النقد السياسى فى أدب طه حسين ( 1-2)

ان طه حسين صريحا قويا فى إعلان رأيه فى انتشار الفساد وانحرافات السلطة ولكن عندما كانت الحكومات تتعسف مع الكتاب وتضيق عليهم الخناق وتلفق لهم التهم لينشغلوا فى دوامات التحقيق والمحاكمة والسجن كان طه حسين ينال نصيبه الأوفى لأنه لا يسمح لنفسه أن يسلم أو يستسلم للطغيان مهما تحمل فى سبيل الدفاع عن العدل والحق. فى هذه الأيام الحالكة التى عاشتها مصر كان طه حسين يكتب عن العيون والجواسيس فى الأندية والقهوات والدواوين وحتى فى المجالس الخاصة، يحصون على الناس ما يقولون ثم يصورونه كما يحبون ويرفعونه إلى السلطة الأجنبية التى كانت تحكم وتتحكم أو يرفعونه إلى الحكومة والقصر، وفى هذه السنوات المظلمة كان المفكرون وذوو الرأى يعيشون فى قلق دائم ويكتبون وكأنهم يمشون
على الشوك.
لكن طه حسين الذى كان المدافع الأقوى عن الحرية والخصم الأقوى للحكومات التى كانت تخنق العقول وتحكم الألسنة وتهدد أصحاب الأقلام الحرة يتصدى لهذه الحكومات فكان كما قيل عنه صورة ناطقة حية وقوية للسخط على كل شىء، والحرص على تغيير كل شىء، وكان يكتب عن الأوضاع السياسية فى مصر فى ذلك الوقت مستخدما الرمز والتورية وبأسلوب لا يخفى القصد والمعنى عن فطنة القارئ وذلك فى زمن اسماعيل صدقى وإبراهيم عبد الهادى وأمثالهما.
***
لقد كتب كثيرا عن قصة محمد بن عبد الملك الزيات الذى بدأ رحلة الصعود بالنفاق والتملق للوزير الحسن بن سهل فنظم قصائد المديح مبالغا فى وصف نبوغه وكرمه وعظمة شخصيته، واستطاع بذلك أن يكسب ثقة الوزيرحتى أنه ترك له أمور الحكم يتصرف فيها ولأنه كان حصيفا يسعى إلى هدفه بهدوء فكان يعمل كل ما يرضى الأمير دون أن يهتم بالعدل ولا بمصالح الناس ولا حتى بما يرضى ضميره إن كان له ضمير ومع الوقت تحول إلى إنسان آخر بعد أن تكدست ثروته وامتلك سلطة لا يهددها أحد، فكان يقابل الناس بغلظة وترفع حتى أصدقاء القدامى، ولم يهتم بما قاله صديقه القديم إبراهيم
بن عباس الصولى:
وكنت أذم اليك الزمان فأصبحت منك أذم الزمانا
وكنت أعدك للنائبات فها أنا أطلب منك الأمانا
وتمادى محمد بن عبد الملك الزيات فى الطغيان إلى أن رأى أن كل الناس أعداء له، فكان يعذب خصومه ومن يتصور أنهم خصومه بإدخالهم فى صندوق ضيق جدا وفى جدرانه مسامير حادة تنهش لحم الضحية وكلما ارتفع صراع الضحايا ازداد شعوره بالراحة والرضا، وكلما ذكرت له «الرحمة» قال: «الرحمة ضعف فى الطبيعة» وهكذا ملأ البلاد رعبا ورهبا وصار الخوف هو الصلة بينه وبين
الغريب والقريب.
وبعد أن مات «أمير المؤمنين» انتقلت الخلافة إلى أخيه المتوكل كان محمد بن عبد السلام الزيات مطمئنا إلى أن قصور الخلفاء لم تعرف وزيرا مثله فى القوة والاستجابة لرغبات «أمير المؤمنين» ولا يمكن الاستغناء عنه. ولكن فوجئ ذات يوم بقرار « أمير المؤمنين» بمحاسبته عما اقترف من جرائم وكان جزاؤه السجن والتعذيب فى «التنور» الذى اخترعه، وظل يصرخ والمسامير تمزق لحمه، وحين صاح وهو على وشك الإغماء: «الرحمة» قال له الذين يعذبونه: «إنما الرحمة ضعف فى الطبيعة» وبعدها لم ينطق إلى الأبد.
كتب طه حسين هذه القصة فى عهد كل حكومة من الحكومات التى كانت تنشر الخوف فى نفوس الناس وتهددهم بالسجن والتضييق عليهم وعلى أسرهم
فى رزقهم.
***
وكتب طه حسين تحت عنوات «مرآة الضمير» عن «رئيس الوزراء» المستبد قصة الرجل الذى نظر صباح يوم فى المرآة فرأى فيها وجها بشعا، لكنه وجد زوجته والناس يتعاملون معه دون أن يجدوا فيه شيئا غيرعادى، ومضت الأيام وهو يرى صورة وجهه البشع فى المرآة ويزداد شعوره بالقلق والألم يوما بعد يوم إلى أن سقط مريضا، وفحصه الأطباء فلم يجدوا به مرضا ولم يصفوا له دواء إلى أن قال له أحدهم: التمس دواء نفسك عند نفسك، فأدرك أنه إنما يرى ما فى أعماق نفسه من سواء وبشاعة!
***
وكتب طه حسين عن «الحية» التى يقول عنها الجاحظ إن لها رأسين تأكل بهما ولا تشيع ويطلق عليها «الشجاع» ويقول طه حسين إن من الناس من يشبه هذه الحية فى جمع المال الحرام على جثث وحقوق الآخرين، ومن صفاتها أن لها صفيرًا وفحيحًا، ومثلها «شجعان» السياسة حيث يمكر بعضهم ببعض ويمكرون جميعا بالشعب!
وكتب فى زمن الاستبداد السياسى عن كتاب كليلة ودمنة حين قال بيديا الفليسوف لدبشليم الملك: « إن علمت أن فى بعض وزرائك استبدادًا واستكبارًا ورفضا للنصحية فاعلم أنهم لا يصدقونك الرأى ولا يخلصون لك النصح، فليس بناصح من لا يقبل النصحية، وليس بمخلص من يشك فى إخلاص المخلصين له، ولا تأتمن من لا يأتمن أحدا، ولا تطمئن إلى من لا يطمئن إليه أحد!
***
وكأن طه حسين كان يمد بصره إلى ما بعد رحيله فقد كتب عما تعانيه الحياة الاجتماعية والسياسية فى هذه الأيام، وأشار إلى نوع من الناس يسمى الواحد منهم «الثعبان» يتحمس للإصلاح بقوة، ويدافع عن القضايا الوطنية بحرارة، وتنتفض عروقه فى رقبته حين يصيح مطالبا بحقوق الشعب، ومع ذلك فهو حاضر كل لقاء، تراه واحدا من المعتدلين، وتراه أيضا مع المتطرفين، تراه مع المصلحين كما تراه مع المتأمرين، كل دون أن تظهر عليه علامة من علامات الخجل، وحين الجد تجده ماهرا فى الاستخفاء ويبرز مواقفه المتناقضة بثقة وقوة يحسد عليها ويقول طه حسين: ليس من الخير أن تكثر فى مصر الثعابين!
ويكتب طه حسين عن جحا حين زعم لقاضى المدينة أنه يستطيع أن يأتى بتسع عشرة أوزة، ويدخل عليهم عشرين رجلا فلا يخرج واحد منهم إلا ومعه واحدة، واستجاب القاضى، ولكن حين دخل الرجال العشرون حجرة الأوزة ارتفع صراخهم ودار بينهم صراع وتقاتلوا وسالت دماؤهم وشاهت وجوههم ثم خرج الرجال ومع كل واحد منهم أوزة وخرج الأخير وليس معه شىء.. وكأنه كان يريد أن يقول أن بعض السياسيين مثل جحا فى وعودهم للناس بتحقيق المستحيل!
هكذا كان طه حسين لا يعدم وسيلة لتوصيل رأيه إلى الناس مهما ضاقت الحلقة حوله ومهما بلغ الاعتداء على حرية الرأى وعلى أصحاب الرأى.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف