الإسلام بين نارين
 فى الفترة الأخيرة يلاحظ المراقب أن الرئيس حسنى مبارك كرر الحديث عن الحملات التى يتعرض لها الإسلام، والاتهامات الباطلة التى توجه إليه وإلى المؤمنين به، وقد ارتفع صوت الرئيس مبارك أكثر من مرة محذّراً من إلصاق تهمة الإرهاب بالعقيدة الإسلامية ذاتها لمجرد وجود بعض الإرهابيين المسلمين، فالإرهاب فى كل أنحاء العالم، والإرهابيون من جميع الديانات السماوية وغير السماوية، ولكن التهمة فى كل الأحوال لا تلقى على دين غير دين الإسلام، وهذا أمر محير..

ففى أول ديسمبر 2002 قال الرئيس مبارك إن البعض نجح- لسبب أو لآخر- فى استغلال أحداث معينة للإيحاء بوجود رابطة بين الإسلام والعرب من جهة، والإرهاب والتطرف من جهة أخرى، وهذا أسهم فى توجيه الحملة الدولية ضد الإرهاب لتشمل عدداً ليس بقليل من رعايا الدول العربية والإسلامية، كما أسهم فى تصعيد الشعور بالشك، وفى بعض الأحيان بالعداء، نحو الإسلام والمسلمين، وذلك الشعور أدى بدوره لاستنفار المشاعر العربية والإسلامية التى هبت للدفاع عن دينها، وعن عروبتها ضد هذه المشاعر والافتراءات الظالمة.

وقال الرئيس مبارك أيضا إن بعض قادة العالم أكدوا أن الحرب ضد الإرهاب ليست موجهة ضد العرب أو المسلمين، ولكننا شهدنا- مع الأسف- تصاعدا حادا فى اتجاه بعض رجال الفكر والدين فى دول أخرى نحو وصف العقيدة الإسلامية والمجتمعات العربية بأنها مناهضة للديمقراطية، ومقاومة للتحديث، ولا تتمشى مع الأنماط المتعارف عليها لحقوق الإنسان المعاصر وفقا للمفاهيم الغربية.

وقد وجه الرئيس مبارك اللوم إلى المسئولين فى الغرب لأن هذه الإساءات تمر دون إدانة منهم، ودون اتخاذ إجراء رادع من جانب أتباع الديانات الأخرى، بينما يحرص البعض على إدانة أى تصرف يصدر عن واحد من العرب أو المسلمين يتضمن شبهة- ولو من بعيد- بالمساس بالأديان الأخرى، وهذا أمر لا يمكن تفسيره بالجهل بقيمة الأديان والرسل، ولكنه قد يثير الشكوك حول الحرص على بناء جسور التواصل والتحاور بين الحضارات والمجتمعات.

***

هذه الإشارات القوية من الرئيس مبارك ما معناها..؟ معناها أن الهجوم على الإسلام والمسلمين والعرب فى الغرب وصل إلى درجة من العنف ينذر بالخطر، وهذا الشعور بالخطر وصل إلى قمة القيادة السياسية. خاصة مع ما يتعرض له المواطنون العرب والمسلمون من مضايقات فى بعض الدول الغربية، وصلت إلى حد إخضاعهم لتشريعات خاصة تحد من دخولهم لأراضيها، وتقيد تنقلهم فيها، وتخضعهم لقوانين خاصة توسع من دائرة الاشتباه والشك فيهم، وإلى حد التهكم على الزى العربى الإسلامى، والتقاليد العربية الإسلامية، ولمحاولة البعض السعى إلى زرع بذور الشقاق والخلاف بين الشيعة والسنة بهدف زرع الفتن والقلاقل الداخلية فى الدول العربية والإسلامية، إلى غير ذلك من الممارسات التى تسىء إســاءة بالغـــة للعـــــلاقات بين الأديان وبين الشعوب.!

وكانت رسالة مبارك للعالم بعد هذا التحليل الصريح للموقف من الإسلام فى الغرب..  أن ظاهرة العنف والإرهاب التى انتشرت على مستوى العالم فى الفترة الأخيرة ليست لها علاقة بالديانة الإسلامية، أو بالانتماء العربى على وجه التحديد، وإنما تشعلها مشاعر الظلم، والإحباط، واليأس، التى سببتها مشكلات سياسية مستعصية، لم يبذل المجتمع الدولى الجهد الكافى لتسويتها، أو حاول تسويتها بحلول غير عادلة ولا تراعى المساواة، والعدل والمساواة وهما من المبادئ التى تقوم عليها شريعة الإسلام.

وفى تشخيص الرئيس مبارك للأسباب التى أدت إلى انتشار الشعور بالظلم والإحباط واليأس بين العرب والمسلمين، ذكر المشكلات الاقتصادية التى تزداد فى العالم العربى والإسلامى والتى يقابلها من الدول الغنية فتور فى الرغبة فى التعاون الدولى، وكانت النتيجة أن الفقير أصبح أكثر فقرا، والغنى أكثر غنى، وازداد فى الدول الغنية التجاهل للقيم الإنسانية التى يقوم عليها الدين الإسلامى من التكافل والتراحم، وعدم اعتبار لما يتركه التفاوت فى الغنى والفقر فى النفوس. ويضاف إلى ذلك تناسى أن احتلال أرض الغير وامتهان كرامتهم وإذلالهم ورفض إعطائهم فرصة تقرير مصيرهم، لن يؤدى إلا إلى الرغبة فى الانتقام، وستنتقل هذه الرغبة من مكان إلى مكان، ومن جيل إلى جيل، وعلى ذلك فليس هناك سبيل لوقف العنف، بغض النظر عن ديانة مرتكبيه، وأصلهم العرقى، أو العقائدى، سوى التوصل إلى حلول عادلة وشاملة للقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وينطبق ذلك- أول ما ينطبق- على الوضع فى الشرق الأوسط.

هذه هى رؤية الرئيس مبارك لموقف الغرب من العرب، ومن الإسلام، ومن المسلمين، وهذا هو التحليل الذى شرح فيه أبعاد ظاهرة العنف والإرهاب الذى أصبح يهدد العالم، والعوامل الحقيقية التى أدت إلى ظهور وانتشار هذا الإرهاب، ثم هكذا وصل الرئيس مبارك إلى الحل إذا كانت دول الغرب الغنية القوية تريد الحل، ولا تريد إشعال نار الغضب والإحباط والإحساس بالظلم أكثر وأكثر.

وكانت هذه رسالة مبارك إلى العالم فى ليلة القدر.. الليلة التى تتفتح فيها قلوب المسلمين بالصفاء والحب.. وتسود فيها أجواء العبادة والروحانية.. ويرفع فيها المسلمون أيديهم إلى السماء طالبين من الله أن يسود الأرض السلام والعدل.. ويمد فيها المسلمون أيديهم بالسلام إلى جميع البشر ..

وهذه الرسالة.. فى هذا الوقت.. وبهذا الأسلوب.. لها معناها.. ومغزاها.. وكان ينبغى أن تجد تجاوبا سريعا من ذوى العقول الحكيمة فى الغرب لتطويق نيران الغضب المشتعلة فى الغرب والشرق معا.

***

وجاءت الرسالة الثانية من الرئيس حسنى مبارك يوم 23 يناير 2003 وقال فيها: إن العالم أصبح يختلف عما قبل، ليس فقط نتيجة للثورة المعرفية والتكنولوجية، ولكن أيضا بسبب ما طرأ على الساحة الدولية من متغيرات سياسية تؤثر على الحوار الثقافى بين الشعوب، وتضع الشكوك فى النوايا محل التقاء الرؤى، فتزيد من حدة الصراعات السياسية والاقتصادية بدلاً من أن تذيب الفوارق بين وجهات النظر، حتى أصبح هاجس الهيمنة الثقافية هو السائد بين الشعوب.

وجاء فى رسالة مبارك تنبيه إلى خطورة الحملة المستترة ضد العرب والمسلمين التى يتم تغليفها بغلاف الحرب الدولية ضد الإرهاب تارة، وبغلاف الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان تارة أخرى، واقترنت هذه الحملة بمواقف مسبقة، ومعايير مزدوجة فى التعامل مع قضايا محورية ورئيسية أولها قضية السلام فى الشرق الأوسط، وقضية التحقق من أسلحة الدمار الشامل فى العراق، وبمحاولات خارجية لفرض أنماط ثقافية واجتماعية لا تتفق مع خصوصيتنا الثقافية والدينية وعاداتنا المتوارثة عبر الأجيال.

وهكذا وجه مبارك إلى العالم مرة أخرى كلمات عبّر بها عما فى ضمائر وقلوب المسلمين والعرب.. وكان المفروض أن تجد من حكماء وعقلاء الدول الغربية تفهما، وتجاوبا لنزع فتيل الأزمة.. لكن ذلك لم يحدث حتى الآن.. مما يدل على أن فى الغرب سبق الإصرار والترصد.

***

ثم كانت الرسالة الثالثة من مبارك بعد يومين فقط- أى يوم 25 يناير 2003- وذكر فيها أننا شاركنا ونشارك فى الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب، ولكن مكافحة الإرهاب لن تكتمل إلا بالتعرف على أسباب الإرهاب، والقضاء على هذه الأسباب من جذورها، ثم أشار إلى ما يطرح من أفكار ومبادرات لإدخال تغييرات فى الأسس السياسية والاقتصادية فى الدول العربية.. ومعظم هذه المبادرات والأفكار صدرت من منطلق حكم مسبق أصدره البعض يدعى مسئولية المجتمعات العربية والإسلامية عن قوى التطرف والإرهاب، وأن ذلك راجع إلى بعض المعتقدات الدينية، وإلى تخلف مزعوم للشعوب العربية والإسلامية دون غيرها من شعوب العالم. بينما التطرف والإرهاب فى العالم لا يرجع إلى طبيعة العرب والمسلمين، ولكن يرجع إلى مشاعر الإحباط التى تشعر بها الشعوب من مختلف الديانات وفى بقاع مختلفة من العالم.. بسبب غياب معايير العدالة والمساواة فى التعامل مع قضاياها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ونحن لا نحتاج إلى من يذكّرنا بقضية الإصلاح، وقد قطعنا فيها شوطا راعينا فيه الخصوصية الثقافية والدينية والحضارية لشعبنا العربى المسلم.. فلا نحتاج إلى من يحدثنا عن الإصلاح.. ولكن نحتاج إلى القضاء على المعايير المزدوجة فى التعامل مع القضايا المصيرية للشعوب، ونحتاج إلى توفير المناخ السياسى والاقتصادى المناسبين للاستمرار فى جهود الإصلاح الذاتية، وعدم الانسياق وراء دعاوى مضللة هدفها التغطية على استمرار الاحتلال الإسرائيلى للأراضى العربية، وعلى الممارسات الاستفزازية والتعسفية ضد الشعوب استنادا إلى الأصل العرقى، أو الدينى.

وهل يتفق ما يحدث فى أمريكا ودول أوربا مع ما يطالبوننا به بالارتقاء بمستوى حقوق الإنسان وبالحريات الأساسية فى العالمين العربى والإسلامى؟ هل يتفق هذا مع ما تفرضه دول الغرب- وأمريكا بالذات- من تقييد دخول العرب والمسلمين إلى أراضيها، والحد من حركتهم فيها، وإخضاعهم لإجراءات غير عادية من تسجيل ومراقبة، بل تعرضهم للحبس، وللخضوع لمحاكمات استثنائية؟.. أليس من الطبيعى أن تثير هذه الإجراءات التساؤلات عن الحدود بين الاعتبارات الأمنية المشروعة، واحترام حقوق الإنسان دون تمييز؟، ويزيد من الضرر أن تلك الممارسات تأتى تحت مظلة الحملة الدولية ضد الإرهاب، وتتزامن مع التدهور الشديد فى أوضاع الأراضى الفلسطينية المحتلة، وغياب أى مجهودات حقيقية للتوصل إلى تسوية سياسية شاملة!.

رسالة مبارك للغرب أن يتفهم حقيقة الإسلام، وحقيقة مشاعر وحقوق المسلمين.. ورسالته إلى المسلمين: لا ينبغى أن نجعل هذه الممارسات الظالمة تؤثر على القيم الإسلامية الرفيعة بالعدل والمساواة، أو على حمايتنا لحقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية، وفى نفس الوقت يجب أن نسعى لتوضيح الوجه الحضارى للأمة العربية والإسلامية..

ولا أظن أن هناك حاجة إلى شرح.. لأن رسائل الرئيس مبارك كانت واضحة.. ومباشرة.. وصريحة.. لكى تصل إلى عقول عليها إقفالها!

***

ولا أظن أن أحدا يصدق أنه ليست هناك حرب على الإسلام والمسلمين.. من الغرب.. ومن إسرائيل.!

الغربيون أنفسهم يعترفون بأن الغرب فقد ميزان العدل، وأصبح ميالا إلى استعادة الروح الاستعمارية القديمة تجاه الشعوب العربية والإسلامية. وقد تلقيت من الباحث المصرى بجامعة زيورخ فى سويسرا الدكتور ثابت عيد ترجمة عن الألمانية لدراسة باحث سويسرى هو فيكتور كوخر بعنوان: (أزمة القيم فى السياسة الغربية تجاه الشرق الأوسط: أصدقاء الديمقراطية هم أعداء المسلمين!)، ويقول ثابت عيد إنه وجد فى دراسة هذا الكاتب الألمانى نوعا من النقد الذاتى.

يقول فيكتور كوخر فى مقدمة الدراسة إن المسلمين أصبحوا ينظرون إلى بعض القيم الأساسية للسياسة الغربية فى الشرق الأوسط على أنها أدوات بطش لسياسة هيمنة عدائية، مثل الديمقراطية، وعملية السلام فالغرب يدعم الكثير من الأنظمة غير الديمقراطية فى العالم، وعملية السلام كما يريد أن يفرضها الغرب تخدم مصالح إسرائيل يتضح ذلك يوما بعد يوم، ومن حق العرب والمسلمين أن يعتبروا ذلك ظلما لهم من الغرب. والخبراء فى الشرق الأوسط يرون أن التطرف والعنف باسم الإسلام فى تراجع مستمر، بينما يسود الإسلام المعتدل والمسالم. ولكن سلوك الغرب لم يكن منصفا، ففى أعقاب حرب الخليج الثانية وبعد تحرير الكويت قدم الرئيس جورج بوش الأب مبادرة فى نوفمبر 1991 تمثلت فى مؤتمر مدريد وقالت الولايات المتحدة إن مدريد هى الطريق الذى سيؤدى إلى السلام العادل والشامل، وفقاً لمبدأ مبادلة السلام بالأرض، وفى السنوات الست التالية تنازل ياسر عرفات- رئيس منظمة التحرير الفلسطينية- باسم شعبه، رسميا، عن ثلاثة أرباع أرض فلسطين التاريخية، وقبل وجود المستوطنات اليهودية فى البقية المحتلة من وطنه، وتعهد بالعمل على تحقيق الأمن لإسرائيل، وفى مقابل ذلك حصل على الحكم الذاتى فى 84% من قطاع غزة، و6% من الضفة الغربية، وإدارة مدنية للشعب الفلسطينى فى هذه المناطق، ووقع الملك حسين عاهل الأردن اتفاقية سلام مع إسرائيل، وقبل تأجير المناطق المتنازع عليها فى غور الأردن لإسرائيل، وبقيت الجولان السورية وجزء من الجنوب اللبنانى تحت الاحتلال الإسرائيلى.. وهذا ليس الحل العادل أو الشامل الذى تلقى العرب الوعود بهما من أمريكا، ومع ذلك فإن أمريكا ليس لديها سوى مطالبة جميع الدول العربية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل فورا، ولا يجد الفلسطينيون من أمريكا سوى مطالبتهم بتوفير الأمن لإسرائيل مائة فى المائة، أربعا وعشرين ساعة يوميا، سبعة أيام أسبوعيا، ولا تتوقف أمريكا ولا تكل من توجيه النقد يوميا للجماعات والقوى الرافضة للموقف الأمريكى.

يقول الباحث السويسرى: لقد أصبح تفاوت معاملة أمريكا للعرب وإسرائيل واضحا بصورة لا تقبل الالتباس، ولذلك يبدو ما تطلق عليه أمريكا (السلام فى الشرق الأوسط) مجرد نظام مصمم خصيصا لخدمة مصالح إسرائيل، وتعمل أمريكا بكل قوتها على فرضه فرضا على دول المنطقة.. فماذا يبقى للناشطين المسلمين لكى يجعلهم يلتزمون بقواعد اللعبة الديمقراطية والتخلى عن العنف؟ وماذا يقنع المسلمين العاديين بعكس ما فى نفوسهم من رفض لسياسات أمريكا، وشعورهم بأنهم يجب ألا يعتمدوا على أمريكا لتحقيق العدل والسلام، بالرغم من أن الحكام لهم مواقف أخرى؟

ويقول الباحث السويسرى إن الإسلام يمكن تفسيره على أنه دعوة لتحريم العنف من أجل الوصول إلى الحق والعدالة، لأن المسلم يجب أن يؤمن بحتمية انتصار العدالة فى نهاية الأمر، ويمكن تفسير الإسلام بنفس الدرجة تقريبا على أنه دين يرفض الظلم ويدعو إلى مقاومة الظالمين وعدم الاستسلام لهم! وهذا ما يجعل الموقف الأمريكى مسئولا عن ظهور وتزايد ونمو الجماعات المتطرفة التى تتقبل الموت وأحكام الإعدام.

ويرى الباحث السويسرى أن الإسلام يتبلور فى الدول الإسلامية بالتدريج ليكون (هوية حضارية) و(مرجعية أخلاقية وروحانية) وفى نفس الوقت هناك تيارات ترفع شعارات الإسلام للترويج لبرامجها السياسية.

وهذه على العموم رؤية من الغرب تقترب من إدراك الحقيقة، وهى أن الغرب هو المسئول عن وجود الإرهاب فى العالم الإسلامى، لأن الغرب يتعامل مع العالم الإسلامى كأنه قطيع بلا عقل ولا إحساس ولا مصالح، وهذا الإهمال، بل هذه الاستهانة بالمسلمين، لابد أن يكون لها رد فعل، وبما أن الغرب هو القوى والمسلمين فى حالة ضعف، والغرب يشن الحروب المسلحة ولا تملك الدول الإسلامية القدرة على الرد، فإن الإرهاب هو المقاومة المتاحة للضعيف للنيل من القوى، ولو كان القوى يحكم بالعدل فإن أسباب وجود الإرهاب سوف تختفى ويختفى بذلك الإرهاب ذاته. والدليل على ذلك أن الإرهاب باسم الإسلام لم يظهر إلا عندما ظهرت النوايا العدوانية للغرب تجاه العالم الإسلامى، وقبل ذلك كان التعايش بين الغرب والإسلام قائما ولا تشوبه شائبة.

المشكلة أن الغرب يريد أن يمارس القمع والاستغلال والظلم على العالم الإسلامى، ولا يريد أن يكون لذلك رد فعل.. وهذا أمر يتعارض مع قانون الطبيعة الحتمى الذى يقول: إن كل فعل له رد فعل مساو له فى القوة ومضاد له فى الاتجاه، وهذا القانون الطبيـعى يتعلمه التــلاميذ فى المـدارس، ولكــن بعض حكــام الغــرب يتجاهلـونه أو لا يذكرونه.. والقوة تعمى العيون والقلوب فى كثير من الأحوال.!

***

وليس غريبا أن تظهر عند بعض المسلمين أعراض مرض نفسى معروف يسميه علماء النفس (العدوان المرتد). ويظهر ذلك عندما يجد الإنسان نفسه محاصرا ومظلوما ولا يستطيع أخذ حقه، أو يجد نفسه ضعيفاً ولا يستطيع أن ينتقم من الظالم، أو يجد أمامه عقبات تحول دون وصول صوته إلى الظالم، أو يجد من الظالم أذنا صماء، فى مثل هذه الحالات هناك نوعان من الناس: نوع يندفع للانتقام من الظلم ويوجه إليه العدوان، ونوع يتقوقع فيوجه العدوان إلى نفسه.. يضرب نفسه.. يخبط رأسه فى الحائط.. ينتحر.. يفجر نفسه.. يلوم نفسه ويعتبر نفسه المسئول عن الحالة المتدهورة التى وصل إليها.. وهذا هو (العدوان المرتد).

من ذلك مثلاً مقال غريب كتبته مسلمة اسمها منى التهاوى فى صحيفة واشنطن بوست يوم 11 يناير 2002 بعنوان (المسلمون بحاجة إلى يقظة الضمير) قالت فيه: أنا امرأة مسلمة، وقد صدمت عقيدتى الإسلامية هجمات الإرهاب فى 11 سبتمبر، وأنا أشعر بالغضب والخزى لأن المسلمين سوف يبقون فى ذاكرة العالم مخلدين بمثل هذا العار. ولكن شعورى بالغضب والخزى وحده لا يكفى، فنحن المسلمين يجب أن نسأل أنفسنا كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ فقد فاتنا أن نقوم بفحص أفكارنا، ودوافعنا، ومشاعرنا، ونحن نطالب حكومة الولايات المتحدة باستمرار بإعادة النظر فى سياستها، وسمعنا مرارا عن قائمة الحكام الذين يحكمون بنظم دكتاتورية فى دول إسلامية، ولم يرتفع صوت المسلمين المعتدلين الأحرار بالتعبير عن رأيهم بحرية، ودون تردد أو خوف، لرفض هذه النظم، وقد أصاب المسلمين الخرس وطال بهم الخضوع للصمت.. وإننى ألقى اللوم على المسلمين لأنهم المسئولون عن الوضع السيىء الذى وصلوا إليه، كما ألقى اللوم على رجال الدين، وأعترف بأنى وصلت إلى اليأس منهم منذ وقت طويل، فلم يعد كافيا أن يقوموا بإلقاء تلك الخطب البالية عن الإسلام دين السلام، وأين كان رجال الدين الإسلامى عندما تعهد أسامة بن لادن وأتباعه الإرهابيون باستهداف كل رجل وامرأة وطفل أمريكى؟.

وقالت منى التهاوى، وواضح أنها تكسب كثيرا مما تقول: علينا أن ننظر فى داخلنا، ونسأل أنفسنا- نحن المسلمين- ماذا فى الإسلام ينتج الإرهابيين من أمثال أسامة بن لادن، بدلاً من الحديث الذى أصابنى بالملل من إلقاء اللوم بصفة مستمرة على المؤامرة الغربية واعتبارها السبب فى كل ما يعيش فيه المسلمون من متاعب وعجز وضعف، بينما يجب أن نتأمل أنفسنا وأحوالنا وما فى عقولنا، ونفعل ذلك علانية ونعلن الحقيقة بصوت عال، ولا نخجل من التساؤل بصوت يسمعه العالم: لماذا تدهور العالم الإسلامى، ولماذا يعيش على الماضى حين كانت لهم امبراطورية إسلامية من المغرب إلى الصين، وقدمت للعالم أسس التقدم، وكانت للمرأة فى المجتمع الإسلامى الأول حقوق أكثر مما للمرأة فى أى دين آخر أو أى نظام اجتماعى آخر فى العصور القديمة.. وكل هذا صحيح، ولكنه كان فى الماضى، ولم يعد شيء من ذلك موجودا فى العالم الإسلامى فى الوقت الحاضر.. فأنا من مصر، بلد الأهرامات العظيمة، وعندما كنت أعيش فى القاهرة كنت أزهو فخرا بهذه المبانى، ولكن كان هذا الفخر يمتزج دائماً بالحزن لأن عظمتها تذكرنى بما كانت عليه مصر فى وقت ما فى الماضى البعيد. ومنذ عشر سنوات مررت بأزمة فى عقيدتى الإسلامية، وجعلتنى هذه الأزمة أدرك مدى الجهد الذى يجب أن أبذله لكى أظل محتفظة بعقيدتى ولتكون هذه العقيدة قابلة للتطور وليست جامدة، وعدت إلى العلماء المسلمين الذين يعيدون تفسير الإسلام بعيون وعقول حديثة ولديهم الجرأة على إعلان ضرورة (إصلاح) عقائد المسلمين. ومن هؤلاء عبد الله نعيم أستاذ القانون بجامعة إمورى فى أتلانتا، وقد قرأت كتابه (نحو إصلاح إسلامى: الحريات المدنية وحقوق الإنسان) وكتبت إليه أسأله النصيحة فرد على أنه كان على وشك الإشراف على برنامج جديد يتضمن مساندة تسعة شبان للعمل فى مجال تعزيز حقوق الإنسان بمنظور إسلامى فى مجتمعاتهم الإسلامية لمدة ثلاث سنوات.

وقالت منى التهاوى فى مقالها: نحن المسلمين فى أمريكا محظوظون، لأننا نتمتع بحرية الكلام دون خوف من أن تتعرض أرواحنا للخطر، وكتاب عبد الله نعيم يقدم بحرية أفكار القاضى السودانى المسلم محمود محمد طه الذى أعدمته الحكومة السودانية فى يناير 1985، ولأن الحرية الدينية فى أمريكا مكفولة فقد أثرت فى الكنيسة الكاثوليكية، وقد أخبرنى بعض أصدقائى اليهود الأمريكيين أن عقيدتهم الدينية تطورت فى أمريكا، وأدى ذلك إلى ظهور حركة لإعادة تفسير النصوص، والمسلمون فى أمريكا لديهم فرصة للاستفادة من مناخ الحرية لإعادة تفسير النصوص أيضا، ويمكنهم فتح الطريق أمام الأمة الإسلامية للتطور.

تصوروا: إن تطور الفكر الإسلامى فى الاتجاه الرشيد لا يمكن أن يصدر إلا من أمريكا..!

هكذا أصبح بعض المسلمين يشاركون فى الحملة على العالم الإسلامى بفكر أمريكى وبالترويج لأن نأخذ عقائدنا من أمريكا.. وكأن ما ينقصنا هو أن نستورد شيوخ وعلماء ومفسرى الإسلام من أمريكا.. والبقية تأتى!

***

والحديث عن الإسلام فى الغرب ملىء بالاتهامات والتشويه.

فى بريطانيا صدر عام 2002 كتاب بعنوان (الإعلام عن الإسلام: صورة الإسلام والمسلمين فى الإعلام البريطانى) من تأليف إليزابيث بوول، وهو عبارة عن بحث ميدانى أكاديمى استغرق عدة سنوات، ورصدت فيه المؤلفة ما نشر حول القضايا الإسلامية على مدى هذه السنوات فى أهم الصحف البريطانية الرصينة وهما (التايمز) و(الجارديان) وأضافت فصلا لتحليل تغطية الصحف البريطانية للإسلام بعد أحداث 11 سبتمبر.

الجزء الأول من الكتاب بعنوان (رؤية الإسلام) وفيه تحليل للخطاب السائد فى الإعلام البريطانى عن المسلمين، أما الجزء الثانى فإنه يشمل نتائج الدراسة بالإحصاءات، والجزء الثالث عن الإسلام البريطانى، وتتحدث فيه عن خصوصية الإسلام والمسلمين فى بريطانيا والعوامل التى أدت إلى هذه الخصوصية، والجزء الرابع عن تفسير الإسلام وتتحدث فيه عن التفسيرات المشوشة والمتناقضة للمفاهيم والمبادئ الإسلامية فى الإعلام البريطانى.

تقول الباحثة إن الأفواج الأولى من المسلمين وصلت إلى بريطانيا منذ 300 سنة تقريباً، وكانت قادمة من اليمن، ومن دول آسيوية، ودول البحر الكاريبى، أى من دول المستعمرات البريطانية، وأصبح عدد المسلمين البريطانيين اليوم حوالى مليون ونصف المليون وهذا التقدير غير دقيق لعدم وجود إحصائيات رسمية لأصحاب الديانات فى بريطانيا. ومعظم المسلمين البريطانيين الآن من آسيا، ويقدر عدد المسلمين العرب فى حدود 250 ألفا إلى 400 ألف مسلم، والوضع السياسى والاجتماعى للمسلمين البريطانيين عموما ضعيف إذا قورن بتأثير الجالية اليهودية التى يبلغ عددها ربع مليون فقط لكن تأثيرها يصل إلى جميع المجالات من الأحزاب السياسية، إلى الحكومة، والبرلمان، والإعلام، والاقتصاد.!

وبشكل عام ينتمى المسلمون البريطانيون إلى الطبقة الوسطى والطبقة الدنيا، وإن كان منهم من يعمل فى الاقتصاد والاستثمار، ومنهم عدد من الخبراء والأطباء وذوى المؤهلات العالية، ولكن الأزمة التى يواجهها المسلمون البريطانيون هى عدم المساواة وتدنى مستوى معيشة معظمهم.

وتقول إليزابيث بوول: إن الخطاب الاستشراقى ما زال مؤثراً بقوة وظاهرا فى اللغة الإعلامية البريطانية، وتؤثر فى الإعلام الآراء والمواقف الجاهزة المسبقة تجاه المسلمين والثقافة الإسلامية، ويتحدث الكتّاب البريطانيون دائماً عن القمع الأبوى فى المجتمعات الإسلامية، وقمع السلطة، وتحكم الرجل فى المرأة، وتعدد الزوجات، واستبداد الحكومات وعدم توافق الإسلام والمسلمين مع المفاهيم السياسية والثقافية الحديثة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكانت بعض الجهود قد ظهرت لتعديل فهم البريطانيين للإسلام والمسلمين، ولكن جاءت أحداث 11 سبتمبر فقطعت الطريق على ذلك التقدم الطفيف، وتشير الباحثة إلى الإرث التاريخى السلبى تجاه الإسلام والمسلمين منذ الصراعات القديمة بين دول الغرب والعالم الإسلامى، وتقول إن العقود الأخيرة وقعت فيها أحداث أدت إلى إحياء هذه الخلفية ودعمت الصورة العدائية المتبادلة، مثل أزمة البترول فى السبعينات فى القرن العشرين، والحظر الذى فرضه العرب على الغرب فصار العربى والمسلم يظهر فى صورة برميل نفط، أو غبى متهالك على النساء ويلهو باستهتار بالثروة التى يملكها، ثم جاءت أزمة الرهائن فى السفارة الأمريكية فى إيران بعد قيام الثورة الإسلامية بزعامة خومينى، وظهرت بعدها عمليات العنف والإرهاب منسوبة إلى جماعات إسلامية، ثم قضية سلمان رشدى، وغير ذلك مما كان للمسلمين البريطانيين علاقة مباشرة به، أو تأثير كبير فى تداعياته، وتأثر الخطاب الإعلامى فى بريطانيا بهذه الأحداث كما تأثر بشكل عام بالسياسة البريطانية تجاه العالم الإسلامى.

وتلاحظ الباحثة البريطانية غياب الحديث فى الصحافة البريطانية عن موقف المسلمين البريطانيين من القضايا الإسلامية الخارجية مثل قضية كشمير التى تعتبر قضية مركزية لمسلمى شبه القارة الهندية وتحرك عواطفهم تجاه هذه المنطقة خارج الحدود البريطانية، وهذا ما تستخدمه بعض الأقلام للطعن فى ولاء وانتماء المسلمين البريطانيين لبريطانيا، وكذلك بالنسبة للقضية الفلسطينية، وارتباط المسلمين البريطانيين بالنسبة لها بوجهة النظر العربية أكثر من ارتباطهم بوجهة النظر البريطانية فيها.

***

ويتحدث الكتّاب عن ظاهرة (الاسلاموفوبيا)- أى مرض الخوف من الإسلام- فى أكثر من موضع، ويشرح كيف أن الإعلام البريطانى ينفخ فيها، ويبحث عن عوامل الإثارة فى الأحداث التى يكون مسلم طرفا فيها، وتلاحظ الباحثة انحدار المعايير المهنية ومستوى الدقة فى النشر، والميل إلى تضخيم الأخبار الهامشية المسيئة للإسلام والمسلمين، وإعطاء أهمية مبالغ فيها لأشخاص ومنظمات لا تمثل التيار السائد بين المسلمين، ولكن نظرا لأن هؤلاء الأشخاص وهذه المنظمات متطرفة وأحيانا ذات فكر أو سلوك غريب، فإن الحديث السلبى عنها ينتشر انتشارا كاسحا، بما يوحى بأن هذا هو الإسلام، وهؤلاء هم الذين يمثلون المسلمين.

وتنقل المؤلفة صورا وتعليقات محبطة ومخيفة عن التغطية الإعلامية لرموز إسلامية ولشخصيات متطرفة وتمثل التعصب ويعيشون فى بريطانيا مثل أبو حمزة المصرى، وعمر بكرى، وأمثالهما، وكيف يعمل هؤلاء على تعميق الفكرة العدائية للمسلمين فى الغرب عموما وفى بريطانيا بوجه خاص، ولا تشير الصحافة ولا يشير التليفزيون إلى الأغلبية المعتدلة الصامتة من المسلمين البريطانيين، وحتى هؤلاء المعتدلون أنفسهم لا يقومون بدور لتصحيح الصورة المشوهة التى يتم تعميمها عن الإسلام والمسلمين.

وتشير المؤلفة إلى أن معظم القضايا التى ارتفع فيها صوت المسلمين البريطانيين زادت من تشويه صورتهم وصورة الإسلام لدى الرأى العام البريطانى، مثل قضية سلمان رشدى وروايته (آيات شيطانية)، فقد خرج المسلمون البريطانيون إلى الشوارع فى الثمانينات من القرن العشرين يطالبون بقتل سلمان رشدى بسبب روايته، وهذا شىء لا يمكن استيعابه فى مجتمع غربى غير متدين أصلا، كذلك كان موقف الإعلام من قضية النائب العمالى المسلم عن اسكتلاندا محمد سروار الذى اتهم برشوة منافس له لكى ينسحب من المعركة الانتخابية لكى يضمن الفوز فى انتخابات 1997، فقد تعامل الإعلام البريطانى مع تلك القضية بشكل مبالغ فيه ونسب الانحراف إلى الإسلام وإلى المسلمين فى عمومهم، وبالتالى انعكست آثار هذه القضية على المسلمين البريطانيين انعكاسا سيئا.

وينتهى الكتاب إلى أن صورة الإسلام فى الإعلام البريطانى مشوهة وسلبية، تعزز النمط السائد وقليلا ما تخرج عنه، وذلك لسهولة تكرار ما يقال عادة، ولوجود أحداث فى العالم الإسلامى تترك آثارا سيئة فى العقل الغربى عموما، مثل قتل السياح، أو اختطاف رهائن غربيين فى دول إسلامية على أيدى جماعات متطرفة.

وإن كان المجتمع البريطانى لا يخلو من أصوات تتعاطف مع المسلمين وقضاياهم، ولكنها أصوات قليلة، ومع أنها بدأت تبرز أكثر وأكثر فى السنوات الأخيرة، إلا أنها مازالت قليلة، وغير مؤثرة، والتيار العام السائد متشكك من المسلمين ولا يرتاح إليهم، كما تقول المؤلفة.

وإذا كانت هذه السلبيات، والصور النمطية المشوهة، سائدة فى أهم وأكثر الصحف البريطانية اعتدالاً واحتراماً، إحداهما محافظة وهى صحيفة التايمز، والثانية ليبرالية وهى الجارديان، وقراء الصحيفتين من النخبة المثقفة المشتغلة أو المهتمة بالسياسة، فماذا يمكن أن تنشر الصحف الشعبية التى توزع عشرات أضعاف ما توزعه الصحف الرصينة وتمتلئ بالإثارة وتغذية العداء ولا تهتم بتحرى الحقائق أو تفرق بين حادث إرهابى لا يمكن أن ينسب إلا لمن ارتكبوه، وبين عموم المسلمين فى العالم والإسلام كعقيدة.. وهذا ما يحدث أيضا فى التليفزيون فالتغطية لا تختلف عن تغطية الصحف الشعبية والصحافة الصفراء، كما تقول المؤلفة أيضا.. والتليفزيون طبعا أكثر انتشارا وتأثيرا.

***

لهذا نقول إن رسائل مبارك إلى العالم الغربى عن الإسلام والمسلمين شديدة الأهمية فى هذا الوقت بالذات.. فهى تمثل صوت الإسلام المعتدل الذى يمد يده بالسلام والتعاون لكل البشر دون تفرقة بسبب الجنس أو اللون أو الدين.. فكلهم لآدم.. خلقهم الله جميعا.. وجعل الاختلاف بينهم لحكمة هى أن يتعارفوا ويتعاونوا.. لا لكى يتقاتلوا ويتبادلوا العداء والكراهية.

ولكن: هل يجد صوت الإسلام المعتدل آذانا صاغية فى الغرب أم على قلوب أقفالها؟. أو أن الاتهام مبيت ليكون ذريعة للعدوان من الغرب ومن إسرائيل معا وفى وقت واحد!..ولأهداف أخرى لا علاقة لها بالعقائد والأديان؟!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف