وحدة الموقف العربى طوق النجاة
 عقب حضوره الاحتفال بعيد الشرطة يوم السبت الماضى ، طار الرئيس مبارك إلى الإمارات والكويت فى رحلة سريعة ، أجرى خلالها مباحثات مكثفة ومهمة حول موضوعات دقيقة جدا . وقبل ذلك بأيام طار إلى السعودية وليبيا لمباحثات، مماثلة ، ومنذ شهور والرئيس مبارك مشغول بلقاءات واتصالات ومباحثات القليل منها معلن والكثير غير معلن، فى محاولة مستميتة لإنقاذ المنطقة من أخطار الحرب .

وليس جديدا أن تكون أجندة الرئيس مبارك مزدحمة بالاجتماعات واللقاءات والزيارات، لكنه يبدو هذه الأيام فى سباق مع الزمن، ويتحمل مسئولية رجل المطافئ فى مواجهة النيران المحتملة التى سوف تشعل المنطقة ، ولا أحد يستطيع التنبؤ بتداعياتها الخطيرة .

ومباحثات مبارك فى الإمارات والكويت كانت حول ثلاثة موضوعات رئيسية بالإضافة إلى العلاقات الثنائية. والموضوع الرئيسى هو كيفية تفادى الحرب الأمريكية على العراق بما يمكن أن تؤدى إليه من تداعيات وانفجارات وردود أفعال، وربما تكون هذه هى الفرصة الأخيرة لبناء موقف عربى موحد ، لأن العرب الآن فى حاجة إلى الصمود فى وجه التحديات المقبلة، وهى تحديات صعبة، تحديات سياسية، واقتصادية، وربما عسكرية أيضا، وستكون آثارها أشد صعوبة، وقد تطول ، وكل ذلك يستلزم أن يكون العرب فى موقف قوة، ولن تكون للعرب قوة إلا إذا وقفوا صفا واحدا، وتجاوزوا الخلافات والنزاعات التى بددت قواهم، وجعلتهم مطمعا لكل طامع، وإذا لم تقف كل دولة وحدها على وهم أنها يمكن أن تنجو وحدها.. وإذا تمكن العرب من بلورة رؤية واحدة للقضايا المصيرية الملحة الآن.. وإذا اجتمعوا على رأى واحد ولم تتعدد الآراء فتتبدد طاقة العمل.. إذا لم يتحقق ذلك اليوم وليس غدا فلن يجد العرب بعد ذلك آذانا صاغية لهم فى العالم.. وإذا نجحوا فى تحقيق ذلك- وهذا ممكن إذا خلصت النوايا وتغلبت المصلحة العامة على النزعات الفردية الضيقة- فسوف يستمع العالم إلى الصوت العربى الواحد.. ويعمل حسابا للموقف العربى الواحد.. وسوف يعمل العالم حسابا للعرب وتنتهى مرحلة الاستهانة بهم.. لأن وحدتهم هى التى ستجعل لهم مكانا وقوة سياسية يمكن أن تؤثر فى سير الأحداث .

والرئيس مبارك على وعى كامل بسير الأحداث وبالحكمة التى يقود بها البلاد يعمل على تجنيب المنطقة هذه المأساة المتوقعة، ويرى أن القمة العربية لابد من الإعداد لها إعدادا جيدا جدا ، وتسبقها عملية تحضير فى لقاءات ومباحثات عربية ثنائية وجماعية على مستوى القمة وعلى مستوى كبار المسئولين والخبراء لكى تعقد قمة البحرين فى مارس ، أى بعد أسابيع من الآن ويكون قد سبقها الاتفاق على الخطوط العريضة لما يمكن عمله وبذلك يمكن أن تخرج باستراتيجية للعمل، ولا يكون انعقاد القمة فى ذاته هو الهدف، ولكن الأهم هو ما تسفر عنه القمة، وما يعقبها من عمل .

وفى تصور الرئيس مبارك أن تفادى الضربة الأمريكية على العراق قد يكون ممكنا، إذا تصرفت القيادة العراقية بحكمة، ونفذت قرار مجلس الأمن 1441 بالدقة والشفافية المطلوبتين، لكى تفوّت الفرصة على الذين يتصيدون سببا لشن الحرب .. وإذا نجح العراق فى إبطال كل حجة للحرب فإن الموقف يمكن أن يتغير، ويمكن التوصل إلى حل للأزمة..

ووكالات الأنباء تروج شائعات كثيرة كان آخرها قبول مصر لفكرة تنازل الرئيس العراقى ولم تكن هذه الشائعة إلا بالونة فى الحرب السياسية والإعلامية لحصار العراق نفسيا والتأثير على الأعصاب.. على أمل أن يتحقق لأمريكا النصر بدون حرب.. ومصر لم تفكر.. ولن تفكر.. فى هذا الموضوع وما أكثر الأكاذيب والشائعات فى مثل هذه الظروف فهى جزء من استراتيجية الحرب ذاتها..

والرئيس مبارك يعمل على إقناع العراق بأن يعمل بكل إخلاص وشفافية على إثبات عدم وجود أسلحة دمار شامل، وفتح الأبواب للجان التفتيش وفقا لقرار مجلس الأمن، والتعاون بإيجابية، وإثبات عدم صحة التهمة الجديدة التى تلفق له عن صلته بالإرهاب وتنظيم القاعدة.. وهكذا عليه أن يخوض حربا من نوع آخر لتفادى الحرب العسكرية.. عليه أن يخوض حربا دفاعية لإثبات عدم صحة ما يوجه إليه من اتهامات، على أن يكون هذا الإثبات قويا وواضحا أمام العالم كله لكى تفقد الحرب أسبابها ومشروعيتها .

وفى نفس الوقت فإن الرئيس مبارك يواصل اتصالاته مع الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، والأمين العام للأمم المتحدة، لتكوين موقف سياسى دولى يستبعد الحرب، وفى هذا الإطار تأتى رحلته للقاء الرئيس الفرنسى شيراك فى باريس والمستشار الألمانى شرودر فى بون فى هذا الشهر .

والقضية الفلسطينية هى القضية المحورية الدائمة فى فكر الرئيس مبارك، خاصة مع استمرار شارون فى الحكم، ومصر تعمل على مساعدة الفلسطينيين لتكوين جبهة ذات موقف موحد، لأن تعدد الآراء والمواقف والسياسات من الفصائل الفلسطينية المختلفة فيما بينها يعطى ذريعة لإسرائيل لاستمرار اعتداءاتها ، بحجة أنها لا تجد جهة واحدة تمثل الفلسطينيين يمكن التفاوض أو الاتفاق معها، ولا تلتمس من الفصائل الفلسطينية فكرا واحدا، وبالتالى فلا تستطيع أن تتعامل مع هذه الجماعات المتعددة والصراع فيما بينها قائم، وإذا لم يكن الفلسطينيون قادرين على التفاهم مع أنفسهم فكيف يمكن أن يتفاهموا مع غيرهم؟ والفلسطينيون- فى البداية والنهاية- ليسوا وحدهم، ولا يمكن أن يكونوا وحدهم أمام إسرائيل.. فهم محتاجون إلى جبهة عربية موحدة تساندهم وتدعم مطالبهم المشروعة، وتمارس الضغوط لإيقاف العدوان عليهم وبدء مفاوضات للتوصل إلى حل حقيقى يحقق السلام والعدل والأمن للجميع .

وتشمل مباحثات الرئيس مبارك دائما موضوع السوق العربية المشتركة التى تمثل الطريق الوحيد لتحقيق نهضة اقتصادية وصناعية وتكنولوجية فى كل الدول العربية ، لأن أية دولة عربية لن تحقق هذه النهضة وحدها بمعايير القرن الحادى والعشرين مهما عملت .. والتكامل هو السبيل الوحيد لكى يصبح حلم النهضة، والتحديث والإصلاح الشامل، حقيقة، وفى رأى الرئيس مبارك أنه كلما بدأ تحقيق هذا المشروع القومى الكبير مبكرا كان ذلك أفضل لتحسين الحاضر وللأجيال القادمة، وأن التكامل الاقتصادى العربى هو طوق النجاة فى ظروف المستقبل بما يحمله من نذر!

ولست فى حاجة إلى ذكر ما قيل وما يقال من الأشقاء فى الإمارات والكويت: نحن فى انتظار أن نسمع من الرئيس مبارك رؤيته الحكيمة للأمور.. ولست فى حاجة أيضا إلى وصف حالة القلق والغضب التى تسود الشارع هناك كما فى كل بلد عربى .

فى الإمارات فاق الترحيب كل تصور.. وكان لقاء مبارك وزايد مثل كل مرة، لقاء من نوع فريد.. ويستطيع أى راقب أن يلمس ما بينهما من تقارب روحى وفكرى وسياسى.. واتفاق كامل.

وفى الكويت كان اللقاء حارا وصادقا كما كانت لفتة لها مغزاها تمثلت فى انتظار الأمير الشيخ جابر فى المطار وحضوره وحضور ولى العهد حفل العشاء الرسمى الكبير لتكريم الرئيس مبارك.. كان فى ذلك إعلان بأن الزائر له مكانة خاصة جدا.. وكانت المباحثات تدور فى جو الاتفاق والاخوة.. وإن علاقات مصر والكويت لها خصوصية.

واعتقادى أن الأحداث تلقى دائما على الرئيس مبارك مسئوليات تفوق قدرة عشرات الرجال الأقوياء ذوى العزيمة.. وهو كعادته صامد، يتحمل المسئولية ويؤدى ما يراه واجبا بما يميزه من عقل هادئ ، مرتب، واقعى، وشخصيته صلبة لا تهتز مهما اشتدت العواصف، وفكر متجه دائما إلى السعى لتغيير الواقع مهما يكن صعبا وضاغطا.. وكم من أزمات استطاع أن يتجاوزها.. وكم من أخطار استطاع أن يحمى البلاد منها .. وكم من أعداء استطاع أن ينتصر عليها..

إرادة البناء لديه وحرصه على توفير الأمن والسلام والاستقرار فى المنطقة أقوى من العواصف .

ويبقى الأمل فى أن تسود الحكمة على الجانب الآخر.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف