الحرب على الإسلام فى أمريكا اشتعلت!
متى يدرك الأزهر أن مهمته يجب أن تمتد إلى الخارج، وأن صوته يجب أن يكون مسموعا فى أنحاء العالم دفاعا عن الإسلام، وتوضيحا لحقيقته، وحماية له من حملة التشويه الهائلة التى لا تخلو منها دولة فى أوربا، فضلاً عن الحرب على الإسلام فى الإعلام والجامعات ومراكز الأبحاث فى الولايات المتحدة؟!.
ومتى ينتبه الأزهر إلى ما يفعله الآخرون؟! وآخر مثال ما فعلوه من أجل مسلسل تليفزيونى لم يكن فيه ما يمس الدين اليهودى على الإطلاق، ولم يكن فيه ما يمس الشعب اليهودى، وكانت فيه إشارات إلى أطماع الحركة الصهيونية فى فلسطين، فثارت زوبعة فى أنحاء العالم، وتحرك سفراء الولايات المتحدة وبعض الدول الأوربية للاحتجاج على إذاعة هذا المسلسل، واضطر وزراء فى مصر إلى الإدلاء بتصريحات تنفى عن مصر والمصريين تهمة العداء للسامية، أو العداء لليهود واليهودية.
وهكذا جعلوا من هذه القضية الوهمية سلاحاً للهجوم علينا، وجعلونا فى موقف الدفاع، وأشعرونا بأن المساس بالصهيونية وبإسرائيل أيضاً محظور وليس فقط المساس باليهودية واليهود، بينما الإساءة إلى الإسلام والمسلمين مستمرة بمنتهى القوة، وبتبجح يصل إلى درجة الاستفزاز والتحدى.. ولا نجد رداً من الأزهر عليهم، اللهم إلا بضع كلمات تقال لنا ولا تقال لهم، وهذا ما فعلته المؤسسات والمنظمات الإسلامية.. توجهت بالاحتجاج إلى المسلمين وليس إلى مثيرى الفتنة هناك.. فى الولايات المتحدة ودول أوربا.
ولا أعرف، هل تحتاج هذه المؤسسات التى أنشئت أصلاً للدفاع عن الإسلام، هل تحتاج إلى مزيد من الأمثلة والنماذج لما يوجه إلى الإسلام من إهانات، أكثر مما قدمنا حتى الآن؟.
إن كان ما ينقصهم مزيد من الأمثلة فإن الأمثلة تفوق الحصر، والهجوم مستمر ليل نهار، فى كل مكان، ولا يحتاج إلى جهد كبير لمتابعته، فقط يحتاج إلى وعى وإرادة للعمل.
ولقد روجت دوائر العداء للإسلام فى أمريكا رسم الكاريكاتير للرسام الأمريكى المعروف دوج مارت ونشر أولاً فى صحيفة (كلاهاس ديمقراط) ثم نشرته صحف أخرى بعد ذلك، وفى هذا الرسم صور الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يقود سيارة محملة بالمتفجرات، وكتب تحتها (ماذا سوف يقود محمد؟) وهذا الرسم وحده أشد خطراً من مائة مقال فى الهجوم على الإسلام، لأنه يرسخ الفكرة العنصرية المعادية للإسلام والمسلمين، ويؤكد الصورة النمطية السلبية عن الإسلام والرسول (صلى الله عليه وسلم) وقد نبه إلى ذلك رئيس مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية وقال إن الإعلام الأمريكى يعيش الآن موسما مفتوحا للهجوم على المسلمين ومقدساتهم وشعائرهم، ولم تتحرك جهة للاحتجاج على وصف الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالإرهاب وبأنه القدوة للمسلمين فى القتل والتفجير.. ولم يتقدم الأزهر بمذكرة احتجاج.. ولا تحرك السفير فى أمريكا.. وكأن الأمر لا يستحق الانزعاج!
***
ولابد أن يكون أحد فى الأزهر قد قرأ تقرير الأستاذ محمد وهبى من واشنطن فى (المصور) عما حدث فى مدينة سانت لويس أثناء المؤتمر السنوى للكنيسة المعمودية، وقد بلغت هذه الكنيسة من الأهمية ما جعل الرئيس جورج بوش يوجه خطابا من خلال القمر الصناعى إلى هذا المؤتمر، وقال القس جيرى فاينز الرئيس السابق للمؤتمر ومن أشهر الزعامات الدينية فى أمريكا:إن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان شاذا!! وكان تعليق زملائه فى نفس الكنيسة عن هذه السفالة: إن هذا ما وصل إليه استنادا إلى بحوث قام بها عن الإسلام.
وجاء فى هذا التقرير: أن الهجوم الوقح على الإسلام ورسوله (صلى الله عليه وسلم) أصبح عادة بين القيادات الدينية، والغالبية العظمى منهم إنجيليون يؤيدون إسرائيل بحماسة شاذة، بالإضافة إلى التهجم المستمر من زعامات دينية على رأسهم بات روبرتسون الذى كان مرشحا للرئاسة فى أمريكا من قبل، وجيرى فالويل، وفرانكلين جراهام، وجيمى سواجارت صاحب الفضائح الجنسية والمالية التى اهتزت لها أمريكا قبل بضع سنوات. ومن الأمثلة ما طالب به جيمى سواجارت يوم 10 نوفمبر 2002 بطرد كل الطلبة المسلمين الأجانب من الجامعات الأمريكية. وقال (إن العرب يلفون حفاضات الأطفال على رؤوسهم، وحزام مراوح السيارات على خصورهم، ويجب علينا أن نقول لكل مسلم من المسلمين الذين يعيشون بيننا إنك إذا نطقت بكلمة واحدة فستختفى فوراً) وأضاف: إن رسولهم مارق وشاذ!
أما بات روبرتسون المرشح السابق للرئاسة الأمريكية والذى يعتبر من أهم زعماء الإنجيليين فقد بلغت به البذاءة إلى حد وصف المسلمين بأنهم (أسوأ من النازيين) وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) متطرف، ولص، وقاطع طريق، والإسلام (خدعة كبرى) والقرآن الكريم (مجرد سرقة من الأفكار الدينية اليهودية)، وقد أعلن الرئيس الأمريكى جورج بوش مبادرة أسماها (المبادرة الإيمانية) وحصلت المنظمة التى أنشأها بات روبرتسون هذا على نصف مليون دولار من الأموال المخصصة لهذه المبادرة!
وجيرى فالويل وصف الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأنه إرهابى، ووصف الزعيم الإنجيلى فرانكلين جراهام الإسلام بأنه (دين شرير وكريه). ونقل محمد وهبى عن جون مونتفيل الذى يرأس برنامج الدبلوماسية الوقائية بمركز الدراسات الدولية والاستراتيجية فى واشنطن قوله بأن ما يحدث من هجوم على الإسلام فى أمريكا يمكن أن يدفع نحو تصادم حضارى بين العالم الإسلامى والغرب، وأضاف: لقد تلبدت الأجواء بصورة خطيرة على عدة مستويات أهمها التشويه الخطير لصورة الإسلام والمسلمين فى الغرب.. وعلل جون مونتفيل هذا الهجوم الضارى بأنه من تداعيات هجوم سبتمبر 2001 على أمريكا، والدور السلبى لوسائل الإعلام الأمريكية فى هجومها على الإسلام والمسلمين، بالإضافة إلى أن بعض القيادات المؤثرة فى الكنيسة الإنجيلية ليست على مستوى ثقافى يجعلهـا تتحدث عن الإسلام بموضوعية لأنها لا تعلم الكثير عن الإسلام، كما أن هناك تحالفا بين هذه الكنيسة وبين إسرائيل والقوى التى تؤيدها فى أمريكا، وهذه الكنيسة تؤمن حرفيا بأن عودة السيد المسيح مرتبطة بهجرة كل يهود العالم إلى إسرائيل، وما يتبع ذلك من انهيار إسرائيل، ويعقب ذلك ظهور السيد المسيح، وإسرائيل من جانبها تستفيد من النفوذ السياسى المتزايد لهذه الكنيسة وجهودها الناجحة لدفع يهود أمريكا للهجرة إليها)..
هذا ما نقله إلينا محمد وهبى الذى يعيش فى أمريكا ويتابع ما يجرى فيها..
***
وفى مجلة نيوزويك الأمريكية كتب فريد زكريا رئيس الطبعة العربية فى عدد 22 أكتوبر 2002 عن حديث القس جيرى فالويل فى برنامج (60 دقيقة) فى التليفزيون الذى قال فيه: إن النبى محمدا (صلى الله عليه وسلم) كان إرهابياً، وذكر أن أقوال فالويل هذه تبدو كأنها جزء من اتجـاه وهنــــاك غيره كثيرون، ففى مناسبات عدة وصف بات روبرتسون النبى محمدا (صلى الله عليه وسلم) بأنه لص، وقاطع طريق، ووصف الإسلام بأنه عملية اغتيال كبيرة، وكذلك فإن فرانكلين ابن القس بيلى جراهام، انضم إلى هذه الجوقة، ووصف الإسلام مراراً بأنه دين شرير جدا، وتكررت إهانة الإسلام فى افتتاحيات ومقالات الصحف الأمريكية التى ووجهت بالصمت من البيت الأبيض، ومن غالبية القادة السياسيين والدينيين من التيار الرئيسى فى أمريكا، والذين يهاجمون الإسلام فى أمريكا ليسوا شخصيات مغمورة، بل هم من أشهر القادة الدينيين فى الولايات المتحدة، ولهم اتباع بعشرات الملايين، ولهم- أيضاً- نفوذ سياسى هائل، فقد دعا الرئيس جورج بوش القس بيلى جراهام لتلاوة الصلاة فى حفل تنصيبه رئيسا. ولذلك فإن برامج التبادل الثقافى، وبرنامج الدعاية الأمريكية الموجه إلى المسلمين لإقناعهم بأن أمريكا صديق لهم، لن يكون له تأثير فى مقابل هذا الصخب المتعصب من القادة الدينيين، وعلى مدى العقد المقبل ستكون القضية الأولى فى السياسة الأمريكية هى علاقتها مع 1200 مليون مسلم فى أنحاء العالم، وإقامة علاقة صحيحة مع المسلمين سيكون لها تأثير أعظم على حماية مصالح أمريكا، بما فى ذلك حياة المواطنين الأمريكيين، وإن حملة فالويـل، وروبرتســون، وجــراهام التـــى تفيض بالحقد والكراهية إنما تقوم بإشعال النار التى يمكن أن تكبر لتصبح حريقا هائلاً فظيعاً.
ويقول مقال نيوزويك الأمريكية إن أحداث 11 سبتمبر حلت مشكلة ملحة بالنسبة للأصوليين، فخلال العقود الماضية كان هؤلاء يبحثون عن أعداء لهم، وقد وجدوا أن الهجوم على المسلمين هدف أسهل بكثير من الهجوم على الشذوذ الجنسى وحق الإجهاض وغير ذلك من سلبيات المجتمع الأمريكى.
هذا ما قاله رئيس تحرير الطبعة العربية لمجلة نيوزويك الأمريكية.!
***
وفى الصحافة الأمريكية كل يوم عشرات المقالات تهاجم الإسلام، وتصفه بالنازية، والتخلف، كما قال كيفين بيكر Kevin Baker فى مقال بعنوان (الجانب الأعلى للإسلام الراديكالى) فى صحيفة نيويورك تايمز يوم 15 ديسمبر 2002، من أن الإسلام قوة دمار، لكنه قوة دمار يمكن أن تفتح الطريق أمام نظام ديمقراطى جديد فى الشرق الأوسط، وتلك هى النظرية الرائعة التى قدمها فرانسيس فوكوياما، وناداف سامين Nadav Samin وملخصها أن العالم الإسلامى اليوم فى وضع يماثل وضع أوربا فى بداية العصر الصناعى، عقب الهجرات الكبرى فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من الريف إلى المدن، حيث كان ملايين الفلاحين الأوربيين البؤساء ذوى الأفكار المشوشة ينضمون إلى الحركات الراديكالية مثل الفاشية والشيوعية، وبالرغم من الدمار الذى تسببت فيه هذه الحركات الراديكالية فإنها عجلت بإزالة العوائق التى كانت تمنع ظهور الديمقراطية الليبرالية، وهكذا الحال فى العالم الإسلامى، فإن الريفيين يهاجرون من القرى المتخلفة إلى الأحياء الحضرية الواسعة فى القاهرة، والجزائر، وعمان، تاركين وراءهم (إسلام الريف) المرتبط بالأمية وعدم التعلم، ولكن هذه الهجرات أدت إلى اضطرابات فى نفوس الرجال والنساء الذين يعانون من الحرمان وسط مجتمعات مرفهة، فيتحولون إلى أشخاص يعانون من الاغتراب والغضب، ولا يجدون أمامهم إلا اللجوء إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة، التى تتحدى السلطة التقليدية القائمة، كما فعل أسامة بن لادن بفتواه ضد الولايات المتحدة، فقد كان يعلن فى نفس الوقت التحدى للسلطة الشرعية فى العالم الإسلامى، وهو بذلك يشبه هتلر عندما كان يصدر منشورا، ولينين عندما كان يصدر مرسوما، وكما أدت النازية والشيوعية إلى كارثة الحروب العالمية، فإن هذه الكوارث أفادت أوربا، وكانت (كارثة) الحرب العالمية الأولى هى التى ساعدت أوربا على التخلص من النظام القديم والدخول فى عصر الحداثة، كـذلك فإن تطرف الجماعـات الإسـلامية ربمــا يـؤدى إلى (كارثة) لا سبيل إلى مواجهتها واحتوائها إلا بالقوة العسكرية، وسوف تؤدى المواجهة بالقوة العسكرية إلى تغيير العالم الإسلامى).
هكذا يروجون للقيام بشن حرب على العالم الإسلامى من أجل تغييره ليكون متوافقا مع الأهداف والمصالح الأمريكية. فالإسلام هو العدو، ومحاربة التطرف والإرهاب الإسلامى هو القضية التى تبرر تغيير العالم الإسلامى بالقوة وفق إرادة أمريكا.
***
وإذا أردنا أن نفهم لماذا كل هذا العداء للإسلام فى أمريكا وأوربا، فسوف نجد لهذه الظاهرة أسبابا متعددة دينية، وسياسية، واقتصادية يطول شرحها، ولكن هناك سببا جديدا شرحه باحث أمريكى متخصص هو (سين يوم) Sean Yom فى دراسة بعنوان (الإسلام والعولمة) فى مجلة السياسات والمجتمع الدولية الأمريكية عدد أبريل 2002 وعرضــه مركــز الدراســات السياسية والاستراتيجية فى مجلة (قراءات استراتيجية) عدد ديسمبر 2002، وملخص الدراسة.. أن الإسلام عاجز عن الدخول فى نظام العولمة الذى تقوده أمريكا، لأنه بطبيعته يعارض العولمة والقيم العلمانية، ولذلك فإن حركة الإحياء الإسلامى الحديثة، والأصولية الإسلامية هما عائق كبير للعولمة.. ويقول الباحث الأمريكى: لقد ترتب على انتهاء الحرب الباردة وجود فجوة أيديولوجية، وحاول كثير من الباحثين وضع نظريات جديدة للعلاقات الدولية تعبر عن الصراع العالمى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، وهؤلاء الباحثون هم الذين وصفهم البعض بأنهم منظّرو الفوضى العالمية، لأنهم قالوا: إن العولمة هى عملية تجزئة وتآكل سيادة الدول، وإعادة تشكيل الولاء الاجتماعى والدينى من جديد، وتنبأوا بانقسام العالم دينيا وحضاريا، مما يعنى الدخول فى عصر من العنف العرقى والثقافى، وبناء على هذا التفكير رأوا أن إحياء الأديان، وإحياء الدين الإسلامى بصفة خاصة، سيؤدى إلى التمرد ضد التحديث، والعولمة، والعلمانية، بينما العولمة هى عملية صهر للأسواق، وذوبان للدول القومية بدرجة لم يشهدها العالم من قبل، وسيؤدى ذلك إلى ارتباط الدول والمؤسسات بعضها ببعض بأقوى وأسرع من ذى قبل، وسوف يسيطر على العالم شعور بالقلق نتيجة للسرعة التى تتم بها العولمة الاقتصادية، وفتح الحدود للتجارة وللهجرة البشرية، وللسياحة وللاتصال الثقافى العابر للقوميات، وعلى الجانب الآخر فإن الدين، خاصة الدين الإسلامى توجد به فوارق فى الرؤى السياسية بين الحضارات المختلفة.
وتصل هذه النظرية بعد ذلك إلى القول بأن العولمة، و ما نتج عنها من شعور بعدم الإحساس بالأمان، سيدفع المسلمين للاصطدام بالشعوب غير المسلمة، ووفقا لهذه النظرية فإن الإسلام يمثل الفكر المحافظ، ويضمر نوايا العنف وهو عدو للعالم غير المسلم!
تقول الدراسة إن الإسلام كما فى الخيال الشعبى، أو فى عقول أصحاب نظرية الفوضى العالمية هو كما جاء وصفه فى رواية جون بوتشان عام 1916 (هو عقيدة قتال) ورجل الدين فى الإسلام مازال يقف على المنبر ويحمل فى إحدى يديه المصحف، وفى اليد الأخرى يحمل السيف،ويرى أن الموت هو طريق المسلمين إلى الجنة.
***
ونظرية الفوضى العالمية هذه تستحق أن نفهمها، لأن كثيرين فى الغرب يؤمنون بها، وهؤلاء يرون أن الإسلام غير قادر على التعايش مع الحضارات والديانات الأخرى فى عصر العولمة، لأن الثقافات والديانات تشتبك فى هذا العصر بشكل غير مسبوق، ويرون أيضا أن (الهوية) إذا قامت على أساس الدين، خاصة الدين الإسلامى،فإنها ستؤدى بدون شك إلى اندلاع الصراعات والنزاعات، ولذلك يرى أبرز المفكرين أن القوى الأيديولوجية سوف تعوق العولمة وستكون هى المصادر الأساسية للنزاعات العنيفة، وهذا ما جعل مفكرا مثل (ليون هادر) يصف الإسلام بأنه الخطر الأخضر.. بل وشبهه بالسرطان الذى ينتشر فى مختلف أرجاء الكون ويشكل تحديا لشرعية القيم الغربية، وقد دفع ذلك كله لإثارة موجة من القلق فى العالم الإسلامى بسبب الهيمنة الغربية، وأدى ذلك إلى معارضة كثير من المسلمين للحضارة الغربية وابتكاراتها الفكرية مثل الديمقراطية، والليبرالية، وهذا ما دفع المستشرق المعروف برنارد لويس إلى القول بأن العلمانية والعولمة تعارضهما موجة من الرفض فى العالم الإسلامى، وهذا ما يؤيده هنتنجتون حين قال: مادامت هناك مناطق فى العالم لا تقبل انتصارا وتفوق الحضارة الغربية، فإن الصراع حتمى وأن مفهوم (الأمة) فى الإسلام يتعارض بشدة مع فكر التفوق والسيادة فى الغرب، وهذا ما يجعل الصراع أمرا لا مفر منه بين الحضارة الإسلامية والعالم الغربى خاصة مع ظهور الحركات الأصولية الإسلامية التى تمثل حركات سياسية واجتماعية وثقافية، وتحاول إحياء الشعائر الإسلامية، وهى-لذلك-خطر كبير على العولمة! وعلاوة على ذلك-كما يرى هنتنجتون-فإن هناك ميلا وغزيرة إسلامية للصراع والعنف، كما هو ظاهر حاليا فى البلاد الإسلامية، مما يمثل مؤشرا على تزايد العنف فى علاقات الإسلام بالحضارات والديانات الأخرى!
وأخيرا يرى روبرت كابلان أن القيم الغربية نابعة من العلمانية، بينما القيم الإسلامية نابعة من الدين والاختلاف قد يؤدى إلى حروب، كما حدث فى أفريقيا وجنوب شرق آسيا، والبلقان.. ويضاف إلى ذلك أن آثار الصراعات القديمة بين الإسلام والغرب مازالت مؤثرة فى الحاضر، كما ظهر فى يوغسلافيا.. وفى النهاية يصل أصحاب هذا الفكر من هنتنجتون إلى برنارد لويس إلى روبرت كابلان إلى أن الغرب سوف يواجه بهجوم إسلامى انطلاقا من الادعاء بأن الإسلام كدين وأيديولوجية يعادى الغرب والعولمة معا، ومن الممكن أن يتوحد العالم الإسلامى فى غضبته ضد العولمة، ويحاول تحقيق حلمه الخاص بتفوق الإسلام، وسيبقى الإسلام حاجزا بين المسلمين وبقية العالم، كما سيبقى عاجزا عن القيام بدور فى المجتمع العالمى، وغير قادر على إفراز نظام حكم جيد.
***
والمشكلة عند أصحاب هذه النظرية أنهم ينطلقون من فكرة واحدة هى أن دور الدين يجب أن يتناقص مع تصاعد العولمة، وقد عبر عن ذلك بوضوح (هارفى كوكس) عام 1965 فى كتاب بعنوان (المدينة العلمانية) قال فيه إنه خلال عقود قليلة سوف يتحقق انهيار الدين إلى الحد الذى يجعل العالم يتحول إلى الإلحاد، وستحدث عملية تحويل للمجتمعات إلى الديمقراطية، والتعددية الثقافية، وتحديث المجتمع، ولكن هذه النظرية لم تثبت صحتها، لأن الدين مازال يمثل قوة اجتماعية وأيديولوجية، وتنتشر الحركات المعارضة للعلمانية فى مختلف أرجاء العالم بين غير المتدينين، كما تنتشر بين المتدينين بما فى ذلك الكنائس الأمريكية التى تحاول إحياء الشعور الدينى.
***
روبرت أليسون، مفكر أمريكى له كتاب بعنوان (اختفاء الهلال) قال فيه: إن الأمريكيين ورثوا عن أوروبا صورة شبح الإسلام كدين نشأ من الطغيان، ويؤيد القمع الدينى والسياسى والجمود الاقتصادى، ويقول: إن الأمريكيين استسلموا لهذه الفكرة ولم يهتموا بالبحث.. هل هى صحيحة أو لا؟.. لأنها فكرة مناسبة لهم سياسيا، وقد استخدم الأمريكيون العالم الإسلامى مرارا وتكرارا كنقطة مرجعية لإظهار تميزهم وقوتهم، ويقول أيضا: إن الأمريكيين فى أثناء الأزمات يبتدعون أفكارا معادية للإسلام، وقد أصبح لديهم احتياطى كبير من النماذج السلبية فى العالم الإسلامى تعمل أجهزة الإعلام على ترسيخها وتثبيتها حتى أصبح لهذه القوالب الفكرية دور كبير فى صنع السياسة الأمريكية نحو الدول العربية والإسلامية، وفى هذا الاحتياطى من الصور والأفكار عن الإسلام لدى أمريكا ما يكفى لإثارة الخوف والشكوك، وترى الصفوة الحاكمة فى أمريكا أن الدين اعتقاد شخصى، وليس تنظيما كاملا لكل نواحى الحياة، كما يراه المسلمون، ولذلك يعتبرون (الظاهرة الإسلامية) ظاهرة مخالفة وغير عادية، وبالتالى يرون أن الإسلام دين مبهم ومتطرف ويمثل تهديدا دائما..
ويفسر ذلك جراهام فولر مدير مجلس المخابرات الأسبق بقوله: نحن شعب غير مؤهل ثقافيا لفهم السياسة الدينية، ولذلك يرى الأمريكيون أن المسلمين أعداء للديمقراطية، ويسعون إلى التوحد (وأن هذه أمتكم أمة واحدة) ويناضلون من أجل تحرير بلادهم، وهذا ما يفسر المخاوف فى ذهن الأمريكيين من (الجهاد) الذى يتحدث عنه المسلمون، وقد حدد المسئولون عن التخطيط الاستراتيجى بعض الدول الإسلامية، وبعض الجماعات فى قائمة الخطر القائم على الولايات المتحدة ومصالحها، وتعتبر أمريكا أن هذه الدول (الرجعية) و(الخارجة على القانون) و(الشريرة) ترعى الإرهاب وتجارة أسلحة الدمار الشامل، وأنها تستعمل لغة الأيدلوجية الإسلامية وتقدم مساعدات إلى المتطرفين الإسلاميين أعداء عملية السلام فى الشرق الأوسط، والنظم العربية الموالية للغرب.. وهذا ما جعل فريق العمل الخاص بالإرهاب والحرب غير التقليدية فى مجلس النواب الأمريكى يعد تقريرا أعلنه فى 19 مارس 1990 وجاء فيه أن المسجد هو الموقع المتقدم للجهاد الذى يبدأ منه المتطرفون (الجهاد) ضد الغرب، ومع أهمية النفط لاقتصاد الغرب فإن الصراع على الشرق الأوسط هو أول مواجهة بين الشكل الجديد للإسلام وبين العالم اليهودى-المسيحى وتنتشر فكرة المواجهة بسبب رفض المتشددين الإسلاميين للنفوذ المتزايد للغرب فى المجتمعات الإسلامية.
والآراء المعارضة للإسلام تلقى رواجا فى أمريكا، مثل رأى عاموس بيرلموتر الذى يردد كثيرون ما قاله من أن طبيعة الإسلام تتعارض مع الديمقراطية، وتحتقر الثقافة السياسية الديمقراطية بأكملها وتتخذ منها موقف العداء، ولذلك فإن الثقافة الإسلامية عدوانية، ومتشددة، وعنيفة تماما مثل الحركات الفاشية والبلشفية، والنازية، ولا يمكن أن تتوافق مع الغرب المسيحى العلمانى، وهذا ما يفرض على الولايات المتحدة وأد هذا الاتجاه فى مهده! وهذا ما عبّر عنه والتر ماكدوجال وأحد مساعدى الرئيس الأسبق نيكسون حين دعا إلى تحالف أمريكا مع روسيا لحماية العالم المسيحى من عدو مشترك هو العالم الإسلامى، وكذلك عبّر عن هذا الاتجاه دانيال بابيس بقوله: إن الإسلام قوة متشددة رجعية مدفوعة بكراهية الفكر السياسى الغربى، ويقول: إننا فى الخط الأمامى لصراع يعود تاريخه إلى مئات السنين، لأننا الذين نقف ضد الذين يريدون إلقاء القيم الغربية فى البحر، كما فعلوا من قبل مع الصليبيين، وأن التحدى للغرب من المسلمين أقوى من التحدى الشيوعى، فالمسلمون يخالفون سياستنا، ويقول بابيس: إن الإسلام ليس الخطر الجديد على الغرب فقط، ولكنه الخطر الجديد على العالم كله، ولذلك-كما يقول-يجب محاربة الإسلاميين وهزيمتهم، ويجب أن يتوقف اليسار الأمريكى عن اللغة اللينة التى يتحدث بها عن المسلمين، لأن (عصر الإسلام) ربما يكون على وشك أن يبدأ من جديد، ويكون الإسلام قد حل محل الأيديولوجيات الراديكالية العلمانية الأخرى، ويصبح بذلك هو الخطر الرئيسى، ولهذا يجب إيقاف المسلمين عند حدهم.
***
وقبل ذلك قال الفيلسوف الفرنسى المعروف ماكسيم رودينسون إن المسيحية الغربية تنظر إلى العالم الإسلامى على أنه خطر أكثر من اعتباره مشكلة، وقبل ذلك ردد هذا الرأى المؤرخ البريطانى الراحل ألبرت حورانى الذى قال: إن الإسلام منذ ظهوره وهو يمثل مشكلة لأوربا، فالأوربيون ينظرون إلى الإسلام بمزيج من الخوف و الدهشة، ولذلك لم يستطيعوا أن يقبلوا محمدا (صلى الله عليه وسلم) على أنه نبى حقيقى، أو يقبلوا بصحة الوحى الذى نزل عليه، ويرون أن الإسلام دين كاذب، وتم نشر الإسلام بالسيف، وكما قال أحد الغزاة الصليبيين فى القرن الثالث عشر: لقد بدأ الإسلام بالسيف، وانتشر بالسيف، وسينتهى بالسيف..
وهذا المعنى عبر عنه البروفيسور ريتشارد بوليت الأستاذ بجامعة كولومبيا فقال: إن الأمريكيين تقبلوا بسرعة فكرة أن الثقافة الإسلامية فيها العنف والتطرف، ولذلك فلا يمكن قبولها أو التعامل معها، وقد يؤدى ذلك التشدد الأمريكى إلى ظهور نوع جديد من معاداة السامية يستند إلى الإسلام بدون دليل أو برهان.
***
عّبر عن هذا المعنى أيضا الرئيس الأسبق ريجان حين قال: إنه يرى احتمالات وقوع حرب دينية إذا عاد المسلمون إلى الفكرة القائلة بأن الطريق إلى الجنة هو الاستشهاد فى محاربة المسيحيين واليهود،ولم يدرك الرئيس ريجان طوال فترة رئاسته أن المسلمين لا يحاربون المسيحيين واليهود، لأنهم مسيحيون ويهود، ولكنهم يحاربون الاحتلال، لأنه احتلال، وليس للاحتلال دين، بدليل أن المسلمين حاربوا احتلال صدام حسين للكويت، ولكن مجموعة التخطيط السياسى فى وزارة الخارجية الأمريكية كشفت أن القضية تكمن فى أن أنصار الجناح المتشدد فى مؤسسة السياسة الخارجية يعملون على رسم خط على الرمال ضد الإسلاميين المتطرفين، وفى نفس الوقت فإن الرئيسين كارتر وريجان هما اللذان قدما المساعدات بالمال والسلاح للجماعات الإسلامية فى أفغانستان عندما كانت أمريكا تريد توظيف مقاومة هذه الجماعات للاتحاد السوفيتى لصالحها، ثم واجه كارتر الصدمة بقيام الثورة الإيرانية،ولم تكن صدمة، لأن سياسة الولايات المتحدة كانت قائمة على اعتبار شاه إيران رجل بوليس لحماية المصالح الأمريكية فى منطقة الخليج، ولذلك كان سقوط الشاه كارثة استراتيجية للولايات المتحدة، وكارثة سياسية لكارتر نفسه، كما قال بريجنسكى نائب مستشار الأمن القومى الأسبق..
ومن بين من عمل فى مجلس الأمن القومى-مثل جارى سيك-من اعترف بأن هناك تحيزا ثقافيا عميقا، وسوء فهم لدى الأمريكيين عن الإسلام، ولدى الأمريكيين شعور بأن هناك تناقضا بين نظامين للقيم والمفاهيم.. تناقض بين الموقف الإسلامى وهو موقف قائم على النظرة الدينية للعالم، وموقف أمريكا والغرب عموما وهو موقف قائم على العلمانية والمصالح، وبالرغم من أن كارتر والخمينى متدينان-كما قال جارى سيك-فإن الفارق بينهما كبير ولا يشتركان فى شىء.. فالخمينى-كما يقول- نموذج بدائى لنبى العصور الوسطى القادم من الصحراء متحمسا للحقيقة المطلقة، ويعبد إلها قاسيا منتقما يدعو أتباعه إلى ثأر العين بالعين، والسن بالسن جزاء لمخالفة أى إنسان للقانون الإلهى، وهذا النموذج الإسلامى يمزقه الحقد على كل من يتجاسر على معارضة نظرته.. وهكذا-كما يقول جارى سيك-فإن التوتر سيظل قائما بين المتدين والعلمانى، وسيؤدى ذلك دائما إلى فشل المسلمين والغربيين فى تفهم مخاوف وأمانى بعضهما البعض، لأن شقة الخلاف لا سبيل إلى تضييقها بين ثقافتين مختلفتين، بحيث تبدو أى محاولة لإيجاد تفاهم بينهما مستحيلة، ويبرر جارى سيك أفكاره بقوله (نحن جميعا أسرى افتراضاتنا ومسلماتنا الثقافية والشخصية)، وهذا ما يجعل الأمريكيين يرون أن فكرة إقامة دولة إسلامية فكرة سخيفة، تتعارض مع التاريخ الحديث وهذا التاريخ نتاج الثقافة والتقاليد فى الغرب، ولذلك فإن صانعى السياسة الأمريكية ليسوا مستعدين للتعامل مع دولة يحكمها الدين ويرون أن ذلك أمر غير محتمل.
ومنذ سقوط شاه إيران انتشر وتعمق فى أمريكا والغرب شعور بالعداء للعالم الإسلامى بأسره، خاصة بعد استيلاء الإيرانيين على السفارة الأمريكية فى طهران واعتبار من فيها أسرى، فكان هذا الحادث بداية استغلها كثيرون لتعميق المخاوف والقلق من الإسلام والمسلمين، واعتبار الإسلام فى ذاته خطرا على المصالح والأهداف الأمريكية..
***
ولكن حدثت نقطة تحول فى عام 1979 بالنسبة للموقف الأمريكى من الإسلام، ففى هذا العام قام الاتحاد السوفيتى بغزو أفغانستان، وعندئذ أجمع صانعو القرار الأمريكيون على أن الصدام الاستراتيجى الذى له الأولوية هو الصدام مع المعسكر الشيوعى، ويمكن تأجيل الصدام والمواجهة مع الإسلام، وكتب الرئيس كارتر فى يومياته: (إن غزو السوفيت لأفغانستان يعتبر أخطر تطور يشهده العالم، ويمكن أن يهدد السلام منذ الحرب العالمية الثانية).. وهذا ما جعل الإدارة الأمريكية تقوم بتعبئة المقاومة الإسلامية ضد السوفييت، وبدأت المخابرات الأمريكية فى قيادة هذه العملية بإثارة المشاعر المعادية للشيوعية، وقررت الاستعانة فى ذلك بمن أسمتهم (رجال الدين الأصوليين) ويقول بريجنسكى عن ذلك: (كانت الولايات المتحدة تعمل على استغلال الإسلام واستخدامه ضد الاتحاد السوفيتى وكانت تحرض القادة الإسلاميين على محاربة القوى الراديكالية العلمانية الكافرة)..
***
وفى عهد ريجان ظهرت عبارات العداء للإسلام والمسلمين على ألسنة المسئولين فى إدارته، وكان وزير الخارجية جورج شولتز يوجه الاتهامات إلى (الإسلام المتطرف)..
وكذلك كان وزير الدفاع كاسبار واينبرجر يتحدث عن التعصب والعداء للغرب عند المسلمين، وفى مناسبات عديدة استخدم ريجان نفسه لغة عدائية فى الحديث عن الإسلام والمسلمين، وعقب انتخابه فى عام 1980 أجرى مقابلة مع مجلة تايم قال فيها: إن المسلمين يعتقدون أنهم إذا لم يقتلوا مسيحيا أو يهوديا فلن يدخلوا الجنة،وفى أعقاب غزو إسرائيل للبنان عام 1982 قدّم ريجان اقتراحا لإِشراك المعتدلين العرب فى عملية السلام بين العرب وإسرائيل وقال: إن ذلك يجب أن يتم قبل أن تضع موجة الأصوليين الإسلاميين المعادين للسلام الحكومات العربية الموالية للغرب فى موقف الدفاع، وعندما أصدر ريجان أمره بقصف ليبيا عام 1986 قال للشعب الأمريكى إنه يضرب البربرية والإرهاب الإسلامى العالمى، وأكد نائب الرئيس دان كويل عام 1990 على وجود صلة مباشرة بين الشيوعية والنازية، والأصولية الإسلامية.
وهكذا لم تكن الجماعات الإسلامية المتطرفة فى أفغانستان موضع رعاية ودعم مباشر من الولايات المتحدة إلى أن رحل الاحتلال السوفيتى من أفغانستان فرأت الولايات المتحدة أنهم مصدر إزعاج وقلق لها ولحلفائها، خاصة بعد أن بدأت الفصائل الأفغانية فى توجيه أسلحتهم ضد بعضهم البعض وضد أهداف عربية وأمريكية،ووجه أصدقاء أمريكا اللوم لها لأنها هى التى وضعت الأساس لشبكة الإرهاب باسم الإسلام.
***
وعندما جاء الرئيس جورج بوش الأب إلى السلطة عام 1989 دارت فى مؤسسة الرئاسة والخارجية مناقشات حول الإسلام، ووصلت المناقشات إلى أن الحركات الإسلامية انتشرت فى أنحاء العالم العربى، وأدى ذلك إلى جعل الإسلام فى مقدمة اهتمامات السياسة الخارجية الأمريكية، ومعرفة ما إذا كان الإسلام يتمشى مع الديمقراطية أم لا؟.. وتزايد قلق المسئولين فى إدارة بوش الأب بعد ما حقق الإسلاميون مكاسب فى الانتخابات فى بعض الدول العربية، وظهور حكومة الجبهة الإسلامية فى السودان، وارتبط فهم أمريكا للإسلاميين بانتهاء الحرب الباردة، والفراغ الاستراتيجى نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتى، وانتهاء حشد أمريكا لقواها لمحاربة (امبراطورية الشر) فى عصر الحرب الباردة، وهكذا بدأ بعض صناع الرأى والقرار فى أمريكا فى التفكير فى أن الإسلام يمكن أن يكون محل الشيوعية كعدو عالمى جديد، وبالتالى فهو الذى يجب أن يكون محور الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة، وهذا ما عبّر عنه وزير الخارجية فى عهد بوش الأب حين قال: إن الأصولية الإسلامية متناقضة مع الغرب، ومع القيم الديمقراطية ومع مبادئ حرية التجارة، والمبادئ والقيم التى تؤمن بها أمريكا ودول الغرب،ولذلك فعلى أمريكا أن تتغاضى عن مسألة الديمقراطية مادامت ستخرج عنها الأصولية الإسلامية، وأن الحسابات الأمنية والاستراتيجية هى التى تدعو إلى شكوك الأمريكيين نحو الإسلاميين، ويبدو أن بعض المسئولين الأمريكيين يعتبرون الإسلام السياسى حركة شعبية ذات جذور تاريخية تشبه الحركات القومية الثورية فى العالم الثالث، وهى الحركات المناوئة لأمريكا، وأمريكا لا تقبل التحديات للنظام العالمى الذى تتولى قيادته، فإن هيبة أمريكا ومصالحها وحلفاءها وسمعتها هى التى تحرك سياساتها.
***
وكان أول بيان أمريكى واضح عن سياسة حكومة بوش الأب من الإسلام فى الخطاب الذى ألقاه مساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأدنى إدوارد ديجيريجيان فى ميريديان هاوس فى واشنطن فى يونيو 1992، و قد هاجم فيه (أولئك الذين يتخذون من العملية الديمقراطية مطية للوصول إلى السلطة لهدم الديمقراطية والانفراد بالسلطة الدكتاتورية بعد ذلك..
وأعلن مساعد وزير الخارجية تفسير خطاب بوش بأن نهاية الحرب الباردة جعلت الدعامتين الرئيسيتين للسياسة الأمريكية هما: حل النزاع العربى الإسرائيلى، والوصول إلى نفط الخليج، و هما على قمة الاهتمامات الأساسية للسياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط لعدة عقود من السنين.. ويضاف إليهما دعامة ثالثة هى مجموعة من القيم الأساسية مثل: تأييد حقوق الإنسان.. والتعددية الحزبية، والمشاركة الواسعة فى الحكم.. ورفض التطرف.. ومحاربة الإرهاب..
وقال نائب وزير الخارجية أيضا: إن إدارة الرئيس بوش الأب لا ترى حتمية المواجهة بين الغرب والإسلام، ولا ترى أن الإسلام يهدد السلام العالمى، وترى أن هذا الفكر مفرط فى السذاجة بالنسبة للواقع المعقد.. وترى الإدارة أيضا رفض القول بأن هناك تصادما بين الإسلام والغرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، وأضاف: (لقد انتهت الحروب الصليبية منذ وقت طويل، والأمريكيون يرون الإسلام قوة حضارية تاريخية من القوى التى أثرت على ثقافتنا وساهمت فى إثرائها).. وقال: إن كان هناك اختلاف بين الأمريكيين وغموض شديد حول الجماعات التى تسعى لإصلاح مجتمعاتها وفقا للقيم الإسلامية، فإنه تجب التفرقة بين الجماعات الإسلامية المعتدلة والجماعات المتطرفة، وقال: إنه يمكن تفسير التطرف الإسلامى على أنه تعبير عن الإحباط، وعدم توافر فرص سياسية واجتماعية ولذلك يجب رفض تفسير هذه الظاهرة الإسلامية على أنها تعبير عن كراهية للغرب نابعة من طبيعة الإسلام ذاته.
***
وعندما جاء الرئيس بيل كلينتون إلى السلطة احتفظ بمساعد وزير الخارجية إدوارد ديجيريجيان مهندس سياسة سلطة الرئيس بوش الأب نحو الإسلام، وأعلن كلينتون أن البعض فى أمريكا يصرون على أن هناك عقبات دينية فى علاقات أمريكا والشرق الأوسط وأنه لا سبيل إلى تخطى هذه العقبات أو تحقيق الوئام بين الجانبين، وهؤلاء يرون أن الصدام بين معتقداتنا وثقافتنا حتمى لا محالة.. وأعتقد أن هؤلاء مخطئون، فأمريكا يجب أن ترفض فكرة حتمية الصدام بين الحضارتين، ويجب أن تحترم الإسلام.
وكان الرئيس بوش الأب قد نجح فى بناء التحالف لتحرير الكويت، واستطاع الرد على النقد الموجه من العرب بأن أمريكا تكيل بمكيالين بين العرب وإسرائيل، وذلك حين ضغط على حكومة الليكود برئاسة إسحق شامير للمشاركة فى مؤتمر السلام فى مدريد عام 1991.. وإيقاف بناء مستوطنات جديدة فى الأراضى الفلسطينية المحتلة.. وبذلك أصبحت للولايات المتحدة الهيمنة فى الشرق الأوسط وتزايد مؤيدو أمريكا فى المنطقة وأصبحوا يتطلعون إليها من أجل الزعامة وتحقيق العدل والسلام فى المنطقة..
واستمر كلينتون فى الاهتمام بعملية السلام بين العرب وإسرائيل، وتأمين النفط وتشجيع الديمقراطية،واقتصاد السوق، وفى فبراير 1993 نظمت الحكومة الأمريكية ندوة لمدة أسبوع فى وزارة الخارجية حول السياسات الإسلامية، حضرها كبار صانعى السياسة، كما حضرها وزير الخارجية وارين كريستوفر ومادلين أولبرايت وكانت مندوبة أمريكا فى الأمم المتحدة وصدر بيان عن نتائج الندوة أعلنه مسئول فى البيت الأبيض قال فيه: (لدينا سياسة نحو الإسلام والنزعة الإسلامية وكل ما فعلته الحكومة هو وضع مجموعة من النقاط للبحث لمعالجة المسألة الإسلامية وشكلت وزارة الخارجية مجموعة من المسئولين لدراسة هذه المسألة، وقد أحاط أعمال هذه المجموعة جو من السرية، ولم ينشر شىء عنها، أو عن نتائج أعمالها).. وبعد ذلك نظمت وزارة الخارجية مؤتمرا دعت إليه عددا كبيرا من المسئولين من مختلف الوكالات والهيئات لتعريف مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية وتوفير المعلومات والقدرات للتعامل بفاعلية مع الإسلام..
***
وتمكن معرفة سياسة إدارة كلينتون من خلال حديث كل من مستشار الأمن القومى فى ذلك الوقت انتونى ليك فى مايو 1994، ومساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأدنى روبرت بلليترو فى نفس الفترة من مايو 1994..
وقال مستشار الأمن القومى: لقد واجه الشرق الأوسط خيارا بين طريقين، طريق يؤدى إلى مستقبل يسيطر فيه المتطرفون على أسلحة الدمار الشامل ويشكلون خطرا على إسرائيل وعلى أصدقاء الولايات المتحدة فى المنطقة، وطريق آخر يؤدى إلى التقدم الديمقراطى، و الرخاء الاقتصادى، والاستقرار والأمن فى المنطقة، فالتقسيم الجوهرى فى الشرق الأوسط يقوم على العنف والقمع والعزلة من ناحية، والسلام والحرية والحوار من ناحية أخرى، والصراع بين الاتجاهين صراع بين الخير والشر، ونحن مع الدول التى لها مواقف مشابهة لنا، وتشاركنا أهدافنا فى السوق الحرة، وتوسيع نطاق الديمقراطية، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل..
وقال الرئيس كلينتون أمام البرلمان الأردنى فى أكتوبر 1994 إن الولايات المتحدة ترى أن هناك صراعا فى الشرق الأوسط بين الطغيان والحرية، بين الرعب والأمن، بين التعصب والتسامح، بين العزلة والانفتاح، وهو صراع قديم قدم الزمان بين الخوف والرخاء.. ورفض كلينتون فكرة صراع الحضارات والديانات، وقال المسئولون فى إدارته: إنه يفسر الإسلام السياسى تفسيرا أكثر تحررا، وإن كان بلليترو قد أعلن أن التركيز على القيم التقليدية فى العالم الإسلامى يتعارض مع الغرب والقيم الغربية، وفى نفس الوقت أعلن كلينتون العكس وقال: إن القيم التقليدية تتمشى مع قيم الغرب، وتتفق القيم الإسلامية مع القيم الأمريكية من حيث التمسك بالدين، وصالح الأعمال، والحرص على الأسرة وعلى المجتمع، وقال: إن شعوبنا يمكن أن تعيش فى انسجام ووئام مع بعضها، وكثيرا ما كان كلينتون يستشهد بالتسامح الذى غرسه النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) فى أتباعه وأنصاره وتأثرت به الشعوب التى تؤمن بأديان أخرى.
وفى خطابه أمام البرلمان الأردنى ركّز كلينتون على أن أمريكا عليها أن تكون الجسر بين النظم الروحية المختلفة ولا تقوم بدور الدولة المحاربة، ويجب تنفيذ استراتيجية لدعم المعتدلين فى المجتمع الإسلامى، وغرس الإيمان بالتعايش والحوار.
وبعد شهور أكد كلينتون من جديد أن الإسلام قوة كبيرة للتسامح والاعتدال فى العالم، وتتمشى فيه النزعة التقليدية مع القيم الغربية، وأن الولايات المتحدة تحمل احتراما للإسلام، وتتمنى التعامل مع المسلمين لحماية الإسلام، وضمان مستقبل أفضل لنا ولهم.
وعندما زار كلينتون إندونيسيا عام 1994 ذهب إلى المسجد الكبير فى العاصمة جاكارتا والقى كلمة قال فيها: (حتى وإن كانت هناك بعض المشاكل مع الإرهاب القادم من الشرق الأوسط، فإن الإرهاب لا يمت إلى الإسلام بصلة).. ولا يمت إلى دين أو ثقافة.
وقال مساعدو كلينتون إنه يرى أن التطرف الإسلامى يتخذ الدين قناعا لإخفاء أهدافه للوصول إلى السلطة السياسية، ولذلك تجب التفرقة بين الإرهاب وبين المفاهيم والمبادئ الإسلامية الحقيقية، وقال مستشار وزارة الخارجية-تيموتى ويرث-فى الكونجرس: (يجب ألا يسبب لنا سوء استخدام هذه الجماعات للغة السياسة الإسلامية أى خلط فى أذهاننا بين الإرهاب والإسلام.. ومشكلتنا ليست مع الإسلام أو المسلمين.. إنما مع العنف والإرهاب من أى شخص بغض النظر عن دينه وقوميته وسلالته..
هكذا كان هناك صوت فى أمريكا يرفض إيجاد صلة بين جرائم بعض المسلمين وبين الإسلام ومبادئه، ويرفض مبدأ المسئولية الجماعية لسائر المسلمين عن جرائم بعضهم.. وقال هؤلاء: يجب ألا نسمح لأعمال أقلية عنيفة من أية ملة بأن تشكل مواقفنا نحو شعوب بأكملها.. وقالوا أيضا: إن الولايات المتحدة تنظر بجدية إلى الدور المشروع للإسلام فى مجتمعات المنطقة بغض النظر عن تلاعب بعض المتطرفين بالمبادئ والقيم الإسلامية، ورفضوا ما يقوله بعض المفكرين من أن الإسلام حل محل الشيوعية فى العداء للغرب.. وقالوا: ليس هناك خلاف بين أمريكا والغرب والإسلام، فنحن نحترم الإسلام كأحد الأديان العظمى فى العالم وكحركة حضارية كبرى..
قالوا ذلك وأكثر منه.. وسمعنا.. وشعرنا.. بالأمان، ولكن الآن انقلبت الأحوال وأصبحنا نقرأ ونسمع أكثر ما يخالف ذلك من المسئولين والمفكرين..
لماذا انقلب الفكر فى دوائر صنع الرأى ودوائر صنع السياسات؟!
هل يكفى القول بأن أحداث 11 سبتمبر هى السبب؟!..
هل يمكن أن يؤدى حادث واحد مهما تكن حجته إلى تغيير كامل فى سياسة دولة عظمى.. تغيير هو فى حقيقته انقلاب.. من النقيض إلى النقيض؟.. هل يمكن أن يحدث ذلك فجأة.. أو أن هناك جذورا وأسبابا وعوامل ساعدت على أن يكون هجوم 11 سبتمبر هو الشرارة التى أشعلت النار التى كانت مختفية تحت الرماد؟!.
وهل هناك قوى لها مصالح فى إشعال الحرب على الإسلام والمسلمين.. والإيقاع بين الغرب والعالم الإسلامى؟!.
هل هذا الافتراض بعيد؟!..
***
ودور إسرائيل فى صناعة العداء للإسلام والمسيحيين فى الغرب يؤكده الكاتب الإسرائيلى حاييم بارعام حين قال: إنه منذ انهيار الاتحاد السوفيتى وسقوط الشيوعية، حاول زعماء إسرائيل حشد الولايات المتحدة وأوربا فى المعركة ضد الأصولية الإسلامية وصوروها على أنها أكبر عدو، وبأن القيمة الاستراتيجية لإسرائيل أنها تقف فى وجه هذا العدو، كما قال الرئيس الإسرائيلى الأسبق هرتزوج أمام البرلمان البولندى فى عام 1992: إن وباء الأصولية الإسلامية ينتشر بسرعة.. وهذا الوباء لا يمثل خطرا على الشعب اليهودى فقط.. بل إنه خطر على البشرية جمعاء.. وقال شمعون بيريس رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإسرائيلى السابق: لقد أصبحت الأصولية الإسلامية الخطر الأعظم فى عصرنا، وأن مساوئ الأصولية أكثر خطرا من النازية والشيوعية. وأن الأصولية الإسلامية تشبه الشيوعية فى إتباعها المبدأ المكيا فيلى بأن الغاية تبرر الوسيلة، وعلّق على هذه الحملة الإسرائيلية الين شيوليفو المسئول السابق بوزارة الخارجية الأمريكية بقوله: إن الحملة المعادية للإسلام فى الولايات المتحدة توحى بأن آراء الزعماء الإسرائيليين يتبناها أنصارهم وآخرون يزداد عددهم، وإن كان المسئولون الأمريكيون ينكرون الدور الإسرائيلى فى صناعة العداء للإسلام والمسلمين فى الغرب عموما وفى أمريكا على وجه الخصوص، وقولهم إن المصالح الأمريكية هى الاعتبار الوحيد فى صناعة السياسة الأمريكية تجاه المسلمين، فإن الواقع يقول: إن اللوبى الإسرائيلى له دور كبير والعداء الأمريكى للمسلمين يرتبط بالمصالح الأمريكية حقا، ويدخل ضمن هذه المصالح العلاقة الخاصة جدا بين أمريكا وإسرائيل، ومعاداة أمريكا لكل من يظهر العداء لإسرائيل، ولو بالإشارة، وهذا ما كان يقصده الرئيس السابق بيل كلينتون حين قال أمام البرلمان الأردنى فى أكتوبر 1994: إن أمريكا سوف تتصدى لقوى الظلام التى تعارض عملية السلام بين العرب وإسرائيل، وكان الانطباع الذى أراد أن يتركه هو أن أمريكا تعادى من يعادى إسرائيل، وتحارب من يقف أمام سياسة فرض السلام فى المنطقة وفقا لمطالب إسرائيل.
***
ولو أن موجة العداء والتهديد بالحرب كانت موجهة إلى الجماعات المتطرفة وحدها لكان ذلك الموقف مفهوما، ولكن فى الغرب من يعمل بدهاء وخبث على أن يمتد العداء وتتسع الحرب لتشمل الإسلام ذاته والمسلمين ذاتهم..
وهذه هى المشكلة.