تحذيرات من الغرب
من الملاحظات التى تلفت النظر أننا حين نقول إن الإسلام يواجه سوء الفهم أو سوء القصد فى الغرب ـننجد رد فعل بعض المثقفين المسلمين الذين يعيشون فى العالم الإسلامى مختلف عن رد فعل أكثر المثقفين المسلمين وغير المسلمين الذين يعيشون فى الغرب.. فالين يعيشون فى العالم الإسلامى يرون أن حضارة الغرب حضارة العلم، والانصاف، والموضوعية. وبالتالى فليس لديها عن الإسلام تحيزات معادية، وما تعكسه إلا صورة لما هو قائم فى العالم الإسلامى من تخلف فى الفكر والحضارة. أما الذين يعيشون فى الغرب، ويعايشون الظاهرة من الداخل فإنهم يعلنون – من هناك – أن التشويه الذى يصيب الإسلام والمسلمين بأقلام وألسنة علماء ومفكرين وإعلاميين غربيين أصبح أمرًا يثير القلق،ويدعو إلى التنبه إلى خطورته، ويستلزم حشد قوة المسلمون، الفكرية والسلوكية، إعادة تقديم الإسلام بصورة متجددة لتظهر حقيقته كدين للحضارة والتقدم والإنسانية والفضائل جميعًا.
ويكفى أن نعود إلى كتاب هام لباحث أمريكى كبير من أصل عربى فلسطينى هو الدكتور ادوارد سعيد الذى أطلق تحذيرات منذ الثمانينات هى دراسته عن تغطية الإسلام، وقال فيها إن الإسلام لا ينتمى إلى أوروبا، كما أنه لا ينتمى إلى مجموعة الأمم الصناعية المتقدمة مثل اليباان والدول الإسلامية جميعًا تدخل فى نطاق الدول النامية، وهى بحاجة إلى "التحديث"، وقد أنتجت أيديولويجيتها للتحديث طريقة فى النظر إلى الإسلام كلن يمثلها شاه إيران فى أوجد مجده زكانالغرب يضطر إليه على أنه حاكم عصرى، وحين هوى بنظامه رأى العرب أن النظام البديل ينتمى القرون الوسطى.
وينبهنا الدكتور ادوارد سعيد أيضًا إلى أن دراسة التاريخ تلدنا على أن الإسلام كان يعمل على الدوام إزعاجًا خطيرًا للغرب. وليس هناك حديث عن أى دين آخر غير الإسلام على أنه يمثل تهديدًا للحضارة الغربية، وهناك الكثير من الكتب والكتاب موضوعهم الرئيسى الحديث عن الهمجية الإسلامية، وكثير من "الخبراء" الغربيون ينصحون دولهم باستخدام القوة والعنف ضد الإسلام. ويتحدثون عن "التناقض" فى الإسلام فهو مؤيد للرأسمالية والاشتراكية على السواء، وللنضال والقدرية، وللشمولية العالمية والانتقائية الضيقة. وللعنف والسلام.
ويبرز الدكتور ادوارد سعيد هذا الخلط الشديد فى الفهم إلى أن الإسلام أصبح كبش الفداء لك ما لا يروق للمستثمرين الغربيين من أنماط سياسية واجتماعية واقتصادية.. فهو بالنسبة لمفكرى اليمين فى الغرب يصقل "الهمجية" وبالنسبة لمفكرى اليسار يمثل "الثيوقراطية فى العصر الوسيط"، أما بالنسبة لمفكرى الوسط فإنه يمثل نوعًا من المواقف والأفكار الغريبة، ومع هذا الاختلاف فى زاوية الرؤية يتفق هؤلاء جميعًأ على أن ما هو معروف عن الإسلام والعالم الإسلامى قليل، ولكن ما هو معروف منه حتى الآن يتعارض مع قيم الحضارة الغربية، وما يعتبر ذا قيمة فى الإسلام هو أساسًا عداؤه للشيوعية مما يعنى أن هذه القيمة قد انتهت بنهاية الشيوعية (!)
يشير أيضًا الدكتور ادوارد سعيد إلى حقيقة تكفى معرفتها لإلقاء الضوء على مواقف المستشرقين والدارسين للإسلام فى الغرب، فقد كان المستشرقون منذ البداية ينتمون إلى الإدارات المسئولة عن المستعمرات، وكان التعاون وثيقًا بين البحث العلمى للإسلام وبلاده وشعوبه والفتح الاستعمارى العسكرى المباشر، وأبلغ مثال على ذلك المستشرق الهولندى س. سفوك هير جرونج الذى استغل الثقة التى أعطاها له المسلمون لتخطيط وتنفيذ الحرب الهولندية الوحسية ضد المسلمين الأندونيسيين فى سومطرة.. ومع ذلك ما زالت بعض كتاباتنا تتدفق فى الدفاع عن الطبيعة غير السياسية للبحث العلمى الغربى، وعن ثمار العلم الاستشراقى وقيمة الخبرة المتخصصة "الموضوعية"، ولا يضعون فى اعتبراهم إنك لا تكاد تجد خبيرًا متخصصًا فى الإسلام فى الغرب لم يسبق له إن كان مستشارًا أو موظفًا فى حكومته أو فى إحدى الشركات المتعددة الجنسيات، أو فى إحدى أجهزة الإعلام.. وبالتالى فإن أبحاثه لم يكن القصد منها إلا خدمة أهداف ومصالح هذه الجهات.
فإذا لم يكن أكثر ما يكتب عن الإسلام فى الغرب مشوبًا بسوء الفهم، أو بسوء القصد، وإذا لم يكن باطلاً كله، أو بعضه، فهو على الأقل متاثرًا بالأوضاع السياسية والاقتصادية والفكرية التى ينشئا فيها، وهى أوضاع لا تسعى إلى الدفاع عن الإسلام أو انصافه، وليس من أهدافها تنقية الفكر الإسلامى، مما علق به من شوائب ليست لها دور وتأثير لا يمكن إنكارهما.
ويرى الدكتور ادوارد سعيد من خلال معايشته لمراكز البحوث العلمية ووسائل الإعلام والمفكرين فى أمريكا عشرات السنين، أن الاهتمام بالإسلام هناك بتركيز فى الجماعات التى يكون لها من النفوذ والتأثير فى العالم الإسلامى نفس ما يساعد على تصدير أفكار ومفاهيم غربية عن الإسلام مثل المؤسسات الأكاديمية والشركات العملاقة، والإعلام، والدوائر الحكومية، وهى تعمل فى اتجاهات وأهداف تحايلية بارعة من إثارة حرب باردة جديدة، إلىإشعال عدم اتلعاطف العنصرى إلى تعبئة المشاعر بالحديث المبالغ فيه والذى يلفت أنظار هذه الأيام عن غزو الإسلام المحتمل للغرب وأيضًا فى تصوير العالم الإسلامة على أنه ليس لديه من فائدة للعرب إلا أن يورد النقد والإرهاب.
والكتابات الكثيرة عن الإسلام فى العرب تحاول أن تعيش فى الذكرى وتبلغ فى الحديث عن قوة الإسلام وخطورته التى تتجه إلىإزعاج الغرب. وأن هدف المسلمين الكامن هو أن يعيدوا سابق انتصاراتهم وغزوهم للغرب إذا امتلكوا القوة لتحقيق ذلك، أو تصوير المسلمين على أنهم يعاونون من عقدة المبالغة فى تقدير الذات والأنا المتضخمة، وأنهم يشعرون بالحقد على الواقع وعقليتهم تجعلهم عاجزين عن فهم مبادىء السببية، وتفضيل المكسب السريع المباشر فى التخطيط طويل المدى، وهم من كل ذلك فإن الكلمات والواقع غير مترابطين فى العقل المسلم بحيث يعايشون انفصالاً غريبًا بين ما يقولون وما يفعلون دون أن يشعروا غريبًا فى ذلك من تناقض.
ومنذ القرن الثانى عشر وكتاب الغرب ينظرون إلى الإسلام على أنه كتلة واحدة ولا يتسطيعون إدراك ما فى هذه الكتلة من تمايز وتعدد واختلافات غإذا كان فى العالم الإسلامى جماعات من الإرهابيين فليس كل المسلمين إرهابيين، وإذا كان فيه أغبياء وضيقوا الأفق فليس كل المسلمين كذلك زالنسبة فيهم ليست أكثر من مثيلتها فى الغرب، حيث تظهر فيها جماعات تفهم المسيحية غهمًا متطرفًا ومتعصبًا وتلجأ إلى العنف والإرهاب وكثيرًا من مفكرى الغرب لا يتركون الفوارق بين السنة والشيوعية.. أو بين المذاهب أو بين المدارس الفكرية السوية والمدارس الفكرية المنحرفة التى تحسب على الإسلام أو بين الاتجاهات المعتدلة والحركات السرية والباطنة المنحرفة، وينشرون أفكارها على أنها جميعًا معبرة عن الفكر الإسلامى.
وهذه المواقف جميعًا دون شك وراءها دوافع وأسباب يمكن فهمها دينيًا ونفسيًا وسياسيًا ترعاها فى البداية والنهاية المصالح التى هى محور السياسات والموجهة لكل فكر وبحث وعلم فى الغرب مهما بدا الأمر فى ظاهره غير لك، ولا يزال مسجلاً حديث باحث أمريكى كبير هو ف.س. نيبول لمجلة نيويورك الكبرى فى 28/8/1980 قال فيه أن المبادرة السياسية فى الإسلام خلو من المضمون الفكرى، ولذلك لابد أن ينهار دون أن يحدد ما هى هذه المبادرة الخالية من المضمون الفكرى ولا حتى ما هو هذا المضمون الفكرى الذى يقصده ولكن هكذا يشعرون ويفكرون ويؤمنون ويعملون.. ماذا نفعل نحن؟
لابد ان نعترف أن الجهود العلمية لتقديم الإسلام من جانبنا للغرب فى صورته الصحيحة ماززالت قاصرة.. وهذا موضوع يحتاج إلى وقفة بالصراحة والموضوعية مع الأجهزة والمؤسسات المسئولة فى العالم الإسلامى.
لكن الأخطر من ذلك أن جماعات الإرهاب التى تقتل الناس عشوائيًت وتخرب المنشآت وتحاول أن تثير الزعر فى النفوس وتدعى أنها تفعل ذلك بوحى من مبادىء الإسلام، ومن أجل إقامة شريعته، تقدم خدمة العمر لأعداء الإسلام والمسلمين ليسيروا إليهم ويقولون أترون هؤلاء المخربين لو انتصر الإسلام فسوف ينتشر التخريب والقتلوالإرهاب فى العالم كله.
نحن إذن أمام مشكلتين لابد أن نجد لهما حلاً، لأنه ليس هناك من يهمه حلهما غيرنا ولا فى صالح أحد أن يحدث ذلك، بل إن صالح أعداء الإسلام أن يظل الإهمال والتخريب والتراخى فى ناحية، ويظل الإرهاب والقتل والتخريب فى ناحية أخرى.. ليبقى العالم الإسلامة فى حالة التخلف والتبعية ويبقى للغرب السيطرة.