أنـا مارى شيمل أعظم من أنصف الإسلام
حلت أنـا مارى شيمل، أعظم المستشرقين الذين أنصفوا الإسلام، ودرسوه بموضوعية ودون انحياز ضده.
وأنـا مارى شيمل تربطنى بها علاقة روحية، بدأت مع أول لقاء معها، وكان ذلك فى باكستان، وكنت فى صحبة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر، وهناك علمت بوجودها فسعيت إلى الاتصال بها لتحيتها فسألتنى إن كان من الممكن أن تلتقى بشيخ الأزهر لأنها معجبة بآرائه السمحة المعتدلة، والتقينا ودار حوار طويل حول الحرية الدينية فى الإسلام، وسماحة الإسلام مع أصحاب الديانات وحتى مع الكافرين (لكم دينكم ولى دين) و(من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).. وامتد الحديث إلى مكانة المرأة فى الإسلام، والاتهامات الظالمة للإسلام بأنه يحمل العداء للمرأة، وللديمقراطية ولحقوق الإنسان.. إلى آخر هذه الاتهامات التى تتردد من المستشرقين والسياسيين.
وأذكر أنى سألتها: هل وجدت فى دراساتك للإسلام أنه دين يدعو إلى الإرهاب؟..
ولن أنسى منظرها وهى تستمع إلى سؤالى، وانتفضت من مقعدها وقالت باللغة العربية وبصوت عال: معاذ الله!
وشعرت بعد هذه المقابلة أن هذه الأستاذة العظيمة تستحق الاحترام.
بعد ذلك ذهبت فى رحلة إلى ألمانيا بصحبة الإمام الأكبر أيضا، وكان برنامجه يتضمن حضور لقاء فى المركز الإسلامى فى بون، وكانت هى عاصمة ألمانيا قبل أن تنتقل العاصمة إلى برلين، و فى هذا اللقاء فوجئت بحضور الدكتورة أنـا مارى شيمل، وقالت: إنها جاءت سيرا على الأقدام لأنها لم تجد سيارة أو تاكسى و خشيت أن تتأخر عن الموعد، وبعد أن ألقى شيخ الأزهر حديثه، جلسنا معا فى صالون ودار حوار شائق حول دراساتها عن التصوف وعن المدارس الفقهية الإسلامية، وقالت: إنها عائدة لتوها من إيران، حيث دعيت لإلقاء محاضرات فى الجامعة فى طهران وأنها كانت أيضا فى باكستان لإلقاء سلسلة محاضرات عن الإسلام.
وحين عدنا إلى القاهرة اتصلت بالدكتور محمود حمدى زقزوق وزير الأوقاف واقترحت عليه أن يدعوها لزيارة القاهرة والالتقاء بأساتذة الأزهر ومفكرين إسلاميين فى مصر، فقال لى إنه يعرفها جيدا، ويعرف مكانتها العلمية، وهى صاحبة مدرسة فى الاستشراق ولها تلاميذ كثيرون هم الآن من كبار أساتذة الدراسات الإسلامية فى الجامعات الألمانية، وقال إنه سيدعوها لحضور مؤتمر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وحضرت فعلا إلى القاهرة ولقيت التكريم من شيخ الأزهر ومن وزير الأوقاف وهو أصلا أستاذ للفلسفة الإسلامية، وحصل على الدكتوراه من ألمانيا، ويجيد اللغة الألمانية، ومعروف جيدا فى الأوساط العلمية هناك، وكانت هذه الزيارة فرصة لأدعوها للالتقاء بمجموعة كبيرة من الصحفيين والكتّاب من مجلة (أكتوبر) وقضينا سهرة طويلة فى حوار ممتع نشرنا ملخصه فى (أكتوبر)..
وامتدت صداقتنا والتقينا مرة أخرى فى زيارة ثانية للقاهرة، وكنت على موعد للقائها فى ألمانيا فى الصيف، ولكن القدر لم يشأ أن يتحقق ذلك.
***
ومن حسن حظى أن وجدت الباحث المصرى الدكتور ثابت عيد فى جامعة زيورخ فى سويسرا وثيق الصلة بالدكتورة أنـا مارى شيمل، وتفضل بإرسال مجموعة من دراساته عنها وترجماته لأعمالها إلىّ فكان ذلك جميلا منه لأنى تعرفت أكثر على عظمة الدور الذى تقوم به هذه الأستاذة العظيمة خاصة أن ما نكتبه وما تقوله له تأثير على كثير من المستشرقين الألمان بصفة خاصة، ويمتد تأثيرها إلى بقية دول أوروبا، لأنها دائمة السفر وإلقاء المحاضرات فى الجامعات الأوروبية الكبرى.
وفى 18 يناير 2002 تابعت الاحتفال الكبير الذى أقيم لها فى مؤسسة معهد جوته فى بون بمناسبة بلوغها سن الثمانين فى العاشر من شهر أبريل 2002، وباعتبارها أكبر متخصصة فى العلوم الإسلامية، واللغات العربية والشرقية وتعمل أستاذة فى جامعة بون، وحائزة على جائزة السلام للناشرين الألمان التى تعتبر أهم الجوائز الثقافية والفكرية المرموقة التى تقدم كل عام إلى إحدى الشخصيات الثقافية والعلمية ذات المكانة الخاصة..
وفى هذا الاحتفال قامت بإلقاء محاضرة موضوعها (مظاهر وأركان الإسلام) وتجمع عدد كبير من الباحثين والمفكرين والكتّاب للاستماع إليها، خاصة بعد أن أصبح الإسلام مركز اهتمام السياسيين والمثقفين ورجال الإعلام فى ألمانيا وفى العالم بعد أحداث 11 سبتمبر، والصورة السلبية التى أبرزتها وسائل الإعلام الغربية للإسلام والمسلمين، وحين قدمها الدكتور فالتر نوفاك، سفير ألمانيا السابق فى عدة عواصم عربية قال: إن هذه الأستاذة الكبيرة هى أفضل من يوضح الصورة الحقيقية للإسلام ويشرح العلاقة بين الإسلام والديانات الأخرى، وتحدثت الدكتورة أنـا مارى شيمل عن بداية ظهور الإسلام، وسيرة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) ونضاله من أجل نشر العقيدة الإسلامية، واضطهاد قريش له ولأتباعه من المؤمنين، ثم هجرته إلى المدينة المنورة، وانتصاره على المشركين، ومولد الدولة الإسلامية، وانتشار الإسلام فى العالم القديم، ثم تحدثت عن المصادر الرئيسية للدين الإسلامى وهى القرآن، والسنة والإجماع، والقياس، وأركان الإيمان فى العقيدة الإسلامية وهى : الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر دون تفرقه بين أحد من الرسل، وقامت بشرح دقيق وتفصيلى لكل ركن من هذه الأركان، وتوقفت طويلا حول عقيدة (الله الواحد الأحد) والإيمان بالملائكة، ودور جبريل فى نقل الوحى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وشرحت شرحا كاملا الآية: (اقرأ باسم ربك الذى خلق) وبعض الآيات الأخرى، وأشارت إلى مدى صعوبة ترجمة القرآن إلى لغات أخرى، لأنه بالترجمة يفقد بعض الجلال الذى يشعر به كل من يقرؤه باللغة العربية، كما يفقد البلاغة المعجزة فى صياغته، وعندما شرحت (الإيمان بالرسل جميعا) باعتباره ركنا أساسيا من أركان العقيدة الإسلامية، توقفت طويلا بالشرح لما جاء فى القرآن من اعتراف وتكريم للنبى موسى وللمسيح عيسى بن مريم ورسالتيهما السماويتين، وعددت سلسلة الرسل من آدم إلى محمد خاتم الأنبياء، مع مقارنة موجزة بين الإسلام والمسيحية، وتحدثت عن احتفال الدول الإسلامية بعيد ميلاد المسيح، ومولد الرسول محمد، كما تحدثت بالتفصيل عن سورة مريم وما فيها.
وشرحت ركن (الإيمان) فى الإسلام فقالت: إنه الإيمان بالله، وبالكتب السماوية وتشمل القرآن وما قبله من كتب، والإيمان باليوم الآخر، والبعث والحساب و الجنة والنار، وقارنت بين مفهوم الجنة لدى المسيحيين والمسلمين، وفكرة القضاء والقدر خيره وشره، ثم انتقلت إلى مسيرة الدولة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشرحت الفروق بين السنة والشيعة، وآل البيت، والأئمة، والأوضاع السياسية والاجتماعية فى الدول الإسلامية فى الوقت الحاضر، وفى النهاية أجابت بسهولة وعمق عن سيل من الأسئلة.
وهكذا كانت أنـا مارى شيمل دارسة موضوعية للإسلام حريصة على أن تنظر إليه بعين العالم، وبالمنهج العلمى دون تحيز أو أحكام مسبقة، ولذلك كانت موضع تقدير كبير لدى من يعرف قدرها فى العالم الإسلامى، وإن كان اسمها لم يتردد فى مصر إلا مؤخرا.
***
وأنـا مارى شيمل ولدت عام 1922 فى مدينة فى وسط ألمانيا اسمها (إيرفورت) ودرست اللغة العربية قبل أن تختار التخصص فى تاريخ العلوم، واللغات الشرقية، على يد المستشرق الألمانى الدكتور (ريتشارد هارتمان) فى برلين وحصلت على الدكتوراه فى الاستشراق عن رسالة موضوعها القضاء الإسلامى فى مصر فى القرون الوسطى، وبعد الحرب العالمية الثانية واصلت دراستها فى الآداب العربية، والتركية، والفارسية، فى جامعة ماربوج الألمانية، وحصلت على درجة أستاذ (بروفيسور) فى منتصف الأربعينات، ثم حصلت على دكتوراه ثانية فى أوائل الخمسينات، وعملت فى تدريس الشريعة الإسلامية فى جامعة أنقره بتركيا، وفى جامعة هارفارد بالولايات المتحدة، ثم احتلت كرسى الأستاذية فى قسم العلوم الإسلامية واللغات الشرقية فى جامعة بون وهى أعرق الجامعات الألمانية، وبعد سنوات تفرغت للكتابة والتأليف، وإلقاء المحاضرات، ونشر أبحاثها فى المجلات العلمية المتخصصة فى الاستشراق حول موضوعات الفلسفة الإسلامية، والمعتزلة، والصوفية، كما قامت بإنشاء مؤسسة خاصة لتقديم المنح الدراسية للعلماء والطلبة المسلمين، بالتعاون مع جامعة بون، وفى عام 1995 حصلت على أكبر جائزة ثقافية وفكرية فى ألمانيا هى (جائزة السلام).
***
ولم يسبق أن لقيت باحثة ألمانية فى الإسلام مثل هذا الاهتمام الواسع خارج ألمانيا مثل أنـا مارى شيمل، فقد ترجمت معظم أعمالها إلى عدة لغات، وصدر أكثر من 200 كتاب عنها وعن أبحاثها وأفكارها ، وهى معروفة عالميا ومقروءة باللغات الإنجليزية والفرنسية والفارسية، والتركية، والأوردو والعربية، وترجمت أخيرا إلى اللغة الإندونيسية، وفى عام واحد هو عام 2000 قامت برحلات إلى إحدى عشرة دولة فى أوروبا وأمريكا وآسيا وفى البحرين، و كانت تشرف على برنامج تليفزيونى عن الإسلام فى 8 حلقات عرضه التليفزيون الألمانى وعرض أيضا فى بعض الدول العربية.
وخلال نصف قرن كانت أنـا مارى شيمل نموذجا للباحثة المخلصة للحق والحقيقة فى دراساتها للعقيدة والشريعة والعلوم الإسلامية، وظلت تعمل بنشاط كبير على مد جسور التفاهم والتقارب بين العالم الإسلامى والغرب المسيحى، وفى عام 1995 تعرضت لأزمة شديدة بسبب تعبيرها عن رأيها فى قضية سلمان رشدى، فقد أثارت رواية آيات شيطانية التى كتبها سلمان رشدى الكاتب البريطانى الجنسية الهندى الأصل، والذى كان مسلما، ووجه فى هذه الرواية شتائم مفزعة للقرآن، والوحى، وإلى الرسول وزوجاته وبناته،وأثارت الرواية الغضب الشديد فى العالم الإسلامى، وأصدر الخومينى فتوى بإهدار دم سلمان رشدى، واستغل الإعلام فى جميع الدول الأوربية وأمريكا هذه الفتوى للهجوم على الإسلام والمسلمين، لعدم اعترافهم بحرية الرأى، وفى عام 1995 كانت أنـا مارى شيمل تتسلم أكبر جائزة ألمانية، وفى حفل تكريمها قالت: إنها تستطيع أن تفهم لماذا شعر المسلمون بالاستياء تجاه هذه الرواية، وكانت هذه العبارة سببا فى تعرضها لهجوم لم يسبق له مثيل، ولا يليق بمكانتها العلمية، وعاملتها جامعة بون بقسوة، واتهمتها بأنها بهذا التصريح تؤيد فتوى الخومينى بالقتل، وتعمد المنتقدون انتهاز الفرصة لتوجيه الاتهامات إليها وإلى الإسلام.. بل تعرضت للتشكيك فى نواياها وقيمة أعمالها، وأصبح الحوار الساخن فى طول ألمانيا وعرضها يدور حول البروفيسور أنـا مارى شيمل: هل تستحق الجائزة الكبرى التى حصلت عليها أو لا تستحقها؟ وظهرت سحابات الشكوك حول الأستاذة العظيمة، وحين سألتها عن هذه الفترة قالت باقتضاب وملامح وجهها مليئة بالحزن والمرارة: لقد كان وقتا صعبا.. وأرجوك.. لا أحب الحديث عن تلك الفترة، وهكذا كانت إجابتها عن كل من كان يسألها عما حدث لها فى بلد الديمقراطية، وحرية البحث العلمى وحرية الرأى.. وامتد الهجوم عليها إلى بلاد الديمقراطية الأخرى: أمريكا ودول أوربا!
***
كان هدف هذه الأستاذة العظيمة دائما أن يتفهم الغرب حقيقته، وفى رأيها أن الإسلام أكثر الديانات عرضة للهجوم، وللأحكام المسبقة، ولذلك كانت تتحمل بصبر وابتسامة هادئة نصيبها من الهجوم هى الأخرى بسبب دفاعها عن الإسلام، وتتحمل الهجوم والأسئلة الجارحة التى وصلت إلى حد الاتهامات.
أجابت عن سؤال حول السبب فى اهتمامها بالإسلام فقالت: إن ذلك يعود إلى اهتمامها منذ صباها بالشرق وسحره وحضارته، وأنها كانت فى طفولتها تنجذب إلى الكتب التى تقع فى يدها عن الشرق وتقرؤها بشغف، وكانت معجبة بشكل الحروف العربية، وترى فيها جمالا يجذبها، وتحاول تقليدها، ورسمها وعندما بلغت الخامسة عشرة من عمرها بدأت تتعلم اللغة العربية فى مدينتها أرفورت على يد أستاذ معروف هو الدكتور النبيرج الذى كان يحاضر فى جامعة بينا، ولم تكن دروسه تقتصر على اللغة العربية وقواعدها.. بل كان يلقى المحاضرات عن تاريخ الحضارة فى العالم الإسلامى، وتقول: الفضل يرجع إلى تشجيع أبى وأمى فى هوايتى هذه، وكانت والدتى أشد الناقدين لأعمالى حتى توفاها الله فى عام 1978..
إنتاج أنـا مارى شيمل المنشور بلغ أكثر من ثمانين مجلدا عن تاريخ الشرق والإسلام، وكانت لها اتصالات فى جميع أرجاء العالم الإسلامى، وبالإضافة إلى ذلك ترجمت الكثير من النثر والشعر من اللغات العربية والفارسية والتركية إلى اللغة الألمانية، وكانت تقول:إن أعمالى قصة حب كبيرة بينى وبين الشرق الإسلامى.. وفى نفس الوقت كانت تؤكد وتكرر أنا باحثة فقط وليس لى شأن بالسياسة، فأنا ملتزمة التزاما شديدا بالحياد السياسى.. بل أنا خارج الساحة السياسية تماما، ولا أعرف الكثير عنها، ولا أستطيع الحديث عن شأن من الشئون السياسية، ولكنها مع ذلك واجهت انتقادات من باحثين غربيين ومن فئات إسلامية، وظلت محتفظة بهدوئها ووقارها العلمى وبدعوتها إلى التسامح، كما ظلت إلى آخر يوم فى حياتها على موقفها من الدعوة إلى السلام بين الشعوب وبين أبناء الوطن الواحد، وتقول: إن السلام يساعد الناس على الشعور بالأمل والقوة، وتدافع عن الدين الإسلامى، وتقول: إن الإسلام أضاف إلى الدنيا الكثير من المبادئ والقيم النبيلة، وساعد على تقدم العلوم والفنون، ويحزّ فى نفسى أن يتعرض الإسلام علنا، وبصورة مستمرة، ومتعمدة فى أغلب الأحيان، إلى أحكام مسبقة غير دقيقة تصوره على أنه دين شرير!
ولم تقتصر البحوث التى قامت بها أنـا مارى شيمل فى رحلة عطائها العلمى التى بدأت عام 1937 على تبادل الآراء مع كبار الباحثين فى التصوف الإسلامى، ولكنها كانت تلتقى بالمسلمين العاديين فى كل بلد تزوره، وتستمع إليهم، وتتعرف على آرائهم وعقائدهم وعاداتهم.
وقالت: فى عام 1942 كتبت رسالة الدكتوراه، وفى عام 1946 أنهيت رسالتى التى منحتنى بها الجامعة درجة بروفيسور، وهذه الرسالة لم تنشر مع الأسف الشديد، وهى عن حضارة المماليك فى مصر، وهذه مرحلة تاريخية طالما وجدت نفسى مشدودة للعودة إليها، وتسليط الضوء عليها، ثم اكتشفت ابن خلدون فترجمت إلى الألمانية بعض فصوله من مقدمته الشهيرة.. أما الذى يؤجج روحى ويسيطر على نفسى فهو الشعر.. الشعر العربى.. والشعر الفارسى أكثر.. وعلى الأخص الشعر الفارسى الصوفى، ولذلك فإن أول كتاب نشر لى كان دراسة عن لغة التصوير الخيالى فى شعر جلال الدين الرومى (1207-1273) وهذا الشاعر كتبت عنه كثيرا، ولى عدة كتب باللغتين الألمانية والإنجليزية فى دراسة أفكاره وأعماله، وترجمت الكثير من أعماله إلى اللغة الألمانية، وبدأت اهتمامى بترجمته منذ كان عمرى ثمانية عشر عاما ولم تمر فترة طويلة حتى استحوذ الشاعر الكبير محمد إقبال، على فكرى، وهو الأب الروحى لدولة باكستان الحديثة، وتوفى عام 1938، وقد تفرغت لإعداد كتب عديدة عنه، ونقلت ديوانه (رسالة الشرق) وهو فى الرد على الكاتب الألمانى المعروف جوته الذى كتب (الديوان الشرقى الغربى) ونقلت لإقبال أيضا كتاب (سير الأفلاك) شعرا إلى اللغة الألمانية، ونثرا إلى اللغة التركية ووضعت عدة مؤلفات عن شعراء عظام من شبه القارة الهندية الباكستانية من أمثال الصوفى الكبير (ميردد) المتوفى عام 1785، وشاعر اللغة السندية الكبير (شاه عبد اللطيف) المتوفى عام 1752، كما قمت بإعداد بحوث نشرتها فى كتب عديدة عن التاريخ الأدبى والسياسى للمسلمين فى شبه القارة الهندية الباكستانية، ونقلت إلى الألمانية كثيرا من أبيات الشعر عن الفارسية والأوردية، ولغة السند، ولغة الباشتو، وقمت بتأليف كتب عن تركيا، وترجمت أشعارا تركية، كما ترجمت رواية تركية إلى الألمانية، ومع كل ذلك ظل الحب لفن الكتابة والخط العربى فى قلبى، مما جعلنى أخصص سنوات لدراسته ومعرفة أسراره، وذهبت من أجل ذلك إلى متحف المتروبوليتان فى نيويورك إلى أن تمكنت من معرفة الكثير من أسراره الجميلة، وبعد أن تقدمت برسالة الدكتوراه الثانية فى عام 1951، عن تاريخ الأديان، وقعت أسيرة هذا الموضوع (تاريخ الأديان) وخاصة علم الظواهر الدينية، حيث حاولت الاعتماد على ذلك فى فهم الإسلام.
***
يقول الكاتب الألمانى بيرند روسله فى بحثه عن أنـا مارى شيمل: إن أبرز مؤلفاتها جميعا كتاب (الأبعاد الصوفية للإسلام) وهو خلاصة لجوهر أعمالها عن التصوف والصوفية فى الإسلام.. ويقول أيضا: إن أنـا مارى شيمل بعيدة كل البعد عن التطرف الدينى، وهذا ما تؤكده كتاباتها، ومحاضراتها، ولذلك كانت حريصة على الابتعاد عن الحديث عن الإسلام السياسى، وظلت ترفض كل المحاولات التى كانت تسعى إلى جرها للاشتراك فى النقاش الدائر حول الإسلام السياسى، وجماعات الإسلام السياسى، وتقول: إن هذا النقاش يسىء إلى صورة الإسلام، فنحن حين ندرس مبادئ وقيم الإسلام نجد حقيقته، وحين ننجرف إلى الحكم على الإسلام بما تقوله وما تفعله جماعات الإسلام السياسى فسوف نجد صورة تسىء إلى الإسلام، وهذه الصورة ليست للإسلام، ولكنها من صنع هذه الجماعات، فلماذا أترك الأصل وأجرى وراء الصورة غير الصحيحة؟..
وهذا هو السبب فى أنها بالرغم من اهتمامها بالإسلام فى سن مبكرة جدا، منذ كانت فى الخامسة عشرة من عمرها، وظلت تبحث وتدرس وتكتب وتحاضر عن كل جوانب الإسلام، ومع ذلك لم تشارك فى أى نشاط سياسى من أى نوع حتى فى داخل ألمانيا ذاتها، ولم يكن للسياسة أى تأثير على أفكارها ومواقفها، وظلت محتفظة بهذا الموقف العلمى الحيادى حتى عندما انتدبتها جامعة هارفارد الأمريكية للتدريس فى قسم الثقافة الهندية والإسلامية.
حصلت أنـا مارى شيمل على جوائز تقدير عديدة من أنحاء العالم يصعب حصرها، منها وسام الاستحقاق الكبير، أعلى وسام ألمانى، فى عام 1981، وظلت تعمل بنشاط تحسد عليه، دون أن تشكو من التعب حتى بعد أن تجاوزت الثمانين من عمرها، وكانت تقول: أريد متابعة أسفارى، ولقاء المفكرين والعلماء، وإلقاء المحاضرات، وترجمة الكتب والأشعار فى الموضوعات الخاصة بالإسلام حتى آخر لحظة من عمرى وهذا ما فعلته.
***
وفى المحاضرة التى ألقتها بمناسبة تكريمها وحصولها على جائزة السلام قالت: إن تفهم الثقافات الأجنبية والتسامح معها يجب أن يكون جزءا من السياسة الألمانية، ولقد تعرضت لحملة شديدة الضراوة كانت تبدو وكأنها تهدف إلى تقويض الرسالة التى خصصت حياتى من أجلها، وهى تحقيق التفاهم بين الشرق والغرب، ومع ذلك لم تدفعنى هذه الحملة إلى الانزواء لأنى أشعر بالالتزام بأن يكون عملى وعمل المستشرقين هو السعى إلى الحوار الهادئ مع جميع ذوى النوايا الحسنة فى العالم الإسلامى، ورسالتى أيضا التى قضيت نصف قرن من عمرى فى أدائها لكى أتعلم أن منهج العلم مختلف عن منهج الصحافة والسياسة، وإن كان من المفروض أن يجمع بينهما الحرص على حرية الكلمة، وقد أعلنت أنى أرفض الفتوى بحق سلمان رشدى، وسوف أسعى بأسلوبى الخاص إلى الدفاع عن حرية الرأى وحرية الكلمة.
وقالت: إننى أدرك أن الشعر هو (اللغة الأم للجنس البشرى) التى تربط بين الشعوب، لأنه من أهم مكونات جميع الحضارات، فالشعر هو وسيط السلام، وقد اختلفت كثيرا علاقات الغرب مع العالم غير الغربى، فقد تابع الغرب بذعر تقدم المسلمين فى حوض البحر الأبيض فى القرنين الثامن والتاسع، ولكن الغرب فى هذا الوقت أخذ عن العرب فى الأندلس أصول العلوم الطبيعية المعروفة اليوم، وظلت مؤلفات الرازى، وابن سينا، المراجع المعتمدة فى الطب فى أوربا حتى مطلع العصر الحديث، وأثمرت كتابات ابن رشد مناقشات فى اللاهوت مهدت الطريق إلى عصر التنوير فى أوربا، وساعد المترجمون فى طليطلة على نقل التراث العلمى إلى أوربا، وكان اليهود والمسيحيون والمسلمون يتعايشون فى سلام فى ظل الحضارة الإسلامية، ويعملون على نقل العلوم العربية إلى بلاد الغرب، وقد علّم لول الكاتالونى احترام الأديان بعضها بعضا، والحوار بينها من أجل السلام، ثم كان الحصار التركى لعاصمة النمسا فيينا عام 1529 وما تبعه من مجازر سالت فيها الدماء أنهارا، غير أن العالم الغربى تعرف فى ذلك الوقت على الحياة فى الشرق من خلال تقارير الرحالة والتجار، وصدرت الترجمة الفرنسية الأولى لروايات ألف ليلة وليلة فى مطلع القرن الثامن عشر، فعرفت أوربا سحر الشرق، والمغريات الحسية، وكان ذلك مصدر إلهام لأجيال من الشعراء، والرسامين، والموسيقيين، كما ساعدت الدراسات العربية والإسلامية والهندية على إثراء عصر التنوير فى أوربا، وأصبحت جميعها تخصصات مستقلة فى تاريخ العلوم، وكانت الأعمال العلمية والترجمات من العربية هى الباعث على ظهور الشعر الاستشراقى فى اللغة الألمانية الذى يحتل (جوته) مكان الصدارة فيه، خاصة ديوانه (الديوان الشرقى للشاعر الغربى) بما فيه من تعليقات وحواش قام فيها بتحليل الحضارة الإسلامية تحليلا مازال صالحا حتى اليوم، كما نشر (روكرت) عام 1820-بعد صدور ديوان جوته بعام واحد-قصائده الأولى المستوحاة من الشعر الفارسى، وكان الألمان يستحسنون سماع الأشعار التركية.
وقالت: نحن لا نتلقى من وسائل الإعلام، ما يضيف إلينا معرفة جديدة، ولكن الإعلام يقدم لنا كل يوم صورة للعالم تملأ نفوسنا رعبا وقلقا، فهل نستطيع أن نكوّن صورة إيجابية حقيقية عن الحضارة الإسلامية، وهى صاحبة فضل علينا؟ إن الحضارة الإسلامية تبدو غريبة على معظم الأوروبيين اليوم، ولذلك فإنهم يزعمون أن الحضارة الإسلامية لم تعرف أبدا الإصلاح أو التنوير! ولذلك رفض (جاكوب بوركهارت) هذه الحضارة الإسلامية منذ قرن من الزمان رفضا باتا وقال: إن هذه الحضارة غير قادرة على التغيير، وكثير ممن يتحدثون عن الحضارة الإسلامية ضحايا النسيان لما حدث فى العالم الإسلامى من غرب أفريقيا حتى إندونيسيا من التعبير عن هذه الحضارة، وما فيها من قدرة على العطاء والنمو بأساليب فى التعبير مختلفة عن الأساليب الغربية، فى التعبير عن الحضارة، ولكنها تتفق فى أساس مشترك، هو الإيمان بالله الواحد الأحد، والاعتراف بأن محمدا هو خاتم الأنبياء.
***
وقالت أيضا: إنه يكاد يكون مستحيلا فى هذا العصر التعرف على الجوانب الإيجابية للإسلام فى الحياة اليومية، لأننا فى عصر الطوفان الإعلامى الغربى، وتغمرنا نشرات الأخبار المتتالية الموجهة إلينا بأسلوب الإعلانات التجارية، ولذلك لا نتمكن من التعرف على الألوان المتعددة الرقيقة والإيجابية فى الإسلام.
والمثل القائل (الإنسان عدو ما يجهل) ليس مثلا خاصا باللغة اليونانية، فهو معروف فى اللغة العربية أيضا، ويروى الشاعر الكبير جلال الدين الرومى الذى عاش فى القرن الثالث عشر الميلادى فى كتاب ألفه نثرا باللغة الفارسية أن صبيا شكا إلى أمه أنه يرى كائنا أسود فيصاب بالرعب فى كل مرة، فنصحته أمه بأن يخاطب هذا الكائن المخيف لكى يعرف من طريقة إجابته طبيعته وشخصيته، وبذلك يحدد كيف يتعامل معه، والمعنى الذى أراد جلال الدين الرومى أن يقوله هو: أن (الكلمة) هى التى تدل على شخصية المتكلم، كما تدل كعكة اللوز المحشوة بالثوم بما فيها لمن يأكل منها، وأما من يكتفى بالنظر إليها من الخارج فسوف يراها كعكة شهية!
وفى القرآن (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة) سورة إبراهيم آية 24.. كما أن فى معظم الديانات أن فى الكلمة قوة خالقة وحاملة للوحى، سواء كانت كلمة الله التى أصبحت لحما ودما، كما حدث فى خلق المسيح، أم كلمة الله التى أصبحت فى الإسلام قرآنا.. فالكلمة هى الأمانة التى حملها الإنسان، وعليه أن يرعاها، ولا يجوز له أن يحط من شأنها، أو يقلل من قدرها، أو يحرف معناها، أو يقتلها، كما يحدث غالبا فى هذا الزمان.. لأن الكلمة لها طاقة تفوق تقديرنا لها، ومسئولية الشاعر الكبرى، أن يراعى سلطان الكلمة، ومسئولية المترجم أيضا أن يحفظ للكلمة معناها برقة، فإن خطأ طفيفا فى الترجمة قد يؤدى إلى سوء فهم كبير!
والعرب القدماء كانوا يعتقدون أن كلمات الشاعر لها تأثير لا يقل عن فعل السهام، ولذلك يستخدم كل حاكم دكتاتور الشعراء ليعلنوا عن أمجاده وانتصاراته، وهذا الدور المهم للكلام المنظوم فى الحضارة الإسلامية يفوق-بما لا يقاس-مثيله فى الحضارة الغربية حتى يومنا هذا، فإذا كنا نهتز للموسيقى، فإن المسلم يهتز حين يستمع إلى جرس اللغة، وقد عرفت استانبول عن طريق الشعر، حين اطلعت على قصائد الشعراء الأتراك التى نظموها طوال القرون الخمسة الماضية فى هذه المدينة الساحرة. فى كل ركن فيها، وجعلتنى هذه القصائد التى يتردد صداها فى باكستان أزداد شغفا بحضارة الإسلام، وتعرض أحد طلابى فى جامعة هارفارد إلى مأساة، إذ كان ضمن الرهائن الأمريكيين فى طهران، فلما تحدث فى حراسه الإيرانيين وأنشدهم بعضا من الشعر الفارسى لجلال الدين الرومى وحافظ الشيرازى وإقبال تغير موقفهم منه، ونشأت بينه وبينهم لغة مشتركة ساعدت على تجاوز الاختلاف الأيديولوجى بين الطرفين.. لذلك فإننى أميل إلى رأى (هردر) الذى قال: (لاشك أننا نتعرف بالشعر على العصور، وعلى الأمم بصورة أعمق مما نتعرف عليها بالأساليب المضللة الفجة فى التاريخ السياسى أو العسكرى).
***
هذه قطرة فى بحر هذه المستشرقة العظيمة.. التى ذهبت.. وتركت عصر المحبة والإنصاف للإسلام والمسلمين.
وهناك الكثير جدا مما يقال عنها: لكى نعرفها.. ونضعها فى مكانها اللائق على رأس قائمة غير المسلمين الذين قالوا كلمة عن الإسلام.