الإعلام.. والإسلام (2)

لا أظن أننى أحتاج إلى تقديم دليل جديد على مدى التشويه الذى يلحق بالإسلام ويجعل صورته فى الغرب مرتبطة بالتخلف، والعدوان، والدماء، وضيق الأفق، ومعاداة العلم. والعقل .. ففى كتب المستثسرقين منذ عشرات السنين جهود منظمة بذلوها فبدت أفكارهم فى ثوب علمى وموضوعى وهى تخفى ببراعة الفهم المغلوط أو التشويه المقصود، وكذلك قام فى الصحافة الغربية من الأدلة ما يكفى ويزيد بما تنطوى عليه السطور خفية أو ما تشير إليه صراحة وبكل وسيلة من وسائل وفنون الإعلام لإقناع الغربيين بأن الإسلام خطر على الحضارة الحديثة ومعاد لمفهوم التقدم.


لايحتاج الأمر إلى دليل، ومع ذلك فهناك معالم لها أهمية لابد أن نتوقف عندها ولو بسرعة، ولكن القضية الأهم هى ما نفعله نحن بأنفسنا، لكى نقدم للغرب صورتنا، سواء فى الفكر أو فى السلوك، ففى كتابات بعض المسلمين وأعمالهم ما يسئ إلى الإسلام بأكثر مما يسئ المستشرقون وأعداء الإسلام  والجاهلون به على السواء. فكم فى بعض الكتب المتداولة الآن من خرافات وهلوسة لا يمكن أن تكون تعبيرًا عن حقيقة الإسلام، بما تفيض به من تصورات بدائبة رافضة للتقدم العلمى الهائل الذى أنجزته البشرية فى القرون الماضية، ورافضة لفكرة التغير والتحول والتقدم وبأن ما كان يصلح فى عصر لا يصلح بل ضرورة لعصر آخر، ولا يثبت إلا الكتاب الكريم فهو كلام  الله الدائم الخالد الذى لا يلحقه التغيير أو التبديل، ولكن التغيير يكون دائما واردا فى الفهم والتغيير، فالقرآن الكريم كلام الله المنزل، ولكن فهم معانيه عمل إنسانى يخضع لقواعد وشروط  بحيث يفسر النص القرانى بعضه بعضا، وتفسر الأحاديث الصحيحة الموثقة بعضه الآخر، باعتبار أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، يضاف إلى ذلك أن الإعلام العربى يتابع بدهشة احتراء بعض الشباب قليلى العلم بالتفسير وعلوم القرآن والحديث وبالتاريخ الإسلامى  والحضارة الإسلامية، وهم  يتصدون للتفسير، ويتخذون مقاعد الإفتاء والإمامة، وينصبون أنفسهم متحدثين رسميين باسم الإسلام، وهذا ما لا يحدث فى دين آخر، فكل دين له علماؤه المتخصصون، الذين ينقطعون لدراسة الأصول والمناهج، ولا يضيفون مفاهيم جديدة إلا بعد أن يصلوا إلى درجة عالية جدا من التعمق فى الدراسة، ولذلك لم يكن أحد من فقهاء ومفسرى ومحدئى العصور المضيئة فى الفكر الإسلامى يجرؤ على القول كتاب الله وسنة رسوله إلا بعد أن يحصل على اجازة بذلك من الفقيه الأكبر المعتمد فى عصره والذى يساوى الآن الجامعة، أما أن ينصب بعض صغار السن أنفسهم أئمة وفقهاء فهذا شئ من حق الإعلام العربى أن يرصده  بالدهشة ويرى فيه أن هذا الدين هين على أهله، بسهل الاجتراء عليه.


ثم أن كل من يريد أن يعيد الأمور إلى نصابها، ويذكر الناس بما يعتبر من البديهيات فى هذا المجال يفاجأ بحملة علنية أو خفية تجعله متهمًا, وكل ما يسعى إليه أن يقول دعوا الاجتهاد فى الدين لأهله, واتركوا مهمة التفسير لمن هو مؤهل له, ولا تخوضوا فى أمور الإسلام بما يزينه لكم فكركم الفردى, أو باختيار الغريب والمتهم من الأفكار والتى تمتلئ بها كتب التراث, وفى بعض كتب التراث سموم كان أصحابها يقصدون قصدًا الإساءة إلى الإسلام, وجاء الباحثون دائمًا فى كل عصر عن كل ما هو غريب ليعيدوا إليها الحياة دون أن يكون لديهم أدوات البحث العلمى والتمييز بين ما هو صحيح وما هو مدسوس.


يسئ بعض المسلمين لأنفسهم, ويتصيد الإعلام الغربى هذه الإساءات وينشرها, ويكبرها, ولقد ذكرنى بهذه الحقيقة المفكر الكبير الدكتور فؤاد زكريا فى رسالة أنقلها لأهيمتها.


الأخ الفاضل..


قرأت فى الأهرام بتاريخ 23/1/94 مقالتك الهامة, التى هى الحلقة الأولى من موضوع " الإعلام والإسلام" وقد وجدت نفسى متفقًا معك فى الجانب الأكبر، مما  كتبت, غير أن ما أود أن أناقشه معك هو الجزء الأخير من مقالك, الذى تحدثت فيه عن التخطيط المتعمد الذى يعمل به الغرب على تصوير العقل المسلم بأنه لا يفهم مبدأ السببية, وأوضحت بعبارات دقيقة كيف أن الإيمان بهذا المبدأ يؤدى إلى ذكاء الشعور بالمسئولية لدى الإنسان "ويتولد الشعور بأن هذه الحياة على الأرض يمكن أن تتغير إلى الأفضل, وأن كل ظلم يمكن دفعه, وكل خطآ يمكن إصلاحه... على حين أن الإعلام الغربى يصور العقل المسلم بأنه "لا يثق فى مبدأ السببية, لأنه يؤمن بأن الله هو الذى جعله فقيرًا أو مظلومًا أو متخلفًا أو جاهلاً.."


والمسألة التى أود أن أطرحها عليك هى: هو صحيح أن عدم الثقة فى مبدأ السببية هو مجرد" مؤامرة" من الإعلام الغربى, تعمد فيها أن يسئ فهم حقيقة الإسلام.. وهل لا توجد على الإطلاق فى صميم العالم الإسلامى التاريخية والمعاصرة تيارات هامة أسهمت فى غرس عدم الثقة فى مبدأ السببية فى نفوس المسلمين؟.. أن القضية ياسيدى قديمة, كان من أهم مراحلها إنكار أبى حامد الغزالى لمبدأ السببية المباشرة للظواهر الطبيعية, وتأكيده أن العلة الحقيقية للظواهر كلها هى المشيئة الإلهية.وتلك قصة تطول تفاصيلها, ولكن ما يهمنا منها هو أنه قد ظهر فى العالم الإسلامى منذ ذلك الحين تيار قوى يفهم كلمة "الأسباب" بمعنى أنها المناسبات أو الوسائل التى اختارت المشيئة الإلهية أن تتخذها لإحداث الأشياء, وكان من الممكن أن تتخذ غيرها, أو عكسها, ومن ثم فإن العلة الحقيقية لكل الظواهر ينبغى أن تلتمس خارج الطبيعة. ولم يكن يوجد فى ذلك الحين إعلام غربى قوى من قلب حضرتنا, وما زال له تأثيره الهائل فى الإسلام المعاصر.


ولتسمح لى، أيها الصديق أن أروى لك قصة تعرضت لها أنا شخصيًا خلال فترة تدريسى فى جامعة الكويت. فقد نشرت فى ذلك الحين كتابًا لى بعنوان "التفكير العلمى" وتحدثت فيه حديثا يتفق مع الاتجاه العام لمقالك، مؤكدًا أهمية الإيمان بمبدأ السببية فى العالم. وفى سعى الإنسان إلى التقدم. الخ.. لماذا بمجلة كويتية تنطق بلسان تيار إسلامى هام تهاجمنى هجومًا عنيفًا، وتتهمنى بالإلحاد لأنى أقول بالأسباب الطبيعية للظواهر. وحين رفعت دعوى ضد هذه المجلة، جاء حكم قاضى المحكمة الابتدائية، وهذا هو بيت القصيد، لصالح المجلة، فأكد فى حيثياته، وهى وثيقة ذات دلالة بالغة فى الموضوع الذى تفضلت بطرحه فى مقالك، إلا أننى قلت بوجود قوانين طبيعية ثابتة وأسباب لا تتخلف للظواهر، وأننى بذلك ألغى دور المشيئة الإلهية، ومن ثم كانت المجلة على حق فيما نسبته إلىّ.وعند استئناف الحكم صدر الحكم النهائى لصالحى، وانتقد قاضى الاستئناف الرأىالسابق بشدة.. ومن الجدير بالذكر أن القاضى الأول كان مصريًا، والثانى كان كويتيًا!


وعلى الرغم من أن هذا مثل فردى،  فإنه يقودنا إلى صميم الموضوع الذى تصدى مقالك لمعالجته. فالإعلام الغربى يا سيدى لا ينسب إلينا أى شىء من العدم، وإنما يتصيد دائمًا أخطاء موجودة فينا بالفعل. ثم يضخمها ويعممها ويؤكد أن هذا هو "الإسلام" أو "العقل الإسلامى" بوجه عام. وفى كل ما مر بى من حالات للتشويه الإعلامى الغربى على العالم الإسلامى، بدءًا من التفكير الأسطورى حتى السلوك الإرهابى، كنت أجد لهذه الحالات على الدوام أصلاً فى تفكيرنا وسلوكنا نحن، ولم أجد حالة واحدة نسب فيها هذا الإعلام إلينا صفة ليست لها جذور مناصفة فى فئة من فئاتنا. وحين يلتقط الإعلام العربى هذه العناصر، تكون مهمته بعد ذلك فى التشويه والمبالغة يسيرة كل اليسر.


هذا يقودنا إلى سؤال أراه أساسيا فى الموضوع الذى تفضلت بطرحه، وهو: هل ينبغى أن يقتصر جهودنا على "فضح" ما نراه تشويهًا إعلاميًا عربيًا للإسلام، أم أن أمامنا مهمة أخرى تستحق منا مزيدًا من الجهد. وهى ممارسة النقد الذاتى بالكشف عن عناصرالتخريب الفكرى والسلوكى فى داخلنا، تلك العناصر التى لولاها لما استطاع أعداؤنا أن يجندوا إعلامهم الجبار من أجل تقديم صورة متخلفة لمجتمعاتنا؟


هذا رأى أردت أن أعرضه عليك فور قراءتى للحلقة الأولى، عسى أن يسهم فى إعانتك على مواصلة السير فى هذا الموضوع الهام الذى أشكرك على طرحه على صفحات "الأهرام"..


وأنتهز هذه الفرصة كى أقدم تهنئتى الحارة بالمنصب الجديد, ولأن الموضوع يطول شرحه فإن رسالة الدكتور فؤاد زكريا تجعلنا نصل إلى ما وصل إليه الشاعر العربى القديم لفهم موقف الإعلام الغربى من الإسلام:


نعيب زماننا والعيب فينا


وما لزماننــا عيب سوانا


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف