الجانب الآخر من شخصية عبد الناصــر
هناك جانب آخر من شخصية عبدالناصر كان دائماً بعيدا عن الأضواء، وبعد وفاة قائد ثورة يوليو 1952 ورئيس الجمهورية تبين أنه لم يكن يملك بيتا ولا فيلا ولم تكن زوجته وأولاده يملكون شيئا فى مصر أو خارجها. وقد تدخل المجلس الحسبى وفقا للقانون لحصر التركة التى تركها والأموال المودعة فى البنوك وتم تسجيل نتيجة الحصر رسميا وتقديمه إلى المحكمة الحسبية لتعيين «الوصى» على الأبناء القصر (وفقاً للقانون). وتبين أن البيت الذى كان يسكن فيه ليس ملكا له ولكنه ملك القوات المسلحة، وأن استراحة المعمورة التى كان يقضى فيها أياما فى الصيف مع أسرته كانت مِلك الدولة وكان إيجارها يخصم من مرتبه. ومن واقع الحصر الذى قامت به النيابة الحسبية كانت التركة كما يلى:
رصيد فى حساب جار فى بنك مصر بمبلغ 3718 جنيها و73 قرشا، و200 سهم فى شركة كيما، و5 أسهم فى شركة مصر للألبان، وسند واحد فى البنك العقارى، و600 جنيه شهادات استثمار، و10 أسهم فى بنك الاتحاد التجارى، و100 سهم فى الشركة القومية للأسمنت، و3 سندات تأمين، و100 جنيه قرض إنتاج، وشهادات استثمار فى شركة الحديد والصلب بمبلغ 600 جنيه، و5 وثائق تأمين على الحياة الأولى فى القوات المسلحة بمبلغ 1500 جنيهاً، والثانية فى شركة الشرق للتأمين بمبلغ 1000 جنيه، والثالثة فى شركة مصر للتأمين بمبلغ 1000 جنيه، والرابعة فى شركة التأمين الأهلية بمبلغ 2500 جنيه والخامسة فى شركة القاهرة للتأمين بمبلغ 2500 جنيه، وكلها بالتقسيط الطويل الأجل وتخصم الأقساط من مرتبه، وترك أيضاً السيارة الأوستن عمرها أكثر من عشرين سنة التى اشتراها قبل الثورة بسنوات دفع هو جزءاً من ثمنها ودفعت زوجته جزءاً من ميراث أبيها.
أما ممتلكاته الشخصية فقد سجلتها لجنة الجرد فى سجلات رسمية وسلمتها لزوجته ووقّعت بتسلمها، وكانت كما يلى: 8 أحذية، و13 كاميرا للتصوير، وآلة عرض سينما، و10 بدل، ومجموعة كرافتات.
وتضمنت وثائق التسليم أن عبد الناصر استبدل من معاشه ما يعادل 3500 جنيه لتجهيز زيجات ابنتيه. وكان فى جيبه يوم رحيله يوم 28 سبتمبر 1970 مبلغ 84 جنيها. وأنه بنى فيلا لكل من ابنتيه بقرض من أحد البنوك وسدد قيمة الأقساط والفوائد.
سفر.. وهدايا.. وجلطة!
تحكى الزوجة كيف كان عبد الناصر يسافر وحده ويقول لها: لا نركب معا طائرة واحدة ونترك أولادنا، وسأكون مشغولا. وكان لا يقبل الهدايا إلا من رئيس دولة ويفضل أن تكون الهدية رمزية، وتلقى من الرؤساء والملوك هدايا منها سيارات كما تلقى، «طائرة ومركب وفرس»، وكل هذه الهدايا سجلها فى وثائق الرئاسة وسلمها للدولة ولم يترك بعد رحيله إلا السيارة الأوستن السوداء الوحيدة التى اشتراها وهو (بكباشى) وظلت باسمه فى المرور، وقيل إنها ستوضع فى متحف، كذلك تلقى هدايا من الساعات أهداها للضباط الذين خرجوا معه يوم 23 يوليه. وتحكى الزوجة أن صلاح الشاهد كبير الأمناء فى الرئاسة جاء إلى عبد الناصر بهدية من ثرى عربى وكانت من الحلى الثمينة فلم يقبلها وأمر بإعادتها، وقال لصلاح الشاهد: فى إمكانى أن أصدر قرارا بمضاعفة مرتبى ولكنى لم أقم بالثورة من أجل مال ومجوهرات.. وأصر الثرى العربى على أن يقدم هدية يعبر بها عن حبه فنصحوه أن يقدم قلم حبر باركر فقط وتقبله عبدالناصر كى لا تحدث أزمة. وعند زواج ابنته هدى قدم أحد الوزراء هدية من الحلى فرفض عبد الناصر قبولها وأعادها إلى صاحبها، وقدمت ابنة أحد السفراء إلى هدى ساعة مرصعة فطلب من هدى أن تردها وتكتب لصاحبة الهدية خطاب شكر رقيق. وحدثت النكسة، وبالطبع فإن الزوجة لا تعرف أسباب النكسة، وفى يوم 9 يونيو 1967 بعد أن استمعت مع أولادها إلى خطاب التنحى علّق ابنها الأكبر خالد قائلاً: أحسن.. علشان بابا يستريح، ولم تمض دقائق حتى علا صوت الجماهير حول البيت، وبعد إذاعة بيان التنحى دخل عبد الناصر حجرته وخلع البدلة ولبس البيجامة ورقد على السرير. انسد الشارع، وتعذر الدخول للبيت، وحضر نواب الرئيس ووزراء وضباط كبار، منهم من كان يبكى، ويطلب الدخول على الرئيس فى حجرته. وكانت هى تدخل عليه وتخبره عمن يطلب مقابلته، وسمح لعدد قليل الدخول إلى حجرته، ثم قام وارتدى البدلة ونزل للدور الأول ومكث مع الحاضرين وقتا قصيرا ثم عاد إلى حجرته وأخذ قرصاً مهدئا وقال: سأنام.. فى الصباح كانت أصوات الجماهير والهتافات قد ازدادت، وفى الظهر وجدت فى الحديقة صفوفا من المقاعد والإذاعة والتليفزيون تعد تجهيزات ووجدت مذيعا فسألت: ما هذا؟ فقيل لها إن مجلس الأمة سيجتمع هنا.. فقالت فى نفسها: رأيت كثيرا من المواقف الغريبة فى حياتى وهاهى تختتم بمجلس الأمة فى البيت! وبينما هى فى المطبخ تعد طعاما لعبد الناصر دخلت عليها ابنتها - منى - وقالت: يا ماما.. أنور السادات - رئيس مجلس الأمة - يعلن فى التليفزيون أن بابا رجع رئيسا.. وعلمت أن أعضاء مجلس الأمة لم يتمكنوا من الوصول إلى بيت عبد الناصر لشدة الزحام فى الشوارع.. كل هذا وعبد الناصر فى حجرته لم يخرج منها.. كان راقدا فى السرير.. ولم تقل له شيئا.. فقد وجدته حزينا ثم تكرر ذلك وكان حزينا كما لم يحزن من قبل بعد انتحار صديقه عبد الحكيم عامر.. فى سنة 1968 شعر عبد الناصر بألم فى ساقه استمر لأشهر، ونصحه السفير محمد عوض القوتى بالعلاج بالمياه المعدنية فى الاتحاد السوفيتى.. وطلب منه الأطباء السوفييت الامتناع عن التدخين.. ولكنه عاد بعد العلاج ليعمل ليل نهار فى إعادة بناء القوات المسلحة، ومتابعة هجمات القوات الخاصة على قوات الاحتلال الإسرائيلية فى داخل سيناء.. وعلى مدى سنوات عمرها معه - كما تقول - لم تكن تتكلم معه فى السياسة أبدا.. ولا تتابع أحاديثه مع القادة وكبار المسئولين عن السلاح والحرب والسياسة.. وبينما كان عبد الناصر يستعد للسفر إلى الاتحاد السوفيتى فى أوائل سبتمبر 1969 قامت ثورة ليبيا فانشغل عبد الناصر بحضور القذافى وقادة الثورة للقائه، وبعد أيام فاجأته النوبة القلبية ونصحه الأطباء بالراحة فلم يخبرها وقال لها إن عنده أنفلونزا، وبعد أيام وجدت العمال يقومون بتركيب مصعد وسألت الدكتور الصاوى حبيب الطبيب الخاص فادعى أن هذا المصعد من أجل واحد من كبار الأطباء مريض بالقلب.. ولكنها أدركت الحقيقة ودخلت حجرتها لتبكى.. وبعد الجلطة لم يتوقف عبد الناصر عن المقابلات والاجتماعات إلى أن سافر إلى موسكو فى يناير 1970.. كانت حرب الاستنزاف على أشدها.. وكان يسافر كثيرا إلى الجبهة ويقضى هناك أياما.. وفى الصيف ظهرت نتيجة عبد الحكيم - أصغر أبنائه - ونجح فى السنة الثانية ثانوى وحصل على 84% وكان عبد الناصر قد وعده بتلبية طلبه إذا حصل على 80% وسأله ماذا تريد؟ فطلب أن يسافر إلى لندن لكن عبد الناصر قال له: لك إخوة فى الجبهة الآن فى الحر وأنت تذهب إلى لندن؟ إن شاء الله بعد خروج الإسرائيليين تسافر كما تشاء حتى لو طلبت أن تذهب إلى طوكيو..
بقية الحكايات فى مذكرات لم تنشر إلا مؤخراً لزوجة وهبت نفسها لزوجها ضابطا.. ورئيسا.. وعاشت بقية عمرها على ذكراه وكانت وصيتها الوحيدة أن تدفن إلى جانبه!