أخطاء المستشرقين

ولو أن موضوع دور المستشرقين فى خدممة الإسلام والإساءى إليه كوضوع طويل، أفاض فيه الباحثون،ونبه إليه المخلصون من مفكرينا، إلا أنه ما زال هناك من يرى أن كل مانشر عن الإسلام باللغات الأجنبية وبأقلام الباحثين الغربيين هو نتاج بحث التزم بالمنهج العلمى، وباعتبارات الموضوعية والحياد، ولعل سبب هذا الحكم العام هو الكفة الزائدة فى مؤسسات البحث العلمى الغربية، وفى الباحثين الغربيين، وتصور أنه ليس من المعقول أن يرد النظام أو سوء النية ممن وصلوا إلى كل ها التقدم العلمى، أو ممن قضوا أعمارهم فى دراسة الإسلام بكل جوامبه. لكن الواقع يكذب هذا الاتجاه القائم على تصور حسن النوايا دائمًا.. وهناك أمثلة.


آخر ههذ المثلة - كنموذج ليس إلا -  ما فعله المستشرق الفرنسى الأشهر جاك بيرك حين قام بترجمة معانى القرآن، وهو باحث ومفكر له مكانته الكبرى، وهو موضوع ثقة ولا يتطرق إليه الشك كما ظل يريد لكبار كتابنا طوال نصف قرن مضى، إلى حد أن تسرع البعض فاعتبر هذه الترجمة هى القرآن نفسه مكتوبًا باللغة الفرنسية، واستندوا فى ذلك إلى معرفته العميقة بالقرآن وعلومه.. وبصداقته لكبار المفكرين المسلمين، وبعضويته لمجمع اللغة العربية، إلى أن جاءت رئيسة قسم اللغة الفرنسية بجامعة المنوفية الدكتورة زينب عبد العزيز تنشر بحثًا عن هذه الترجمة هو أقرب إلى الإدانة المسببة، وتضعها فى الإطار العام – السياسى والاجتماعى والثقافى-  العربى الذى يحيط بالإسلام وبخاصة فى عقد التسعينات.


والباحثة الجامعية تضع أمامنا شهادة مستشرق آخر هوالآن روبير اسيار يقول فيها بالحرف: "إن الغرب لم يفهم الإسلام على حقيقته أبدًا.. بل ولم يحاول ذلك مطلقًا".. وحتى خيرة المسيحيين الذين كانوا يعيشون على مقربة من الإسلام من أمثال يوحنا الدمشقى/ وتيودور أبى قرة، أو بولس الصيدونى، لم يتمكنوا من إدراك جوهر الإسلام وعالميته.. ولعل ذلك يرجع أساسًا إلى أن الغرب المسيحى اكتفى لمدة قرون طويلة بتلطيخ الإسلام ومؤسسه بأسخف الأقوال، دون حتى أن يكلف نفسه عناء دراسة ههذ العقيدة. فأول ترجمة لا تينية للقرآن لم تظهر إلا فى القرن الثانى عشر، أى بعد خمسة قرون من ظهور الإسلام، وقد تمت بناء على مبادرة من بطرس المبجل، وتحت إشراف أسقف دير كلونى. ولابد هنا من إضافة: أن هذه الترجمة، وكل الترجمات التى تلقها، لم يكن لها أى هدف سوى أن تكون الأساس لتوجيه المزيد من الأديان ضد القرآن.. تلك الأديان التى امتدت سلسلتها على مدى قرون..


وحين ظهر الاستشراق فى القرن السادس عشر لم يكن ذلك إلا لدراسة ثقافة العالم الإسلامى ومفاتيح السيطرة على عقول أبنائها لخدمة الاستعمار وترسيخ قواعده، وتعدد لنا الدكتورة زينب عبد العزيز لبعض الترجمات لمعانى القرآن منذ القرن السابع عشر وحتى الآن بأقلام مستشرقين كبار لهم أسماء رنانة ولم تكن فى حقيقتها إلا تحريفًا لمعانى القرآن يتستر وراء أردية علمية ومنهجية.. إلى أن جاء المفكر الفرنسى الكبير جاك بيرك ليرفض وينكر انتماءه إلى حركة الاستشراق، ويتمسك بأنه دارس للتاريخ، ومؤرخ، ولكنه حين أصدر ترجمته لمعانى القرآن التى صدرت فى فرنسا عام 1990 كشف عن وجوه أخرى، فقد برر اهتمامه بتقديم معانى القرآن "مشوهة" للغرب "لأن الكثير من الناس والمفكرين الآن ينبذون الصورة المادية للحياة المعاصرة، ويرفضون مجتمع الإستهلاك، هذا المجتمع المادى المحض ويفضلون على المدينة المعاصرة مدينة الإسلام الروحية، وينادون بالعودة إليها".. فكأنه أراد أن يقول للمفكرين الغربيين الذين أصبحو يرفضون حضارة الغرب الآن ويرون أنها على وشك الانهيار لأنها فقدت الأساس الروحى والأخلاقى، يريد أن يقول لهم: وهذا هو الإسلام أيضًا ملىء بالخرافات والتناقضات.. إلى آخر الاتهامات القديمة المعروفة التى تتردد كثيرًا.


وتشير الباحثة أيضًا إلى مستشرق فرنسى آخر، هو رجيس بلاشير الذى يستشهد به جاك بيرك كثيرًا، الذى يقول في مقدمة كتابه عن "القرآن" متحدثًا عن الصورة المشوهة التى قدمتها أوروبا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى ترجمات معانى القرآن منذ القرن الخامس عشر فيقول أن هذه كلها "نمثل عنصرًا أساسيًا فى الصراع القائم ضد الإسلام".


ولا أستطيع أن أنقل هنا ما قاله جاك بيرك فى ترجمته لمعانى القرآن، لأننا فى شهر رمضان الكريم نعيش فى روحانية مصاحبة كتاب الله، ولا نحتمل ترديد مثل هذا التخريف وقد نعود إليها بعد ذلك. ولكن يكفى أن نشير إلى ما توصلت إليه الباحثة العلمية المصرية من دراستها إلى أن المحاور الأساسية لعمل جاك بيرك الفخم تدور حول ما يلى:


أولاً: التشكيك فى نزول وترتيب وتجميع القرآن.


ثانيًا: تأثر القرآن بالشعر الجاهلى وبالفكر اليونانى القديم.


ثالثًا: التشكيك فى أن القرآن تأثر بمزامير داود.


رابعًا: احتواء القرآن لخط أسطورى بثولوجى.


خامسًا: أن مفهوم "الله" فى القرآن يثير الخوف فى نفوس المؤمنين به "ويغفل أن الله هو الرحمن.. الرحيم.. السلام.. الودود.. الباسط"..


سادسًا: التناقض بين الإشارة إلى أهمية العقل فى القرآن وبين الإيمان بالغيب الذى يعنى عنده مساحات من الظلام "ويغفل أن الغيب هو ما يمثل علم الله وإرادته المطلقة وغير المحدودة، بينما علم الإنسان وإرادته لهما حدود بحكم طبيعته النسبية"..


سابعًا: أن التشريع الإسلامى مرجعه الفقه. وهو تراكمات فضائية غير واردة فى اقرآن الذى لا يتضمن إلا حوالى خمسمائة آية تتمضن الحكام، ويقول: "إن أقل ما يمكن أن يقال هو أن القرأن لا يتضمن آية قرآنية بالمعنى المفهوم، لا فى العبادات، ولا فى مفهومها.. وكم ينتقد غموض التعبيرات فى الأحكام, ويناقض الشريعة، ويتهم المفسرين الكبار بتحريف معانى بعض الآيات(!) كما يحاول الايحاء بأن مفهةم "الله" فى القرآن هو ترديد لذات المفهوم فى الفكر اليونلنى القديم(!)


ويختم جاك بيرك مقمدته لترجمة معانى القرآن التى تقع فى ثمانين صفحة بالقول بأن مشكلة الإسلام اليوم هى ذلك الانفصال الذى يمكن أن يتفاقم بين مواقف العقيدة، ومسيرة العالم الفعلية. بل ومسايرة العالم الإسلامى نفسه. فالإسلام يبحث عن ملجأ باتجاهه إلى الأصول، إلا أن عدم إمكانية اخضاعها للنقد التاريخى ونقلها إلى الحاضرلا يعيد لها قوتها. إذا أن "الذكر" الحقيقى هو الذى يحول الذكرى إلى مستقبل.. وهى عملية خلاقة تدمج المعاصرة بالأصالة فى مواجهة التجديدات التى يجب على نظام العالم الآن أن يقترح حلولاً ممكنة لها.


جاك بيرك المستشرق الذى أحببناه من كثرة ما كتب عن أساتذتنا الكبار باحترام، يردد هو الآخر نف سالأكاذيب عن عدم قدرة الإسلام على الحياة فى عالم يعيش ثورة التكنولوجيا وإنجازات العلوم الحديثة، ويواجه تحديات من نوع جديد، وينتهى إلى تساؤل – أقرب إلى التشكيك – فى قدرة الإسلام على التأقلم مع ضروريات المستقبل.


وهل نعتبر ما قاله جاك بيرك بعيدًأ عما قاله مفرك غربى آخرهو جان كلود يارو فى كتاب عن "الإسلام والعصر الحديث" الذى صدر عام 1991 بصراحة ووضوح أكثر "لابد من إعادة صياغة القرآن والسنة بمفاهيم عصرية جديدة، وإلا فإن على الإسلام أن يختفى"(!)


إن الدراسة التى قدمتها الدكتورة زينب عبد العزيز عن جزء من العمل الكبير لجاك بيرك عن ترجمة معان القرآن ورقة جديدة فى ملف القضية مقدمة للرد على الذين يقولون أن فكرة إساءة فهم الغرب للإسلام هى نوع من عقدة الاشطهاد لدى المسلمين، أو هى وهم من أوهام المتخلفين لكى يصلوا إلى تبرير تخلفهم "لأنفسهم وللآخرين" أو هى – ربما – عقدة اضطهاد قيدمة لها رواسب عند بعض المسلمين.


نقرأ أن المسألة ليست بمثل هذه البساطة.. ولكنها تحتاج إلى مجهود كبير جدًا.. تقوم به الهيئات الإسلامية ومراكز البحوث، والعلماء، لحصر صور الإساءة، وتقديم الإسلام بصورته اللحقيقة للعالم..


وهذا عمل كبير يحتاج إلى دراسة وإعداد جيد.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف