمة تقل إن الاختلاف عن "الآخر" ر يعنى الخلاف معه، إلا انه ينتهى إلى نتيجة تتناقض معها مؤداها أان الاختلاف بين معطيات الحضارة الغربية وغيرها من الحضارات سيؤدى حتمًا إلى الخلاف بل وإلى الصراع، استنادًا إلى أن الاختلافات بين الحضارات كانت السبب وراء اطول المنازعات فى التاريخ وأكثرها عنفًا، ويهمل حقيقة تاريخية أخرى هى أن هناك حضارات تعايشت مع غيرها فى سلام، وينطبق ذلك على الحضارة الاسلامية بشكل خاص.


وتحت دعاوى البحث العلمى ؤاستشراف المستقبل يصل الباحث الامريكى إلى أن المصدر الرئيسى للنزاع فى العالم الجديد إما أن يكون اقتصاديا أو أيديولوجيا، وما سيحدث هو أن االانقسامات الكبرى بين البشر ستكون ثقافية وستكون المنازعات بين أمم ومجموعات لها حضارات مختلفة، وسوف يسيطر الصدام بين الحضارات على السياسات الدولية، وسيكون  النزاع بين الحضارات هو المرحلة ألآخيرة فى تطور النزاع فى العالم الحديث بعد أن انتهت فى القرن الـ 18 حروب الملوك وبدأت حروب الشعوب، وبعد نزاع الأيديولوجيات الذى بدأ مع الثورة الروسية، وبعد صرعات بين الشيوعية والفاشية والنازية من ناحية والديمقراطية الليبرالية من ناحية أخرى، ثم بين الشيوعية والليبرالية.. لكن ههذ كلها كانت حروبًا أهلية غربية، ومع نهاية الحرب الباردة فى السنوات الأخيرة تحركت السياسة الدولية فى مرحلة جديدة هى سيادة الغرب،وأصبح المركز الرئيسى للحرب القادمة هو التفاعل بين الحضارة الغربية والحضارات "الأخرى" غير الغربية. ولم يعد تقسيم دول العالم إلى دول العالم الأولى، ودول العالم الثانيةوالثالثة تقسيمات ذا معنى، لأن التقسيم لم يعد قائمًأ على أساس مستوى التطور الاقتصادى أو السياسى، ولكن لأنها قامت على أساس الثقافة والحضارة. وستحدث أهم المنازعات فى المستقبل على امتداد خطوط التقسيم الثقافية التى تفصل هذه الحضارات الواحدة عن الأخرى.


الفواصل والفروق بين الحضارات عميقة – وفقًا لهذه النظرية – والحضارات تتمايز كل منها عن الأخرى بالتاريخ، واللغة، والثقافة، والتقاليد والأهم من كل ذلك الدين وللناس فى الحضارات المختلفة آراء مختلفة عن العلاقات بين الله والإنسان، والفردوالجماعة، والوطن والدولة، والآباء والأبناء، والزوج والزوجة، والحرية والسلطة، والمساواة والتطبيقات، وهذه الفروق نتاج قرون. ومع اقتراب المسافات أخذت التفاعلات بين شعوب الحضارات المختلفة فى التزايد.


وتمضى النظريةفى القول بأن الغرب الآن فى أوج قوته، ولكن هناك ردة للظواهر الجذرية بين الحضارات غير الغربية تتمثل فى الانكفاء للداخل أو الانغلاق على الذات.. يحدث ذلك فى اليابان التى تدخل قوقعة "الطابع الآسيوى" ويحدث فى الهند باضفاء الطابع الهندوسى عليها، كما يحدث فى الشرق الأوسط محاولات الدخول فى شرنقة الإسلام، وفى روسيا صراع بين الانتماء للغرب أو الدخول فى قوقعة روسية.. وهكذا يصبح على الغرب وهو فى أوج قوته أن يواجه كيانات غير غربية ترغب فى تشكيل العالم بأسلوب غير غربى، ولديها الإرادة والامكانات لذلك. وبعد أن كانت الصفوة فى دول العالم غير الغربى تنتمى إلى الغرب وتتلقى تعليمها فيه انعكس الحال ويزداد الانتماء للثقافات المحلية بين الصفوة بينما تتفشى الثقافة والسلوك الغربى – وبخاصة الأمريكى – بين عامة الناس.. وفى الصراع بين الحضارات يكون السؤال دائمًا: من أنت؟ ومن البوسنة إلى القوقاز إلى السودان، قد تكون الإجابة عن هذا السؤال رصاصة فى الرأس.. فلقد أصبحت المسألة الدينية تفصل وتفرق بين الناس بصورة أكثر حدة من الأصول العرقية.


ليس هدفى أن أنقل أفكار هانتنجتون كاملة، ولكنى أردت أن أقدم زاوية من زوايا الرؤية الغربية للإسلام ترى أن خطوط التقسيم بين الحضارات تحل محل الحدود السياسية والأيديولوجية للحراب البادرة، باعتبارها إشارات وميض للأزمات والمذابح.. وهى رؤية قد نرى فيها غرابة لأنها بعيدة عن تفكيرنا، لأن الحضارة الإسلامية قائمة على مبدأ  التعاون بين الحضارات وليس الصراع بينها "وجعلناكم شعوبًا وقابئل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"..


هدفى الحقيقى أن أدلل على أننا مقصرون.. لأننا حتى الآن لم نقدم الإسلام صورته الحقيقية السمحة النقية.. ولم نبدأ فى إنشاء مركز علمى للأبحاث الإسلامية على أرقى المستويات الدويلة يكون قادرًأ على الدخول فى حوار فكرة علمى كبار العلماء والمفكرين فى العالم، ويطرح الفكر الإسلامى باللغة التى يفهمها العالم المتحضر.. بدلاً من ترك الساحة لمن يصورون الإسلام على أنه "العدو" القادم الذى يجب أـن يقضى عليه الغرب أولاً دفاعًا عن حضارته..


ومثل هذا المركز يجب أن تقدم له كل الدول الإسلامية كل ما تملك من مال ورجال دون إبطاء.


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف