طه حسين بين الفكر والسياسة

اندمج طه حسين فى الحياة السياسية واكتوى بنارها، ودفع الثمن غاليا بسبب علاقاته بالأحزاب وزعمائها، فقد اضطر إلى الاستقالة من منصبه كعميد لكلية الآداب، وبعد أن عاد إلى الجامعة نقل نقلا تعسفيا من الجامعة إلى وظيفة مساعد مراقب التعليم الأول ثم مفتشا أول للغة العربية بوزارة المعارف، وفصل من الوظيفة وأحيل إلى التقاعد، وتحمَّل المطاردة فى المحاكم والنيابات بتهم لا أساس لها، وتحمَّل الحياة القاسية هو وأسرته بدون مورد رزق، بعد أن بلغ تنكيل إسماعيل صدقى الدكتاتور الرجعى أقصى مداه. عندما دخل ميدان السياسة وهو فى العشرين من عمره دخله كأديب ومهموم بقضية الإصلاح الاجتماعى والدينى ولم يدخله كسياسى، وظل بعد ذلك يتعامل مع الأحزاب ومع السياسة دون أن تتمكن الأحزاب من أن تجعله «ناشطا سياسيا»، إنما هو الذى كان يفرض فكره على هذه الأحزاب وصحافتها، وقد ارتبط فى البداية بحزب الأمة ليس اقتناعًا بمبادئها. بل إنه كان مختلفا مع توجهات هذا الحزب الذى يعارض تحرير المرأة وطه حسن يكتب فى صحيفة الحزب «الجريدة» داعيا إلى تحرير المرأة ويدلل على أن الحجاب ليس من شروط إسلام المرأة المسلمة، كما يعارض سياسة الحزب الداعية إلى إحياء الخلافة ويكتب أن الإسلام لم يحدد نظاما للحكم وأن ما فعلته الخلافة العثمانية يكفى لرفض هذا النظام الذى يفرض دكتاتورية الحاكم ولا يسمح بالتنقيب، فضلا عن أن عصور الظلام والجهل والرجعية والجمود التى عاشها المصريون فى ظل الخلافة العثمانية كافية لرفض هذا النظام والتمسك بنظام ديمقراطى يجعل الشعب هو الحاكم.
دخل طه حسين حزب الأمة لأنه كان يضم صفوة من كبار المفكرين الداعين إلى الإصلاح والتجديد مثل لطفى السيد والدكتور محمد حسين هيكل وكان مرتبطا بهما.. ثم وجد نفسه بعد ذلك قريبا من الحزب الوطنى الذى أسسه مصطفى كامل وسعد لدعوته القوية لمعاداة الإحتلال البريطانى ومطالبته بالاستقلال التام ونشر فى صحيفة الحزب مقالات وقصائد ضد الاحتلال منها قصيدة يقول فيها:
تيمموا غير وادى النيــل وانتجعوا
فليس فى مصر للأطماع متسع
كفوا مطامعكم عنا أليس لكم
مما جنيتم وما تجنونــه شبــع
***
وعندما أنشئ حزب «الأحرار الدستوريين» سنة 1922 انضم إليه بحكم علاقته بلطفى السيد والدكتور هيكل وعبد الخالق ثروت ومصطفى عبد الرازق وعلى عبد الرازق وقد انضموا إلى هذا الحزب وكان الدكتور هيكل رئيسا لتحرير صحيفة الحزب (السياسة) ونشر طه حسين فيها مقالاته ضد سعد زغلول بينما كان العقاد على العكس يرتبط بالوفد وبسعد زغلول، وكان سعد زغلول يهاجم طه حسين فى هذه الفترة.
ومن تحولات السياسة أن العقاد تخلى عن الوفد فى سنة 36 ودخل معركة عنيفة مع بعض زعمائه ووقف إلى جانب حزب الأحرار الدستوريين، أما طه حسين فقد وجد نفسه فى خندق واحد مع حزب الوفد الذى كان يؤيده ويدافع عنه فى مواجهة بطش إسماعيل صدقى، تحول طه حسين إلى حزب الوفد مع أنه لم يكن عضوا فيه ولم يشارك فى نشاطه السياسى. ولكنه انضم إلى كتّاب صحيفة (كوكب الشرق) صحيفة الوفد التى احتفلت به احتفالا غير مسبوق حتى إن النحاس زعيم الوفد كتب بنفسه مهنئًا الكاتب الكبير بانضمامه إلى الصحيفة (ولم يقل بانضمامه إلى الحزب) وتعبيرًا عن الشعور بأن انضمام طه حسين انتصار للوفد قام النحاس بزيارته فى بيته، وإن كان طه حسين قد اختلف بعد ذلك مع حافظ عفيفى صاحب كوكب الشرق واستقال منها.
***
كان طه حسين مفكرا ولم يكن حزبيا بالمعنى الدقيق، لذلك كانت انتماءاته الحزبية من أجل نشر أفكاره هو وليس أفكار الحزب ولم يكن عضوا عاملا فى أى حزب، ولذلك كان يكتب فى صحيفة حزب الأمة وهو حزب رجعى يمثل الأقلية. ولم يكن طه حسين يروج لأفكار الحزب. بل كان يكتب معارضا لها، وكذلك كان فى حزب الأحرار الدستوريين فقد كان هجومه على سعد زغلول نابعا من فكره لأسباب لديه وان كان قد اتفق مع حزب الأحرار الدستوريين فى العداء لسعد، ولم يحمل هذا العداء لخليفته (النحاس)، والملاحظ أن طه حسين يظل محافظا على دوره كمفكر وأديب وصاحب دعوة إلى الاستقلال الوطنى، وحرية الرأى، والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين الفقراء والأغنياء فى الفرص وبخاصة الفرصة فى التعليم، وظل فى كتاباته يحارب الظلم الاجتماعى والرجعية ويدعو إلى نشر العلم والتعليم لكل المصريين ويكفى أن تعود إلى كتبه وبخاصة «المعذبون فى الأرض، وجنة الشوك، وجنة الحيوان، ونفوس للبيع».. إلخ.
***
وعندما جاءت وزارة الوفد سنة 1950 اختاره النحاس وزيرا للمعارف مع أنه ليس وفديا، وتحمَّل النحاس اعتراض بعض كبار قادة الحزب واعتراض الملك فاروق الذى رفض فى البداية تعيين طه حسين وزيرا وقال للنحاس: إنه شيوعى يريد تعليم أبناء الفلاحين، وأمام إصرار النحاس قبل الملك كارها وبعد أداء اليمين قال لطه حسين إنه يعرف ميوله ولكنه يعطيه فرصة أخيرة ليكف عنها. لكن طه حسين أحرج الملك بعد ذلك بإعلان مجانية التعليم حتى المرحلة الثانوية وحاول بعد ذلك أن يجعل التعليم الجامعى مجانا أيضًا لكنه لم يستطع.
ومن المعروف أن جماعة الإخوان تعادى طه حسين لأنه كان أقوى المعارضين لاستخدام الدين كوسيلة لتحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية خاصة، وبعد تعرض عبد الناصر لمحاولة الاغتيال فى الإسكندرية عام 1954 كتب مقالا فى جريدة «الجمهورية» تحت عنوان «فتنة» تدل فيه بما أسماه «جماعة الغدر والخيانة» ثم كتب مقالا ثانيا بعنوان «رخص الحياة» تحدث فيه عن «المجرمين» الذين يقتلون ولا يشعرون بالندم أو الرهبة أو الخوف من الله الذى حرَّم القتل، والإسلام يقدس الحياة الإنسانية ويحعل الاعتداء عليها جرما عظيما، وتساءل فى مقاله: «ما هذه الذخيرة ؟ وما هذا المكر الذى يمكرون ؟ وما هذه الخطط التى تدبر ؟ وما هذا الكيد الذى يكاد ؟ لم كل هذا الشر، ولم رخصت حياة المصريين على المصريين باسم الإسلام والإسلام لم يحرَّم شيئًا كما حرَّم القتل والتعاون على الإثم والعدوان، إنما هى العدوى المنكرة جاء بعضها من أعماق التاريخ، وجاء بعضها الآخر من جهات يستحل فيها المحارم وتسفك الدماء بغير الحق، ويستحب الموت لأيسر الأمور.
ولذلك رحب طه حسين بثورة يوليو، ورحبت به الثورة لأنه كان أكبر مفكر مهَّد لقيامها.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف