يــوم ثـــورة 23 يوليـــــو فـــى بـيــت عبد الناصــر
كثيرون كتبوا عن أحداث ثورة 23 يوليو 1952، وكثيرون قدموا أدوارهم فيها بأكبر من الحقيقة إلا هذه السيدة.. تحية كاظم زوجة عبد الناصر التى كانت معه يوما بيوم خلال سنوات الإعداد للثورة، ولم تذكر شيئا عما كان يجرى فى البيت الذى كان مقرا لقيادة الثورة فى مرحلة الإعداد، وأخيرا كتبت ذكرياتها عن هذه الأيام ولم تذكر لنفسها أى دور مع أنها هى التى كانت تدرك - بشعور شريكة الحياة - لماذا كان يخرج كل يوم فى الليل ويعود فى الفجر، وترى الأسلحة التى كان يحضرها إلى البيت فتتولى إخفاءها دون أن تسأل، وتراه يحضر آلة كاتبة ويجلس لكتابة المنشورات عليها فتتولى إخفاءها بعد أن ينتهى، وتفتح الباب للطارق فيسلمها مظروفا ضخما تدرك أن فيه منشورات الضباط الأحرار بعد طباعتها.
وتتوالى الأحداث فتتسلم المظروف وتخفيه إلى أن يأتى عبد الناصر وتخرج معه ليتوقف أمام صناديق البريد ويضع فيها خطابات كثيرة تدرك أنها منشورات ولا تعلق، ويجتمع كل ليلة مع أعداد من الضباط فى حجرة الصالون، وتدرك أنهم يخططون للقيام بشىء خطير يتحدثون عنه همسا فتكتفى بإعداد الغداء أو العشاء والشاى والقهوة للضيوف ولم تتفوه بكلمة عن كل ذلك لأقرب الناس إليها.. أليست بذلك هى الشريكة المجهولة فى ثورة 23 يوليو 1952؟
أيام و(ليالى) بدون نوم
ولأول مرة نعرف ماذا كان يحدث فى بيت عبد الناصر ليلة الثورة وما بعدها من ذكرياتها التى نشرت فى كتاب صدر منذ أيام. وهكذا تحكى السيدة تحية - الزوجة العظيمة: فى الساعة السابعة صباح يوم 22 يوليو- كان عبد الناصر يجلس فى حجرة السفرة يستكمل إعداد الأوراق التى قضى الليل بطوله فى العمل لإنجازها فى صورتها النهائية، ولم ينم لحظة واحدة، ثم لبس ملابسه العسكرية وتناول معها الإفطار وخرج.. وعاد عند الظهر ومعه عدد من الضباط وتناولوا الغداء معا وجلسوا يتناقشون وخرج معهم.. ثم عاد إلى البيت وجلس يتكلم مع أولاده ويلاطفهم ويقبلهم بحرارة وخرج بملابس مدنية بالقميص والبنطلون ورجع الساعة الحادية عشرة مساء وارتدى البدلة العسكرية وحين سألته: أنت رايح فين؟ أجابها بهدوء إنه لم يكمل تصحيح أوراق امتحانات كلية أركان حرب ويجب أن ينتهى من تصحيحها لتكون جاهزة غدا.. ولا أرجع إلى البيت الليلة.
وانتظرينى غدا على الغداء وكان فى الصالة ضابط ينتظره - لا تعرف من هو- وخرجا معا وظنت أن جمال اعتقل وأن الضابط الذى كان ينتظره كان مكلفا باعتقاله، ومعها حق، فالبيت مقلوب منذ أيام والضباط فى البيت والسهر معهم حتى الصباح ولابد أن رئيس الوزراء الجديد نجيب الهلالى الذى عين منذ يومين اعتقله، وله سابقة عندما جاء ضابط وأخذه إلى رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادى واستجوبه بنفسه وطلب منه تسليم الأسلحة التى كان يحتفظ بها فى البيت.
الساعة الثانية عشرة سمعت صوت طلقات رصاص كثيرة صادرة من ناحية كوبرى القبة، قامت مسرعة وخرجت إلى الصالة ووجدت أخويه- الليثى وشوقى- وهما فى إجازة الصيف فقالت لهما: لابد أن يكون جمال من الذين يطلقون الرصاص ويهاجمون القصر.. وبكت.. ورأت شابا طويل القامة يزعق بصوت عال ويقول: عندك ولم تتبين أنه كان صوت جمال عبد الناصر وهو يمنع السيارات من السير فى الشارع لإخلائه للعربات المصفحة والدبابات والجيش.. وازداد بكاؤها وقالت: الآن أنا فهمت.. إنه انقلاب عسكرى! وتردد: بس لو أعرف فين جمال؟ واطمأنت قليلا عندما أبلغها شقيقاه بأنه أخبرهما قبل خروجه إنه ذاهب فى مهمة خطيرة فإذا رأيتم الدبابات وعربات الجيش فاعرفوا أنى نجحت، وإذا لم تروا شيئا اسألوا عنى غدا واعرفوا أنا فين؟
وبقيت جالسة حتى الصباح.. وفى الساعة السادسة والنصف صباح 23 يوليو حضر ثروت عكاشة وقال لها: أهنئك من كل قلبى.. نجح الانقلاب، فقالت له على الفور: وفين جمال؟ فقال لها: موجود فى القيادة، واسمعى البيان فى الراديو الساعة السابعة.. وفى الساعة التاسعة جاء صف ضابط وقال لها إن البكباشى جمال عبد الناصر بخير ولن يحضر وقت الغداء وموجود فى القيادة.. وحضر شقيقها وقال لها: رأيت فى الشوارع جيشاً ودبابات، والإذاعة محاطة بالجيش وسمعت أن الجيش قام بانقلاب فانشغلت على البكباشى جمال وحضرت لأطمئن عليه لأن الملك لن يترك هؤلاء الضباط وسيعدمهم فورا.. وكان ردها.. اطمئن.. جمال لا يتدخل فى السياسة، فسألها: متى خرج من البيت؟ وأجابته: كالعادة خرج قبل الثامنة صباحا.. وعادت بعد انصرافه لتستمع إلى الراديو مع شقيقيه، وتسمع صوت الطائرات فى سماء القاهرة وفى العاشرة مساء حضر جمال وبعد أن هنأته قال: سأبقى ساعتين وأرجع إلى القيادة، وحلق ذقنه، وأخذ حماما، واستبدل ملابسه، وجلس مع زوجته وشقيقيه، فذكرت له أن شقيقها شعر بالقلق عليه فقال لها: سيدهش غدا لأنه سيرى صورتى فى الجرايد وأنا فى عربة جيب مع اللواء محمد نجيب وهما يطوفان بالشوارع الرئيسية فى البلد، وخرج الناس لتحيتهم وكلهم حماس.. وكانت هذه أول مرة تسمع فيها اسم اللواء محمد نجيب وحكى لها باختصار كيف اقتحم القيادة العامة ومعه عبد الحكيم عامر وكيف استسلم كل الموجودين من القيادة وأدخلهم فى مبنى المدرسة الثانوية العسكرية وسلمهم للسجان حمدى عاشور! وضحك وقال: أرسلنا إلى الملك بالتغييرات والشروط التى نريدها ووافق. وقال لها إن الذى قرأ بيان الثورة فى الإذاعة هو أنور السادات، وكان هو وزوجته فى السينما وعندما رجع لبيته قرأ ورقة تركتها له ليحضر فلبس ملابسه العسكرية وفى طريقه للقيادة منعه الضابط لعدم معرفته كلمة السر، فلف ودار حول القيادة دون جدوى وأخيرا صاح فسمعه عبد الحكيم عامر ودخل القيادة عند الفجر، وفى الصباح أعطيته البيان ليقرأه فى الإذاعة وكان جمال وهو يحكى. وفى الساعة الثانية عشرة مساء- أى بعد ساعتين بالضبط قام جمال وقال لها: لا تنتظرينى فسأبقى فى القيادة.
زوجة فى حالة انتظار دائم
بعد هذا اليوم الطويل ظل جمال فى القيادة ولم يحضر إلى البيت إلا يوم 26 يوليو الساعة الخامسة صباحا، وقال لها: اليوم سيغادر الملك البلد على الباخرة «المحروسة» وذهب جمال سالم ليحضر رحيل الملك، واسمعى الإذاعة الساعة السادسة مساء. وجلس يتحدث معها - ومع شقيقيه- حتى السادسة صباحا- وخرج وبعد ذلك لم يكن يحضر إلى البيت إلا لينام قليلا فى الليل ويخرج مبكرا جدا فى الصباح قبل أن يستيقظ أولاده.. وقبل أن يخرج يحضر إليه زوار أكثرهم ضباط فيجلس معهم وقتا قصيرا يستمع إلى طلباتهم وشكاواهم ثم يذهب إلى القيادة، ويبقى فى القيادة أياما بعد أن رتب فى القيادة ما يلزمه من ملابس وأدوات الحلاقة.
يدهشك أن تعلم أن بيت عبد الناصر لم يكن فيه تليفون.. ولم يدخل التليفون بيته إلا بعد أسبوع من قيام الثورة.. ويدهشك تعليق زوجته على دخول التليفون بقولها: لم أهتم به أو أشعر بأن شيئا كان ناقصا.. وأول مكالمة كانت من سيدة لها طلب.. وبعد ذلك كان على السيدة تحية أن تعتاد على زيارات سيدات منهن زوجات الضباط الكبار الذين خرجوا فى حركة التطهير أو سيدات ليقدمن شكاوى وطلبات وتظلمات من عهد الملك.
وفى أكتوبر 1952 بعد أكثر من شهرين على قيام الثورة قال لها جمال: سننتقل إلى بيت آخر وهناك بيت به عشر حجرات فى قشلاق العباسية، وبيت آخر فى منشية البكرى به خمس حجرات اختارى ما يعجبك فاختارت البيت الأصغر. وانتقل عبد الناصر إلى بيت منشية البكرى.. وذهبت الزوجة لتعيش فيه دون أن تراه.. يكفى أن زوجها هو الذى اختاره لها.. وعند دخولها البيت وجدت عددا من عساكر الجيش على الباب وداخل الحديقة وأمام البيت مدفعان وعدد من البوليس الحربى، وفوق سطح البيت مدفعان، وكان واضحا أنه مبنى ليكون مكاتب وليس للسكن، ومحاطا بحديقة لا يوجد بها خضرة أو أزهار إلا أشجار كافور مزروعة من عشرات السنين.. وسألت: لم كل هذه المدافع والعساكر فقيل لها إن قائد البوليس الحربى - البكباشى أحمد أنور - حضر فى الصباح وأمر بذلك. وفى المساء أضيئت أنوار كثيرة فى الحديقة.. وفى الساعة الواحدة والنصف سمعت صوت جمال يقول: إيه ده يا جدع.. شيل المدافع.. اصرف العساكر.. أطفئ النور وكفاية نور خفيف.. لم يعجبها البيت ولكنها اعتادت على الحياة فيه.. كما اعتادت على غياب جمال حتى عن أول عيد ميلاد لابنه عبد الحميد، وحتى عندما مرض عبد الحميد فى اليوم التالى.. كان جمال يحضر للبيت الساعة السابعة صباحا بعد انتهاء اجتماعات مجلس قيادة الثورة- لينام ثلاث أو أربع ساعات.. وأحيانا كان مجلس قيادة الثورة يجتمع فى البيت ويظل مجتمعا حتى الصباح وأحيانا حتى الظهر.. وتقول: ولم أر اللواء محمد نجيب مشتركا فى أى اجتماع فى بيتنا أبدا.. فقط كان جمال ينادى أحد الضباط ويعطيه مظروفا ليذهب به إلى اللواء محمد نجيب لتوقيع القرارات.
هكذا عاشت زوجة قائد الثورة الذى أصبح رئيسا للوزراء ثم رئيسا للجمهورية وزعيما ولم تفكر فى أن تكون سيدة مصر الأولى.. ولا الثانية!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف